أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر نثرية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر نثرية. إظهار كافة الرسائل

نوفمبر 09، 2021

أنتِ وحبكِ

 

أنتِ أصل الحكاية، ومنشأ الحياة.. وحُبّك من صنعني، وكوّنَ اسمي، وحَفرَ الذكريات..

حبكِ وهج الشمس الذي اتقد في شراييني.. ومنارة لمحها مركب تاه في بحر الظلمات..

حبكِ هو بيتنا، وسفرنا، والأولاد.. وأنتِ دبيب الأيام قبل تشكلها، بل أنتِ الطفولة والميلاد..

أنتِ ضحكات المساء، والأيام الصعاب.. أنتِ غموض الأساطير، ووضوح صفحة في كتاب.. وشرفة تطل على المدى، وشجرة نامت مطمئنة فوق الهضاب. وخفق جناحي عصفور، وبتلات زهرة، وقمر لاح من خلف السحاب.. أنتِ رحيق الورد، وشهد الرضاب.. أنتِ وحبكِ زرقة الفجر التي بددت كل الضباب..

أنتِ خلودُ الحزن في صمتي، ولحن الفرح في صوتي..

أنتِ عبقٌ فاح من برتقالة، شربته حتى الثمالة.. فلا تسأليني لماذا أُحبك؟




 

يوليو 23، 2020

السيارة التي لم تصل


ربما كانت هذه السيارة تقل ثلة من الجنود في طريقهم إلى الجبهة، فأوقفتهم شجرة، فسألتهم إلى أين أنتم ذاهبون؟ فأجابوا: لنقتل الأعداء. فقالت لهم بصوت فيه رجاء: لمَ لا تعودون إلى بيوتكم؟ فردوا عليها مستغربين: وماذا نفعل هناك، وأين نفرّغ غضبنا إذا انسحبنا؟ وكيف سننتصر إذا تركنا الساحة؟ فقالت بهدوء: خذوا ما على أغصاني من ثمار، وفي طريقكم اشتروا بعض الخبز، وعبوتي حليب، وقطع شوكولاتة، وأطعموا أولادكم.. عودوا وانكحوا زوجاتكم، ولاعبوا أطفالكم، زوروا أمهاتكم المسنات، سيفرحون بكم أكثر من فرحتهم بنصر زائف.
انصاع الجنود لنداء الشجرة، وتركوا سيارتهم وعادوا مشيا على الأقدام، ثم صعدت الشجرة مكانهم، ووقفت تنتظر أي سيارة أخرى، لعلها تحول ميدان الحرب إلى غابة أشجار.
وفي رواية أخرى، أن هذه الساحة كانت في الأساس غابة، وقد تمكن هؤلاء التجار من إزالتها، وتقطيع أشجارها وتحويل أخشابها إلى غرف نوم فارهة، وإلى صحف منافقة وكتب تفيض بالترهات، وظلوا كذلك حتى صارت صحراء مجدبة، بيد أنّ آخر شجرة ألحقت بهم هزيمة، وعطلت سيارتهم، بل وأخذتها منهم، وأجبرتهم على المغادرة مهزومين.
وقيل أيضا إن هذا السيارة كان يقودها رجل خمسيني، ربما كان أب لعائلة صغيرة، لكنه كان في عجلة من أمره، وكان الوقت متأخرا والظلام دامسا، فصدم الشجرة، ثم غلبه النعاس، فنام، في الصباح وجد الشجرة قد احتلت سيارته، لأنها لم تتفهم أسباب الحادث، ورفضت التسامح، فليست كل الأشجار طيبة.
ومن ضمن الحكايات التي نسجها أهل القرية عن تلك السيارة، أنها كانت لشاب عاشق، أخذ حبيبته إلى مكان ناء وبعيد، وبينما كانا يمارسان الحب، أظلت عليهما الشجرة بفيّها، ليناما مطمئنيْن، لكنها ناما ولم يستفيقا، وظلت الشجرة تحرس قصتهما الحزينة.
وقيل أنّ سائقها كان مندوب مبيعات فقير (آخرون قالوا إنه صاحبها وكان تاجرا ثريا) المهم أن مجموعة من الأشرار اعترضوا السيارة، وقتلوا سائقها، وسلبوا ما فيها من بضائع وقصص وأسرار وأحلام، وولوا هاربين، وجاءت هذه الشجرة شاهدة على الجريمة.

بعض الرواة زعموا أن السيارة كانت لشاب شديد الطموح، ركنها في ساحة بعيدة خشية من السراق، وسافر، غاب سنوات، ولما عاد وجد تلك الشجرة قد نمت من داخلها، رجاها أن تغادر، لكنها رفضت، أو ربما عجزت عن المغادرة.. 
لا أحد يعلم على وجه اليقين قصة تلك السيارة.. ومن صاحبها، وإلى أين كان متجها، وكيف غرست شجرة جذورها مكان السائق.. لكن الأكيد أن السيارة معطلة، لم تعد تصلح لإيصال أحد إلى أي مكان.


يونيو 18، 2020

شجرة


خلعت الشجرة آخر أوراقها، وبدت عارية تماما، تقف وحيدة في ظل غيمة، فيما ينهمل على ذراعيها الممدودتين وابل ناعم وسخي من حبات المطر، والريح تراقص أغصانها النحيلة، لا أعلم إذا كانت ترتجف بردا، أم ترقص فرحا؛ فبعد أشهر قليلة، سيحل الربيع، وسترتدي أوراقها من جديد، وتستحم بدفء الشمس، وستسمح للفراشات أن تمارس الحب فوق بتلاتها الناعمة، وللنحل أن يلقح ميسمها بحبوب طلع جلبها من شجرة مجاورة أحبتها، وانتظرت لقاءها طوال الشتاء.. ستحبل بحبها أسبوعين، وستنجب منها أزهارا بيضاء ووردية، وبعد فطامها ستغدو ثمارا نضرة.. سيقطفها عاشقان مرا مصادفة من هناك، سيأكلانها بشهية، ثم يلقيان بذرتها في حقلٍ قريب، وهناك، ستكبر البذرة، وتصير شجرة تحن لأمها.. وستعيد دورة الحب من جديد.. 

ديسمبر 10، 2017

بوح واعترافات شخصية


لطالما اعتبرتُ شقيقي "محمد" (يكبرني بعامين وشهرين)، ملهمي الأول: كان ذكيا وطموحا، وكنت أقلده دوما؛ ينشغل بجمع الطوابع، فأوهم نفسي أن هوايتي أيضا هي جمع الطوابع، ينشغل بالقراءة، فأقرأ ما يقرأ، يشترك في مسابقات المطالعة التي تنظمها وزارة التربية، فأسير على خطاه.. وكان هذا مدخلي لعالم القراءة والكتب منذ وقت مبكر..

كانت مجلات الرسوم المصورة أول ما قرأت (سوبرمان، والرجل الوطواط..)، ثم انتقلت إلى قصص المغامرين الخمسة، ثم إلى عالم الشياطين ال13، فقصص أرسين لوبين، وصولا إلى الكتب الدينية والسير الذاتية للمشاهير..

أبريل 17، 2016

50 سـنة مضت


في الغد، سأنهي العقد الخامس من عمري، ولأول مرة، سأختبر إحساس "رجل في الخمسينات" .. يا إلهي، يبدو لي الأمر مرعبا على نحو ما .. غدا تماماً، سأفتح سيل الأسئلة المؤجلة دفعة واحدة، سأجعلها تغمرني كليا .. لا بأس، فقد انتظرتْ بما فيه الكفاية، وآن لها أن تقلع من جاذبية الخوف، وأن تتحرر من سطوة التابو، وأن تنهمر مدرارة كالمطر ..

عبر هذه الرحلة التي قد تبدو طويلة جدا، لكنها قصيرة لدرجة مثيرة للشفقة، كان العمر يمضي بي، مسرعاً، يحملني يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى حتى أصل إلى المستقبل؛ المستقبل الذي ظل يركض أمامي، وأنا ألحق به، وكنتُ كلما أمسكت به لبرهة، أفلتَ مني على الفور، لأركض خلفه من جديد .. عشت حياتي هكذا، كما لو أنها معضلة، استنزفت كل طاقاتي لحلها ..

نوفمبر 15، 2015

ذات يوم، كنا صغارا


مثل زهرة أحادية المسكن، لقّحَتها رياح الوجد فأنتجت حقلاً من الأزهار؛ من أبوين يافعين جمعهما الحب، وحملتهما السنون على أكف التعب، هناك في بيتٍ صغير، في أول شارع العمر، عند مدخل الطفولة، وُلِـدنا جميعاً .. فضاؤنا الرحب كان من غرفتين وحسب، أمامهما فناء واسع، يضم شجرة توت باسقة، ملحق به بستان صغير، تتوسطه شجرة جوز ضخمة، كان ذلك في سنوات الخمسينات والستينات، في زمن عبد الناصر وأم كلثوم؛ زمن البساطة والقناعة والأحلام الثورية ..

في تلك القرية المسيحية الطيبة، التي احتضنت بِـحُبٍ أفواجاً من اللاجئين الباحثين عن أمل، وأسكنت في بيوتها عشرات العمّال، ممن سيفنون أعمارهم في مصنع "الإسمنت" المجاور، هناك نشأنا، وحبـوْنا، في شوارعها وأزقتها اختبرنا أولى مغامرات الحياة، وفي الروضة الملحقة بالكنيسة تعلمنا تهجئة الحروف ..

نوفمبر 11، 2015

إليك حبيبتي .. إليك وحدك

إليك حبيبتي .. في عيد ميلادك ..
يا قامة الريحان وذاكرة اللون على جناحي فراشة، 
في مثل هذا اليوم من كل عام، تطلّين عليَّ من شبابيك العمر كأنك غدير أهدته السماء للبيداء، في كل مرة تتألقين كنجمة بزغت من خلف غيوم داكنة، مثل ضحكة انفجرت وسط ضجيج الكلمات، تبدين أكثر شباباً ونضارة، تقدحين قلبي بحجرٍ من أرجوان، فيبرق الأفق ويسطع المدى، ليمحق ضوءه الضباب، ويبدد أمامنا العتمة. 
نحمل حلمنا الطازج، ونعرّجُ معاُ على شاطئ الحب، نلقي التحية للبحر، ونخبّـئ في جوفه سراً جديدا .. ثم نمضي مع الغمام الواعد لنفتتح عاما آخر .. لنذوب في عروق الورد ..
يا عشقي المتجدد كل صباح، مثل حبة ندى تُدثّــرُ في تجويفها دفء الشمس وغموض القمر .. يا حقلا من حبقٍ وياسمين، تمددَّ على كفّ الجبل، ويا موجةً ساقها نسيمُ البحر، لترسو على خليج الروح، يا وعدا حملته حمامة وطارت به خلف السياج البعيد، لتحط في قلبي المرتجف بالحنين ..
في كل عام نسقي الوعد بماء الوجد والشوق، 
لأظل أنا العاشق .. وأنت كل الحب .. 
وأنت الخلود ..
كل عام وأنتِ حبيبتي ..

نوفمبر 06، 2015

الوحدة


وقف يرقبُ العنكبوت الرمادي الذي دخل منزله قبل يومين، واتخذ من الزاوية العلوية لغرفته مسكنا لأحلامه، منذ ساعات وهو معلق على خيطٍ واهنٍ من الأمل، أربعة أرجل تتشبث بقوة على طرف الشبكة، تقابلها أربع أخرى تنتظر أي فريسة سيقودها حظها العاثر لتصطدم في مجال الاحتمالات التي بناها هذا العنكبوت بصبر وثبات .. مضت ساعات أخرى والعنكبوت ما زال واقفا مكانه دون أي حركة .. أي عيشةٍ هذه ليس فيها سوى الانتظار ! كيف لا يتسرب الملل إلى قلب هذا الكائن الممل ؟!  

نظر في المرآة، فوجد نفسه يشبه ذلك العنكبوت في أشياء كثيرة؛ فهو يمضي أيامه في الانتظار، معلقا على سلك هاتف لا يرن، يذرع المسافة الواصلة بين جدارين؛ واحدٌ من "خوف" يطل على نهايته، وآخر من "حنين" يشدّه إلى ماضٍ يحاول الا ينساه .. ولكنه كان يتحايل على الوحدة، ويتفنن بقهر أشواقه؛ كلما داهمته هواجسه يصدم جبهته بالباب الزجاجي، ثم يصرخ: ألم أقل لها مائة مرة أن لا تنظف الزجاج إلى هذه الدرجة ! وإذا خاف على ذاكرته أن تتسلل من تحت الباب، يعرّي سلكي الكهرباء عند مفتاح الجرس، لتأتي الريح فتجعلهما يؤديان رقصة العناق، يسمع صوته مثل موسيقى، فيهرع بشغفٍ نحو الباب، ليجد اللاشيء في انتظاره، فيصرخ: ألم أطلب منهم قبل شهرين إصلاح هذا الجرس اللعين ؟

يصعد إلى "السطوح"، ويختار اللحظات التي يخنقها السكون .. فيصرخ بأعلى صوته، ينتظر رجع الصدى، ثم يعوي مثل ذئب تاه عن قطيعه، ثم يقهقه شامتاً: لقد لقّنتُ الصمتَ درساً لن ينساه ..

يظل يمشي طوال النهار حافيا، عند أول المساء يستغل العتمة فيصدم طرف إصبعه الصغير بحافة السرير، ليحسَّ بالألم، الألم يذكره بوجوده، يشغله لبعض الوقت .. يتضايق ويشتُم السرير، ينتظر نصف ساعة أخرى، إلى أن تسري في عروقه نبضات لذيذة غامضة حين تبدأ موجات ألمه بالخفوت، ومغادرة جسده على مهل .. منتشيا ينام .. بعد أن وجّه للنسيان صفعة مدوية على خده ..

في الصباح، يصحو بتكاسل، يمط يديه إلى خلف ظهره، فيرى وجهه في المرآة، يقول له: صباح الخير، فيبادله الوجه بنفس الابتسامة المصطنعة .. دون أن ينطق بحرف .. يمضي إلى عنكبوته، فيجده معلقا مكانه، وقد استبدل أرجله اليمنى التي تحمله باليسرى التي تنتظر زائره الموعود .. يشتمه بإشفاق .. إنزل أيها الوغد، تعال لنحتسي قهوتنا معاً ..

هكذا عاش "أبو الياس" سنواته الأخيرة ..


أكتوبر 29، 2015

بسيمة .. كنعانية، في موسم الزيتون

"بورين"، قرية فلسطينية نمطية، بيوت قديمة تعود لأيام الأتراك، وتضم بين جدرانها ذكريات أليمة من ذاك الزمن الغابر، أزقة ضيقة وسلاسل حجرية وعيون ماءٍ جارية، وبعض الآثار المتبقية من العصر الروماني، تقبع على جبل يتوسط المسافة بين النهر والبحر، وتطل على منظر طبيعي خلاب، حيث بساتين اللوز والزيتون، وحقول الحنطة التي تمشطها نسمات الصيف العليلة، في سهلها الفسيح، ترى تدرجا ساحرا لمشتقات الأخضر على مدار الفصول، ومع بدء الربيع يزهر نوار اللوز بالأبيض والزهري، فيضفي بهجة على المكان، وتتفجر الأرض جمالا عبقريا مذهلا، ظل مختبئاً من برد الشتاء، وينتظر دفء الشمس ليخرج من مكمنه، مع قطعان من الغزلان وأسراب من الحبارى والحجل، أزهار السوسن والأقحوان وشقائق النعمان تنثر ألوانها بعبث وخيلاء، يفوح من الأرض عبق التراب وقد بلله الندى، فتعطر الجوَّ بروائحُ البابونج والميرمية والزعتر، ونسمات محملة بشذى الصنوبر والريحان، في الصباح تشتمّ روائح الطابون والخبز، وترى الأهالي في طريقهم ليشذبوا أطراف الزيتون، ويخلعوا العشب النامي تحت الشجر، وفي المساء عطر الياسمين المتناثر على مداخل البيوت، وفي العصارى يجلس الرجال في الساحة والنسوة على مداخل البيوت والجميع يراقبون الذاهب والآتي ويغتابون بعضهم ويحكون الحكايات، بعض الصبايا يحملن على رؤوسهن جرار الماء من عين البلد، وأطفال يتراكضون، وشباب يلعبون الورق في مقهى القرية الوحيد.

بعض الأشخاص تركوا بصمة في ذاكرة بورين الشعبية، وقصصا يحكيها الناس في أمسياتهم، من بين هؤلاء "بسـيمة": عجوز تجاوزت الثمانين، ترك الزمان على وجهها تجاعيد وخطوط لو تأملتها لأدركت كم كانت جميلة في صباها، وقد وُلدت بسـيمة صمّاء بكماء؛ فلم تسمع طوال حياتها كلمة واحدة تؤسس من خلالها ذاكرة في عقلها الباطن، ولم تنبس ببنت شفة ليتذكرها الناس من بعدها، ومع هذا فقد كانت تعي وتدرك كل شيء، وتعرف أخبار البلد وأحوال الناس قبل غيرها.

أغسطس 10، 2015

هلوسات


تلك الأنثى الساحرة، ليست غريبة عن ذاكرتي، كنت متأكدا أنني رأيتها في باريس، حاولت أن أتذكر أين رأيتها بالضبط، في الطابق الثاني لبرج "إيفل"؟ أم في كفتيريا متحف "اللوفر"؟ أم في المقهى الجزائري في جادة "الشانزليزيه"؟ أخيرا تذكرت إني لم أزر فرنسا في حياتي.

تمددت على سريري يغالبني النعاس، تأملت لوحة "ولادة فينوس" لِ"بوتيتشيلي" المثبتة على الجدار المقابل؛ فرأيت إمرأة كاملة تخرج من البحر وتجلس على إطار اللوحة، وتمد ساقيها الناعمتين، وتهمس لي بابتسامة فاتنة ... فأفقت من الحلم ..

سمعت صوت المطر الناعم ينهمر على الشباك، فتحته لأدع نسمات الغرب الباردة الطرية تداعب جبهتي؛ فوجدت الريح ساكنة، والسماء زرقاء غامقة، والجو شديد الحرارة .. وأننا في شهر آب ..

فركتُ عيني بباطن يدي، لأتأكد أني مستيقظ، ثمة موسيقى كلاسيكية تنبعث من داخل الدرج الأول لمكتبي، أصغيت لها مأخوذا بسحر "موزارت" .. فتحت الدرج، لم أجد سوى دفترها القديم الذي أهدتني إياه قبل سنوات بعيدة ..

هل هي نوبة أخرى من الهلوسة ؟! فتحتُ الثلاجة لأتأكد أن قنينة النبيذ مغلقة، وأني لم أسرف في الشرب ليلة أمس، لم أعثر بداخلها ولا في كل المنزل على أي أثر لأي مشروب كحولي، حتى المنافض كانت نظيفة من أثر السجائر !! لكن رائحة العطر ما زالت تعبق وتملأ المكان، تبعتها، لأتبين مصدرها، جرتني إلى الخزانة، فتحتها بحثا عن أي زجاجة عطر، لم أجد سوى فستانها الأسود ..

تلك هي حالتي الدائمة، كلما رأيتها، وكلما غابت ..


يونيو 03، 2015

عقدين من الحب



في ذلك اليوم الحزيراني النديّ، قبل عشرين عامًا، كُنّا على موعدٍ خاص مع الفرح، في يوم سيحيل حياتينا لسحابة ذكريات، وحكايات عشقٍ وأغنيات ... جئنا بلا موعد، والتقينا صدفة على جسر من الأمل المُمدد فوق كومة يأس ...
توّجتني ذلك اليوم على عرشها، فأهدتني قناديلها وضحكاتها ... سكنَتْ شراييني وخبّأتُها في خوابي القلب، ولم أفرّط يومًا بسرها ...
شهرُ حزيران الذي تنزَّل فيه العشق من السماوات العُلى ... شهيًّا مثل أول الصباح ... طريّاً كحبة خوخ ... هادراً مثل صوت الحياة ... فمن شهد منكم الشهرَ فليحصد حنطته... وليعشق كما عشقْت ... أو يذُبْ أسىً كدمع الشموع...

مايو 18، 2015

رسالة إلى الله


يا ألله .. أعلم يقيناً أنك تراقب الوضع عن كثب، ولا تخفى عليك خافية .. ومع ذلك سأناجيك من جوف هذي العتمة .. سأبوح لك بكل شيء .. أنا مثل كثيرٍ من خلقِك في هذه البقعة الدامية .. لم أعد أعرف أسماء الجهات المتقاتلة، لكثرتها وتشابه أسمائها، ولم يعد يهمّني أن أعرف من سينتصر، ومن سيُهزم .. ومن الذي يمثلّك شخصيا، ومن يدّعي ذلك .. كنتُ أخاف على زوجتي أن يأخذوها سبيّة، ولكن بعد أن دفنتها بيدي، لم يعد هناك ما أخشى عليه، كنت أتطلع بقلق كبير (وأمل صغير) نحو المستقبل، ولكن بعد أن قُتل أبنائي الثلاثة لم أعد أرَ أي مستقبل ..

لم يتبقّى لي أي خيار، جربتُ الجهات الأربعة .. دون جدوى؛ سرتُ شرقاً فوجدت الصحراء بقيظها ورمالها وظمئها. ثم غرباً، نحو البحر فألفيته يتهيأ لابتلاعي. يمّمتُ جنوباً، صوب المدينة؛ فإذا بها تأكل بعضها بلا رحمة. فنزحتُ إلى الشمال القريب، حيث مخيمات اللجوء التي تئن تحت وطأة البرد والذل، ثم إلى الشمال البعيد، حيث المنافي، والتيه في دروب الغربة .. وبقي لدي اتجاهان: أن أغوص تحت هذا التراب، لأبرهن لأصحاب الشعارات الكبيرة على "صمودي الأسطوري" .. أو نحو الأعلى .. أي نحوك مباشرة، فليس لي سوى رحمتك، أو أن تأخذني إليك وتعجِّل في خلاصي ..

التواقيع: مواطن سوري نازح من الرقة إلى حلب، مواطن عراقي هارب من الرمادي إلى ديالى، لاجئ فلسطيني من مخيم اليرموك، مواطن يماني من صعدة، مواطن طرابلسي يقطن في بنغازي منذ الربيع العربي، لاجيء فلسطيني مقيم في خان يونس منذ 67 عاما.

ملاحظة: الأسماء الحقيقية محفوظة لدي.




مايو 17، 2015

رقص منفرد

هل جرّبت أن ترقص في شارع مزدحم، شارع ليس فيه من يسخر منك، أو يرميك بنظرة إزدراء، أو شفقة، أو حتى يراك .. ترقص لوحدك، الموسيقى تصدح في رأسك، ثم تسري في عروقك، فتهتز أطرافك بتناغم مع روحك المتعطشة والقلقلة، ويبدأ قلبك بالخفقان بأعلى سرعة، وأجمل إيقاع .. ثم تنسى نفسك تماماً، تتماوج مع الريح، غير آبه بعاصفةٍ قد تنشب من حولك، تواصل الرقص بجنون أكثر، تُـحرِّر طاقتك الحبيسة، وتطلِق كل مكنوناتك، تفجِّر سرَّك الداخلي، فتنسلُّ أحزانك عبر أقدامك وهي تطرق الأرض بنعومة، ثم يتسرب عتبك على الدنيا عبر ذراعيك المصوبة نحو السماء .. ثم فجأة، يراك أحد المارة، فينزع ربطة عنقه ويعانقك، ثم يأتي آخر فيخلع جاكيته الرمادي، وينفجر ضاحكا، ثم تأتي سيدة أنيقة، وترمي حذاءها ذو الكعب العالي، وتلامس الرصيف بأخمصها الطري، ثم ينضم الشارع بأكمله إلى جوقة الرقص، فتنتقل العدوى إلى الشارع المجاور .. المدينة بأكملها ترقص .. إلى أن ينال منها التعب .. ثم تفتح عينيك فإذا بالمدينة كلها تلوذ بالصمت، وتغوص في نوم عميق، ربما أنهكها التعب، لكن روحها تنعم بالسلام ..

مايو 12، 2015

لي أختٌ أحـبّها


لي شقيقات أربع، معهن أرتقي لمنزلة الأخ، وأحترفُ العشق، وأذوبُ في لجّة الحنين، أُحلِّقُ مع أطيافهِن الشفيفة كمن يدخل حقل غيوم، ولا يعرف أي غيمة ستمطر .. معهن أغرقُ في محيط الكلمات، حائرا لا يتضح لي الفرق بين نجمة الشمال وريح الجنوب، بين الصوت والصدى ..

سأبدأ بهيام؛ شقيقة الروح .. أراها مثل ريمٍ أتى الغدير ليرتوي، مثل معزوفة حالمة تقطر بالشجن، مثل حبيبات الندى وهي تشرب ضوء الصباح على مهل ...

كنا صغارا .. لكنها كبرتْ أسرع منا، صارت أختا وأمّاً وصديقة .. كانت حارستي في سنتي المدرسية الأخيرة، في كل ليلة أقول لها: "هيّوم بكره عندي امتحان، صحّيني الساعة 4"، لا تحتاج إلى منبّه، يكفيها نبض قلبها، عند الرابعة فجراً تأتي ومعها كوب من الشاي، وبيدها الرقيقة توقظني، فأفتح نصف عين، وأطلب منها أن تعود بعد نصف ساعة، فتأتي بعد نصف ساعة وبيدها كوب آخر.

أبريل 28، 2015

توفيق

لا أحد يعلم على وجه اليقين عن ماذا يبحث توفيق، منذ عشرين سنة أو أكثر، وهو يذرع يومياً المسافة بين دير عمار ورام الله، عشرين ميلا في الذهاب ومثلها في الإياب، غير عابئٍ بشمس الصيف الحارقة، ولا بأمطار الشتاء .. يصل رام الله قبيل الظهر، يشتري نسخة من جريدة الأيام، ثم يعود .. بعد أن ينال منه التعب يؤشر للسيارات، ينظرون إليه باستغراب وعدم اكتراث، ونادرا ما يقله أحدهم ليختصر عليه بضعة أميال، ثم يتركه يمضي غارقا في صمته ..
قيل أنه انزوى على نفسه بعد هزيمته في قصة حب عنيفة، وقيل أن ذاكرته تشوشت بعد تعرضه للتعذيب، قديما قيل عنه الكثير، اليوم لا أحد يلتفت إليه .. سألته ذات مرة: إلى أين أنت ذاهب ؟ وعن ماذا تبحث ؟؟ أجاب بكلمات مقتضبة .. مستعجل، عندي دوام ..
يشاهده المارة يوميا يجلس على قارعة الطريق، يستريح من تعب المسير، ويطالع الجريدة .. هل ينتظر خبرا معينا ؟! أم يبحث عن صورة لحبيبته لعل الجريدة تنشرها عن طريق الخطأ ؟! أم تراه يسخر من شعارات السياسيين ووعودهم ؟! ربما يسخر من الدنيا بأسرها، وربما يتألم منها، ولا يجد من يسمع أنينه ..


أبريل 26، 2015

48 سنة


اليوم أُكملُ عامي الثامن والأربعون، أقف من على هذا الشاهق الزمني فأرى خريطة سنواتي الفائتة مفرودة أمامي بأمكنتها وشخوصها وأحداثها، أتذكر كل من مرَّ بها زائراً أو عابرا، مقيما أو راحلاً، أتذكر من استشهدوا، ومن غيّبهم الموت، ومن حرمتهم السجون أحلى سنين عمرهم، وما زالوا خلف القضبان، ومن يشربون برد الغربة في المنافي البعيدة، ومن ضاعوا في عوالم النسيان، ومن سكنوا على ضفاف الروح إلى الأبد ..

أتذكرهم وأنا أستمع لأغنية "وردة" آآه لو أقدر أقول يا زماني .. إرجع بيَّ سنينك تاني .. ولكن، لو عاد بي الزمان، ماذا عساي سأفعل؟! على الأرجح سأعيش حياتي كما عشتها تماماً، سأسلك نفس الدروب، وسأحب كل من أحببتهم، وسأحزن على كل من فارقتهم .. ربما أغير قليلا في المواقيت وبعض الاختيارات .. المهم أني لست نادماً على شيء ..

في هذا العمر، أتساءل: إلى أي مدى اقتربتُ من إدراك معنى الحياة، وقيمتها !؟ وكم اقتربتُ من حل لغز الكون الأعظم ؟ وكم سبرتُ في أغواري ؟ وماذا فهمتُ منها !؟ عند هذا المفصل، أشاهد عن كثب أهدافي التي تحققت، وتلك التي تعثرت، وأحلامي التي بعثرها الزمان، وخيباتي الصغيرة والكبيرة، ومخاوفي التي صارت مجرد ذكرى .. ولكن ليس في قلبي جروحا ولا ندوب ..

مارس 16، 2015

حديث مباشر مع الله


يا إله العالمين .. اسمح لي أن أناجيك مباشرة، دون وسطاء، وأن أخاطبك دون مقدمات، وبلا ألقاب، بكلمات بسيطة تخلو من عبارات السجع، وبلاغة الألفاظ ..

إلهنا الذي في السماوات .. تبارك اسمك ..

هناك من يزعمون أنهم شعبك المختار، وأنك خلقتنا لخدمتهم؛ قل لهم بصوتك العالي أنك لم تختر شعبا بعينه، ولم تفضل طائفة على أخرى .. وهناك من يزعمون أنهم ظلّك؛ قل لهم أنَّ لا ظل إلا ظلك، وأن ظلك هو الرحمة .. وهناك من يزعمون أنهم نوّابك في الأرض؛ قل لهم أنك لم توظِّف أي مندوب لك، ولا نائب عنك، ولا متحدث رسمي باسمك ..

هناك من يريدون اختطاف اسمك، واحتكارك، وحجبك عن بقية خلقك، قل لهم أنك رب الأكوان العظيم، الذي وسعت رحمته كل شيء ..

هناك من يقتل إماءك وعبيدك ليظفر بحورك العين .. وهناك من ينشر الخراب والتدمير ليحظى بجنتك، قل لهم أنك العدل الحق، وأن جنتك للصالحين الطيبين ..

هناك من يسعى لإرهابنا بك، وتخويفنا منك، وتصويرك على أنك إله الحرب والبطش والانتقام، متناسين ان اسمك السلام، وأنك العفو الغفور الرحيم ..

يا إله الفقراء .. يا رب المشردين والجوعى والمظلومين والأمهات الثكالى ..

مارس 13، 2015

إلى أبي .. مع الشوق


في البرزخ الممتد بين البداية والنهاية، كان أبي .. هو ككل الآباء، لكنه لا يشبه أيّاً منهم .. صغيرا حملته العصافير بين الحقول، جميلا مثلها، ثم يافعا، يشق كوّة في جدار الصعاب، فشابّاً يمضي نحو حلمه محلّقاً مثل صقر، ثم كهلا أنضجته السنون أنيناً أنينا، على مهل، ثم شيخا يطير إلى مدارج النور، خفيفا مثل فراشة ..

مضى على رحيله سنوات عديدة، ولو أن للحنين صوتا لنادى عليه ليبوح له، ولو أن للوجع لونا لصبغتُ به الآفاق، ولو كان الشوق حصانا لأطلقته في السهول ليواصل صهيله حتى آخر المدى ..

كانت "بيت نبالا" عشقه الكبير، وأرض أحلامه المشتهاة، لم تغب عن باله يوما، كانت ضيفة مقيمة في كل قصصه، يزج بها بين كل سطرين، ويردد لحنها مع كل أغنية، بعد نصف قرن من فراقها، رسمها دون أن ينسى بيتا واحدا، أو ظِلاً لسور، ظلت خبز ذاكرته، ونار هواجسه، تطارده في منامه، وتنسل بين أصابع أمنياته .. من أجل عينيها امتشق السلاح، وفي سبيلها شرّع صدره في مهب الريح.

فبراير 13، 2015

في ضيافة القمر


غداً، سنحلُّ ضيفين عزيزين على عيد الحب، كعادته سيرحّب بنا، لكنا سنتفاجأ من رتابته، ومن عباراته المكررة، أما هو فسيتعجب من جنوننا، وكيف ظل الشغف متقدا فينا إلى هذا الحد .. وسيطلب منا أن نعيد عليه الحكاية ..

سأقول له بما يشبه الاعتراف: كانت حبيبتي مخبأة في إحدى زوايا الكون، مثل كنز مدفون في قاع بحر ما، أو كنجمةٍ بعيدة في سماء شفيفة .. أما أنا فكنتُ واقفاً كسروة تترنح بفعل الريح، أواصلُ حزني وضياعي، متروكاً بين أوراق الشجر، وآثار عجلات سيارة مرّت مسرعة، أتدثر بعباءة من فراغ في أرضٍ نسيها الشتاء منذ عشرين عاما، انتظرتها طويلا، بلا كلل، أمشي بصحبة الليل نحو صبحٍ لا نعرفه، لكنا نتوقع شكله .. حتى جاءت ذات صيف، مثل دفء تدفّق من شمس الظهيرة، لم تكن لي أي فرصة لأنجو من الحب، كانت مثل موسيقى تصدح بها قيثارة، ونهر يوشك أن يفيض، جاءت تفرد يديها كجناحين محلّقين في فضاء مفتوح، وترشقني بموجات دافئة، فهبطتُ في عشها خاضعا بلا حراك، صرتُ أتحول شيئا فشيئا إلى حقل من الحنّون، ثم غابة سنديان، حتى صرتُ جزيرة ملئى بالفراشات.

كانت تعقدُ مع الغيوم صفقات مريبة؛ يتبادلا الأدوار، تصير الغيمة إمرأة فاتنة، يصلّي لها الناس كي تهطل عليهم، وتصير هي غيمة، فتأتي ريحٌ وتحملها نحو البعيد، فلا المطر ينزل، ولا الغيمة تعود، كان ذلك أسلوبها في التمنّع، وكان هذا دأبي الوصول إلى قلبها ..

كانت مثل حلم ناعم .. وكنتُ أنا مسربلاً بالخوف، بين النجاة والغرق، أفيقُ كلما مرت بأصابعها على عنقي، ثم أُصابُ بالدوار، أغوص في غيبوبة لذيذة، فلا أعلم في أي زمن نعيش .. كانت هذه عاداتنا في الحب ..

هي رحيق الندى في حقلي، وطعم الشهد في روحي .. غيابها موتي المؤقت، ولقاؤها انبعاث الحياة في الربيع .. عيناها تشعان أملا، تقتبسان لون الماء وقت الغروب، وصوتها أغنيات المساء، وعطرها نسيم أكاليل الجبل ..

هي ذوبان الضوء في البلور، وضحكة البيدر في موسم الحصاد، وتحرش البدر بالساهرين، هي هذياني وحكمتي الأثيرة، هي دهشة أسئلتي ويقين الجواب، هي قوس الفرح تحيطني بالحب، وأحيطها بالعشق .. هي خلود ..


ديسمبر 17، 2014

صباح الخير يمّا


ذات يوم بعيد، كنّا أطفالا؛ أطفالاً عاديين .. في ذاك الزمن - غير العادي – كان الفقر يحوم بين البيوت، والبرد يطوّق المدن، وينسل من الشبابيك، وذكريات اللجوء تُحفِّز الهواجس لما تخبؤه قادم الأيام .. وكانت لنا أم رؤوم، ربما كانت كسائر الأمهات؛ إلا أنها وحدها كانت تعني لنا كل شيء ..

هي اسم لكل الأسماء الجميلة .. قبلها كان المكان يلوذ بالصمت، والهواء بدون عبق، والريح لا هي باردة ولا هي دافئة، والليل بلا مذاق ..  ثم أتت؛ فصار لكل شيءٍ شكلاً آخر مختلف.

وُلِدتْ في البلاد، في زمنٍ كانت تتهيأ فيه للأحزان والنكبة، جاءت من قصيدة  ملحَّنة، من أرضٍ مخضبةٍ بالأشواق، هناك تفتحت براعمها وأينعتْ، ثم انطلقتْ في رحلتها الممتدة في جروح المنفى، وبين تعاريج المدينة، وفي أزقة المخيم .. حتى اكتمال المعنى، وانصهار الروح بعد نضوج الألم ..

غادرتْ بيتها العتيق؛ بيْد أنه لم يغادرها، في الأماسي المقمرة، كانت تستحضره بكل بهائه وبساطته، ثم تستحضر القرية بروائحها، ومواقع بيوتها، وأسماء الأقارب، وصفّاً من الراحلين، والمقيمين في أقاصي الذاكرة، تجلبهم طائعين إلى عتبة الدار .. بل وتأتي بالوطن كاملاً إلى سهرة المساء، تعيد ترتيب الحكايات والأمثال، ووصف البيدر، ومواسم الزيتون .. لا لشيء، سوى رغبتها في إبقائه حياً في قلوبنا؛ أو لأنها كانت مصابة بداء الحنين المزمن ..

في تلك الأيام الصعبة، رأيتها ذات صباح تغطّي وجه أبي بالكوفية، وتلمّع له "الكلاشن"، وتوصيه قبل الخروج: "دير بالك من الجيش"، تلك كانت أولى المشاهد التي تيقّظت عليها طفولتي .. وحينها، ككل الأطفال، تفتّحت مداركي على معنى الأمومة، دون أن أفهمها .. ولما كبرتُ، أدركتُ متأخراً بعضاً مما  كانت تقوله دون أن تبوح به ..

كانت هي اليد التي تسند ظهورنا كلما ثقُلت عليها الأحمال، والبهجة التي تملأ نهارنا بالأمل. هي التي مهدت برضاها طرقنا الوعرة، وظلت تدعو لنا بعد كل صلاة، بأن يكون الهواء على صدورنا ليّناً رقيقا ..

هي الروح المتوثبة دوماً، التي لم تخذلنا يوماً، ولم تغضُّ الطرف حتى عن رفّة العين. هي بقعة الضوء تمتد في أشدّ الليل حلكة، لتنتشلنا من لجّـة السؤال  واضطراب الإجابات، وتحملنا برفق إلى واحة اليقين. هي القلب الحنون. هي الحياة تفيض علينا من نعمائها، وتغمرنا بالدفء. هي النور المنساب من النافذة، يوقظنا بـحنو، لنبدأ به يومنا. هي كل هذه المعاني، تُحضرها أمي دفعة واحدة، إذا مسّنا الكرب.

لم تشكُ ألماً، على الرغم من امتلاء روحها بالآلام، ولم تتخلّى عن ثوبها الكنعاني المطرز بالحرير .. كان هويتها الجميلة، وصورتنا البهية في مرآة التاريخ ..

في أيام الصيف، كانت تعد أكياس الثلج، وترسلنا إلى البيوت التي تنتظر أن يطفئ ظمأها كأس ماء بارد .. وأحيانا مع طبق من طعامها الشهي ..

لم تعرف يوماً "عيد الحب"؛ لكن قلبها  كان نهراً دافقاً من الحب، لم تحتفل كل سنة بعيد الأم؛ لكن حنانها كان يفيض على كل السنين .. كانت بديهية كطلعة الشمس كل صباح، ومدهشة كنوّار اللوز،  وسخية كالمطر ..

 لم تكن الأعراس لتبدأ، ولا لتكتمل، حتى تنشد بصوتها الشجي أهازيج البلاد، وأغاني العاشقين ..

ببساطتها، كانت تجعل من "قلاية البيض" وليمة، ومن "قالب الكيك" مهرجان فرح، وتعطّر البيت برائحة "الخبّيزة" و"الميرمية"، تُعدُّ لنا "المطبّق" و"الخبز المبلل بالزيت والزعتر"، فتجعل صباحنا طازجاً وشهياً، وعندما نأوي للنوم، تغطّينا بصوتها الدافئ، كي لا يكون لأحلامنا صمت الأنين.

وطالما وقفَتْ في طوابير "الأونروا"، لاستلام المؤن، وحفظتْ أسماء الأدوية وألوانها، لتعيد استخدامها كلما أصاب أحدنا الإعياء، مع كعكة مغمّسة بالشاي، ونصف برتقالة، وفيضان أمومة ..

في عينيها متسع يكفي لاستضافة سحابة حزينة، وبين رموشها يمكن لغابة نخيل أن تنمو باسقة، وفي قلبها مأوى يتّسع لأن نغفو فيه جميعا مطمئنين ..  

بدأتْ مشوارها صبيّة يافعة، وأنهته بصمت وكبرياء .. بعد سنوات مضنية من اختبار الوجع .. كانت تخبئ أوجاعها تحت الوسادة، وبين الجفون، ثم تسكبها دمعا ساخنا في عتمة الليل، وحيدة مع أسئلتها .. ومناجاتها لله، دون سواه ..

وبين البداية والنهاية، مرّت كومضةٍ خاطفة، أضاءت ليالينا .. عجنت بأيديها خبزنا، وتفاصيلنا الصغيرة، وظلت خفيفة على قلوبنا كأثر فراشة ..  ثم رحلت، تاركة وراءها كومة ذكريات، وفضاء متخم بالكلمات، والأدعية، ورائحة النعناع والطيب ..

كم تمنيتُ من قلبي أن أعود طفلا ساعة واحدة، في صبيحة يوم عيد، لأقبّل يديها، والتقط منها نصف دينار فقط، سيساوي عندي ثروة "بل جيتس" كلها .. ولأسمع منها: "الله يرضى عليك يمّا" .. تساوي عمراً بأكمله ..

مضت سنين طويلة على غيابها، وما زالت صورتها تهبط على أمسياتنا وابلاً ناعماً وسخياً من الحنان، وما زلتُ أمشي على هديها مضرجاً بالحنين، أتضور شوقا لأن أقول لها، ولو لمرة واحدة: مسا الخير يمّا ..


ربي إرأف بها كما ربّتني صغيرا ..