وقف يرقبُ العنكبوت الرمادي الذي دخل منزله قبل
يومين، واتخذ من الزاوية العلوية لغرفته مسكنا لأحلامه، منذ ساعات وهو معلق على
خيطٍ واهنٍ من الأمل، أربعة أرجل تتشبث بقوة على طرف الشبكة، تقابلها أربع أخرى
تنتظر أي فريسة سيقودها حظها العاثر لتصطدم في مجال الاحتمالات التي بناها هذا العنكبوت
بصبر وثبات .. مضت ساعات أخرى والعنكبوت ما زال واقفا مكانه دون أي حركة .. أي
عيشةٍ هذه ليس فيها سوى الانتظار ! كيف لا يتسرب الملل إلى قلب هذا الكائن الممل
؟!
نظر في المرآة، فوجد نفسه يشبه ذلك العنكبوت في
أشياء كثيرة؛ فهو يمضي أيامه في الانتظار، معلقا على سلك هاتف لا يرن، يذرع
المسافة الواصلة بين جدارين؛ واحدٌ من "خوف" يطل على نهايته، وآخر من "حنين"
يشدّه إلى ماضٍ يحاول الا ينساه .. ولكنه كان يتحايل على الوحدة، ويتفنن بقهر أشواقه؛
كلما داهمته هواجسه يصدم جبهته بالباب الزجاجي، ثم يصرخ: ألم أقل لها مائة مرة أن
لا تنظف الزجاج إلى هذه الدرجة ! وإذا خاف على ذاكرته أن تتسلل من تحت الباب، يعرّي
سلكي الكهرباء عند مفتاح الجرس، لتأتي الريح فتجعلهما يؤديان رقصة العناق، يسمع
صوته مثل موسيقى، فيهرع بشغفٍ نحو الباب، ليجد اللاشيء في انتظاره، فيصرخ: ألم
أطلب منهم قبل شهرين إصلاح هذا الجرس اللعين ؟
يصعد إلى "السطوح"، ويختار اللحظات التي
يخنقها السكون .. فيصرخ بأعلى صوته، ينتظر رجع الصدى، ثم يعوي مثل ذئب تاه عن
قطيعه، ثم يقهقه شامتاً: لقد لقّنتُ الصمتَ درساً لن ينساه ..
يظل يمشي طوال النهار حافيا، عند أول المساء يستغل
العتمة فيصدم طرف إصبعه الصغير بحافة السرير، ليحسَّ بالألم، الألم يذكره بوجوده، يشغله
لبعض الوقت .. يتضايق ويشتُم السرير، ينتظر نصف ساعة أخرى، إلى أن تسري في عروقه نبضات
لذيذة غامضة حين تبدأ موجات ألمه بالخفوت، ومغادرة جسده على مهل .. منتشيا ينام ..
بعد أن وجّه للنسيان صفعة مدوية على خده ..
في الصباح، يصحو بتكاسل، يمط يديه إلى خلف ظهره،
فيرى وجهه في المرآة، يقول له: صباح الخير، فيبادله الوجه بنفس الابتسامة المصطنعة
.. دون أن ينطق بحرف .. يمضي إلى عنكبوته، فيجده معلقا مكانه، وقد استبدل أرجله
اليمنى التي تحمله باليسرى التي تنتظر زائره الموعود .. يشتمه بإشفاق .. إنزل أيها
الوغد، تعال لنحتسي قهوتنا معاً ..
هكذا عاش "أبو الياس" سنواته الأخيرة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق