أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 17، 2024

المأزق السياسي والمخرج الوحيد

 

على إثر تشكيل حكومة فلسطينية جديدة، أصدرت حماس وثلاث فصائل أخرى بيانا تعرب فيه عن رفضها للحكومة، وتتهم الرئيس عباس بالاستفراد بالقرار، وتطالب بحكومة ذات مرجعية فصائلية.. وفي المقابل أصدرت فتح بيانا قالت فيه: "إن من تسبب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبب بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية، مؤكدة أن المفصول الحقيقي عن الواقع وعن الشعب الفلسطيني هي قيادة حركة حماس التي لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية". وأضافت أن حماس لم تنسق مع أحد بخصوص هجمات 7 أكتوبر، ولا تنسق مع أحد في مفاوضاتها بشأن الهدنة ومستقبل غزة..

عدد كبير هاجم بيان فتح، واتهمها بخذلان غزة، وأن سياسات السلطة "الاستسلامية" والتنسيق الأمني، ومطاردة المقاومين هي التي سمحت بزيادة الاستيطان، وتغول الاحتلال، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية.. إلخ.

ما يعني أننا أمام جولة جديدة من الصراعات الداخلية والمناكفات وتبادل الاتهامات، في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون للتوحد ونبذ الخلافات والترفع عن الفصائلية والحزبية.

على أية حال لست هنا بصدد تفنيد البيانات، أو الانحياز لجهة، أو لتبرير موقف.. وإنما هي محاولة لفهم الواقع، وتقديم مقترح قد يمثل مخرجا من الحالة المزرية التي وصلنا إليها جميعا.

بداية، فيما يتعلق بانتقاد الحكومة الجديدة، هذا أمر معتاد ومتوقع، قبل أن نعرف تشكيلتها وتوجهاتها، فحتى لو هبطت حكومة من السماء ستتم مهاجمتها.. وهنا أود تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: لا فتح، ولا كافة فصائل المقاومة تمثل الشعب الفلسطيني، وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للشعب، وسماع صوت غزة، فهم الأحق بسماع صوتهم، لأنهم هم الذين يضحون بأرواحهم ويدفعون الأثمان..

وثانياً: من المفترض أن فتح وحماس وبقية الفصائل وُجدت من أجل الشعب والقضية، وبالتالي صمود الشعب فوق أرضه، وصون كرامته، وحقه في الحياة أهم من كل الفصائل، لأن الشعب هو أساس ومرجعية ومبتغى النضال، وهو الركيزة الأساسية للقضية.

ثالثا: في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، وحيث يواجه الشعب خطرا وجوديا حقيقيا، ومع تداعيات العدوان وتعقيدات المشهد السياسي، فإن المصلحة الوطنية تقتضي تشكيل حكومة خبراء، لإنقاذ من تبقى من أهل غزة، وإنقاذ ما تبقى من القضية، وهذه الحكومة ما لم تكن مقبولة دوليا، فلا فائدة منها، ولن يمكنها تحقيق المهمات المنوطة بها..وتوجهات الحكومة الجديدة وفق خطاب التكليف من المفترض أنها تمثل توجهات وطنية عامة ومتفق عليها، ولو تحققت سيكون ذلك إنجازا وطنيا كبيرا.. وبالتالي من المفترض أن تحظى بدعم شعبي وقبول فصائلي، إلا إذا كانت مصلحة الفصائل أهم من مصلحة القضية والشعب.

ورابعاً: بخصوص بيان فتح، فمن الواضح أن مهاجمته لسبب رئيسي وربما وحيد: لأن البيان تضمن انتقادا لحماس، بغض النظر عن مضمونه.. انتقاد حماس من المحرمات، لأن حماس تمثل المقاومة، والمقاومة مقدسة، وانتقادها يعني مساساً بالمقدسات، وهذا التحريم يشمل انتقاد قيادات حماس، وخياراتها، وقراراتها، وأية خطوة تخطوها حتى لو كانت نتيجتها كارثية. وانتقاد حماس يعني تبرئة إسرائيل من جرائمها، والقول أن رهانات حماس لم تكن في محلها، وحساباتها كانت خاطئة، وخطوتها متهورة.. هذا يعني تحميلها المسؤولية وتبرئة إسرائيل من تبعات عدوانها على غزة.. إنه الرابط العجيب..

خامساً: حماس حركة مقاومة، ومكون أصيل من الشعب الفلسطيني، وقدمت تضحيات جسيمة، ولها الحق الكامل بالتمثيل والمشاركة، لكنها لا تمثل كل الشعب، وليست الوكيل الحصري للمقاومة، أهل غزة، والشعب الفلسطيني عموما خاض النضال قبل حماس بعقود طويلة، وخاضها مع وجود حماس، وسيظل شعبا مقاوما وصامدا لو غابت حماس وكل الفصائل الموجودة على الساحة الآن.. الأهم من بقاء حماس في الحكم هو تثبيت صمود الشعب، والخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر.

أما بالنسبة للوضع الراهن، والكارثة التي تمر بها فلسطين، فالجميع متفق على تشخيص الحالة، وأنها أخطر وأسوأ مرحلة في تاريخ الصراع، وأشد مرارة من النكبة.. لكن الخلاف على من يتحمل مسؤولية الوصول إلى هذه الحالة.. هل هي سياسات السلطة وتوجهاتها؟ أم هجوم طوفان الأقصى؟ الذي وفر الذريعة لإسرائيل لتنفيذ أهداف كانت تنتظر الفرصة لتحقيقها؟

من وجهة نظري هناك ثلاث أسباب أوصلتنا إلى هذه الحالة، وهي أسباب متداخلة ومترابطة:

الأول: طبيعة الصراع وخصوصيته الدولية، وموازين القوى، والمعادلات السياسية الكونية والإقليمية، وتحالفات إسرائيل، ومكانتها في النظام الدولي، وطبيعة النظام العربي، وعدم امتلاك الفلسطينيين لأدوات حسم الصراع الحقيقية، وهنا يمكن القول أن ضعف (أو تآمر) النظام العربي (الذي يمتلك أدوات حسم الصراع الحقيقية والفاعلة)، أدى إلى ضعف الحالة الفلسطينية، وحرمان الفلسطينيين من تحقيق أي تقدم حقيقي باتجاه حصولهم على حقوقهم الوطنية، أو التقدم بخطوات إضافية نحو تحقيق الانتصار التاريخي، فضلا عن استهداف النظام العربي للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها، ومحاربتها ومحاصرتها واختراقها ومصادرة قرارها..

الثاني: ضعف التوجهات النضالية لدى المؤسسة الرسمية (قيادة السلطة، وقيادة فتح) وهذا بسبب رهانها على المسار السياسي، وإهمال المسارات الكفاحية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تهميش منظمة التحرير، وتكون طبقة سياسية متصالحة مع الحالة، وترهل فتح وكافة الفصائل وتكلسها وتراجع دورها النضالي.. لكن هذا المسار السياسي كان ممكنا أن يغير الحال للأفضل، وربما يفضي إلى دولة مستقلة لولا جملة من الظروف يصعب شرحها هنا، من بينها دخول حماس، وتخريبها المسار السياسي، وتنافسها مع فتح الذي أدى إلى الاقتتال ثم الانفصال.

الثالث: الانقسام الفلسطيني، سواء اعتبرناه انقلابا، أو حسم عسكري، وبغض النظر عن مبرراته وسياقاته وتفاصيله.. المهم أن سيطرة حماس على غزة أدت إلى انقسام سياسي وجغرافي في الساحة الفلسطينية، وهذا الانقسام أضعف الموقف الفلسطيني عامة، وأدى إلى تراجع مكانة القضية، وإلى ضرب الصورة الأخلاقية للنضال الفلسطيني، وإلى إضعاف أي صفة تمثيلية لأي جهة فلسطينية (منظمة التحرير، أو حماس)، وقد أضر بالطرفين، فكل خيارات وتوجهات السلطة لا يمكن أن تحرز تقدما ما دام هناك انقسام.. وكل خيارات حماس ومغامراتها لن تحرز نصرا في ظل الانقسام وتشرذم الموقف الوطني.. 

سنتحدث في مقال قادم عن المخرج السياسي، وعن الفروقات بين استفراد فتح بالقرار السياسي، واستفراد حماس بالقرار العسكري.

مارس 13، 2024

رمضان والانتصارات

 

بعد كل الدمار الذي حل بغزة، ومع أنهار الدماء التي أريقت، وهذه المحرقة التي أوصلت الناس إلى المجاعة.. ومع انغلاق الأفق السياسي، وتكشُّف الموقف العربي والدولي الصامت والمؤيد والمشارك في العدوان.. ما زال البعض يراهن على انتصار المقاومة، ليس فقط إجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة، بل وتحرير القدس..

هؤلاء راهنوا أن جيش الاحتلال لن يجرؤ على دخول غزة، وراهنوا أن المقاومة سترغمه على التراجع، ثم راهنوا على خانيونس، والتي وصفوها بمعقل المقاومة، والآن يراهنون على رفح.. وإذا أضفنا خمسة جولات عدوانية سابقة شنتها إسرائيل على غزة، ولا أعرف كم من التجارب يجب أن نخوض حتى نستخلص العبر..

طبعا التمسك بالأمل مطلوب، والإيمان بحتمية النصر شرط أساسي لتحقيق النصر، والأيدي المرتجفة لا تصنع التغيير، والأرواح المهزومة واليائسة لا تصنع نصرا.. كل هذا صحيح، ولا شك فيه.. لكن ذلك كله يختلف جذريا عن بيع الأوهام، وعن التعلق بأحبال الهواء، وعن الوعود السرابية..

خوض الحروب وتثبيت الصمود وتحقيق النصر يحتاج شروطا معينة، وهذه الشروط لا علاقة لها بقيم الحق والصواب، ولا بالأمنيات والرغبات.. الحروب لا تُخاض بالشعارات، والخطب الإنشائية، والكلام البديع والمنمق.. بل بتقدير الموقف وفق حسابات دقيقة، ضمن رؤية إستراتيجية، تأخذ بالاعتبار كافة المعطيات السياسية والظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى محليا وعالميا... إلخ.

وعلى عكس المرجو، أتى شهر الصيام الفضيل ولم تأتِ الهدنة.. وخلافا لرغبة من هم في الخارج، جميع أهل غزة يتوقون لإنهاء الحرب، يريدون بشدة أن تتوقف فورا، أن تُعلن هدنة..

وإذا استثنينا بعض الصور والمقابلات المنتقاة بعناية، ولو نظرنا لواقع غزة بقلوبنا وعيوننا وعقولنا نظرة متبصرة سنجد صورة مغايرة كليا.. صورة بالغة القسوة والبؤس، وتنذر بكل ما هو خطير.. في كل يوم يستشهد نحو مائتي إنسان، ويُجرح المئات، أغلبهم سيفقدون أجزاء من أجسادهم، سينضمون إلى ذوي الإعاقة، في كل ساعة يُدمر بيت، وتتشرد عائلة، أو تفقد معيلها، في كل ساعة هناك أطفال يتيتمون، ونساء يترملن، وأحلام تُقصف، وأمنيات تذوي، ومستقبل يهرب ويبتعد ويتحول إلى كائن مجهول ومخيف..

مع انتهاء هذا الشهر سنكون قد فقدنا بضعة آلاف من أبناء شعبنا.. سنكون قد خسرنا المزيد من الأرواح البريئة، وسكبنا أنهرا إضافية من الدماء الزكية.. سنكون قد ضاعفنا خسائرنا..

 نتفهم ونبارك قرار المقاومين بالاستبسال والصمود ومواصلة القتال، ربما لأنهم مكرهين على ذلك، لكن المستهجن وغير المقبول واللاأخلاقي فرحة البعض بعدم التوصل إلى تهدئة، وحماستهم بالخطابات والتهديدات التي تتوعد بمواصلة الحرب.. الذي سيعني بالضرورة مقتل الآلاف من النساء والأطفال والشبان، وتدمير آلاف البيوت، ومواصلة تشريد ونزوح مليوني إنسان، وتضور مئات الآلاف منهم جوعا.. كل هذا مقابل فرحتهم بتدمير بضعة دبابات ومقتل بضعة جنود! لا يمكن فهم سبب هذا الحماس بمعزل عن تفحص إنسانيتهم.

يريدون مواصلة الحرب لأنهم معتقدون أنَّ "رمضان شهر الانتصارات"، و"ما من معركة خاضها المسلمون في رمضان إلا وانتصروا فيها".. رغم أنّ مجريات الأحداث بينت بكل وضوح مدى هشاشة وتهافت الرهانات التي راهن عليها من اتخذ قرار الطوفان، وبعد كل هذه الخسائر الباهظة، ما زال البعض يراهن على عناصر لا علاقة لها بإنجاز النصر، ولا بتثبيت الصمود، مقولات لا تطعم جائعا، ولا تحمي طفلا، ولا تردع عدوانا..

هل في قواعد الحروب والعلوم العسكرية شيء اسمه "الحروب في رمضان"؟ ألم تتعرض غزة لعدوان غاشم في ال2014 واستمر 51 يوما جاء خلالها رمضان وانقضى دون إحراز أي نصر، بل انتهت باستشهاد أزيد من 2600 إنسان، وخسائر مادية لم تُعوض حتى الآن؟ ألم يمر على نكبة الشعب الفلسطيني 75 رمضان؟ ألم تمر على الأمة العربية مئات الرمضانات، وما زالت تواصل انحدارها وهبوطها إلى القاع؟ كم من رمضان مر على مأساة السوريين والعراقيين واليمانيين والأفغان وغيرهم من بقية الشعوب المستضعفة؟

ألايتذكر المسلمون الجهاد إلا في رمضان؟ ألا تعنيهم مأساة فلسطين سوى في رمضان؟ ألا تستفزهم صور القتل والدماء والدمار والأشلاء والجوع والنزوح والإذلال.. إلا في رمضان؟ أغلبهم أصلا لا يتذكر الفقراء والمساكين وعمل الخير إلا في رمضان! ليس في هذا أي استهانة بالشهر الفضيل، شهر الخير والبركات والجهاد.. لكن الرهان على أن رمضان سيستفز المشاعر الإسلامية ويدفع بالناس للخروج إلى الساحات ما هو إلا هراء، ورهان يُضاف إلى سلسلة الرهانات التي أدخلتنا هذا النفق المظلم..

وفي حقيقة الأمر رمضان بالنسبة لأغلبية الناس شهر القطايف والخروب والمسلسلات والسهرات والولائم.. ومن يريد النضال لا يحتاج شهرا معينا.. لأن مأساتنا مستمرة 24 ساعة، على مدار الأسبوع، ومنذ أزيد من قرن كامل..

في حياة النبي الكريم خاض المسلمون 27 معركة وغزوة، ثنتان منها فقط وقعتا في شهر رمضان (بدر، وفتح مكة)، وخلال ال1400 سنة الماضية خاضت الجيوش الإسلامية مئات وربما ألوف المعارك والحروب، سواء في الفتوحات، أم في الصراعات الداخلية، وربما عدد المعارك التي وقعت في رمضان تُعد على أصابع اليد الواحدة..

تزييف الواقع، يخلق وعيا زائفا.. وتشويه الحقيقة يخلق ثقافة مشوهة.. والتزييف والتشويه لا يتم باختلاق الأكاذيب، لأن هذا من السهل اكتشافه، بل من خلال اجتزاء الحقيقة، وانتقاء بعضها بما يتوافق مع التوجهات الإعلامية المرسومة بدقة، ومن خلال مخاطبة العواطف بلغة ثأرية ورغبوية تحاكي ما يختلج في دواخل الجماهير من عواطف جياشة وكبت وثأر ورغبة جامحة بتحقيق انتصار سهل وسريع، أي بالخطابة والشعارات والتحليلات السطحية الساذجة..

ولأن هذه سمات خطابنا السياسي والإعلامي والديني فإننا نحوض الحروب بطريقة خاطئة، وبحسابات ساذجة، نعوّل على الغيبيات والخوارق والأمنيات.. وبالتالي في كل مرة نحصد الهزائم والانكسارات..

ثقتنا عالية بأن النصر من عند الله، لكن الله أمرنا الأخذ بالأسباب، والإعداد الكافي، وأن نستخدم عقولنا، وأن نفكر مليا، ونحسب جيدا بتبصر وتروي.. وألا نضع مصلحة الحزب والقيادة فوق وقبل مصلحة الشعب..  وأن نكون رحماء بشعبنا، وأنَّ قطرة دم واحدة أهم من كل الشعارات والرموز والمقدسات، لأن حياة الإنسان هي قدس الأقداس..  

مارس 10، 2024

أربع تخوفات من ميناء غزة


في خطاب "حالة الاتحاد" أمام الكونغروس أعلن الرئيس بايدن أن الجيش الأميركي سينشئ ميناء على ساحل غزة لتلقي المساعدات للسكان الذين يعانون من المجاعة. وبحسب ما نُشر في الإعلام فأن الميناء لن يتطلب دخول القوات الأميركية أرض غزة، وسيظل الألف جندي المكلفين بحراسته في سفن حربية قبالة الساحل، وهذا الميناء سيشمل رصيفا سيتصل باليابسة عبر جسر مؤقت، وسيوفر القدرة على استيعاب حمولات مئات الشاحنات من المساعدات يوميا، وسيستغرق إنشاؤه عدة أسابيع.

يبدأ الرصيف البحري من قبرص، وهي أقرب دولة في الاتحاد الأوروبي إلى غزة (تبعد عنها 370 كلم)، وتم تحديد ميناء "لارنكا" كنقطة انطلاق للسفن المحملة بالمساعدات الإنسانية إلى القطاع التي ستأتي من مختلف دول العالم، وبعد تجهيز السفن سيعمل مسؤولون أمنيون إسرائيليون على تفتيشها بميناء لارنكا، لتنطلق بعدها إلى غزة برفقة طائرات مسيرة وحماية أمنية توفرها الدول الشريكة والجيش الإسرائيلي.

مساحة الميناء ستكون 6 كيلومترات مربعة، وتبلغ كلفته الأولية نحو 35 مليون دولار ستدفعها الولايات المتحدة، وسيضم مستشفيات عائمة، ومطاعم ضخمة، وبيوت إيواء مخصصة للطاقم الطبي والجنود والجهات الأمنية.

رأى البعض أن فكرة الميناء "خطوة جريئة" بعد فشل كل مساعي إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة عبر المعابر الرسمية بسبب العراقيل الإسرائيلية، ومحاولة من بايدن لتحسين صورته أمام شعبه مع اقتراب المعركة الانتخابية. ولكنه في واقع الأمر من أكثر المخططات خطورة واعتداءً على سيادة قطاع غزة، وإعلان لبدء مرحلة إدخال قوات أجنبية للتحكم بمستقبل القطاع، بتعاون مريب مع إسرائيل، ويهدف المشروع للتغطية على المشكلة الحقيقية وهي حرب الإبادة، ومنح إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في عدوانها على القطاع وسكانه على قاعدة "أنتم اقتلوا ودمروا ونحن سندخل المساعدات".

مع أن السلطة الوطنية لم تصدر تصريحا واضحا بشأن الموضوع، إلا أن قيادات في السلطة عبرت عن خشيتها  من استغلال الميناء لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وفي بيان لوزراة الخارجية الفلسطينية جاء فيه: "إن تركيز إسرائيل على إعطاء الموافقات على فتح ممرات بحرية ومنع مرور المساعدات بريا عن طريق المعابر، هدفه تطبيق خطة الحكومة بتكريس الاحتلال والفصل بين الضفة الغربية والقطاع وتهجير الفلسطينيين، وأن الممر يترتب عليه مخاطر تستهدف الوضع الديموغرافي في القطاع، في ضوء عمليات القتل والتجويع والحصار". وأنه دليل إضافي على إحجام الإدارة الأمريكية عن مواجهة إسرائيل بسبب عرقلتها إدخال مساعدات الإغاثة، أو استخدام نفوذها الاستثنائي على إسرائيل باعتبارها الداعم الرئيسي لها.

وبينما لم تعلق حركة حماس على "الميناء الأمريكي" و"الممر القبرصي"، بيد أن القيادي محمد نزال رحب بالفكرة معتبراً أن أية خطوة من شأنها تخفيف حدة الجوع فهي إيجابية.

لكن المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء ندد بالفكرة، ووصفها بالخبيثة، مضيفا: الولايات المتحدة تقدم المساعدات وفي الوقت نفسه تعطي لإسرائيل ما تحتاجه من قنابل وذخائر ودعم مالي! أما منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية فقد رحبت بالخطة، لكنها قالت: "الجو والبحر ليسا بديلاً عن الأرض".

أما إسرائيل فأرادت التذاكي والإدعاء بأنها تفاجأت بالمشروع، فرحبت به، وأكدت أنها ستنسق مع الولايات المتحدة لتطويره، وأنها ستدعمه بالكامل؛ علما بأن المشروع فكرة إسرائيلية في الأساس، وسبق أن طرحته عام 2015.

ومع أن المشروع في بداياته، وما زالت الصورة غامضة، والظاهر منها هو البعد الإنساني، تحت عنوان إيصال المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة، وعلاج جرحى الحرب.. لكن هذا يستدعي العديد من الأسئلة؛ ألم يكن من الأولى الضغط على إسرائيل لإيقاف عدوانها، أو استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار؟ وإذا كانت أمريكا تريد حقا إيصال المساعدات، فلماذا لا تستخدم معبر رفح؟ وإذا كانت مصر تعيق ذلك كما تزعم إسرائيل، فلماذا لا تستخدم معبر إيرز؟ ولماذا صارت فجأة كل الدول تريد إيصال المساعدات عن طريق الإنزال الجوي؟ وهل عمليات الإنزال الجوي أتت استجابة لرغبة إسرئيل، وتمهيدا لإلغاء معبر رفح، وإيصال المساعدات مباشرة دون أي دور لوكالة الغوث؟ طبعا لأن صفقة القرن تتضمن إلغاء الوكالة.

التخوف الأول من مشروع الميناء هو ارتباطه بتشجيع هجرة الفلسطينيين طوعاً إلى أوروبا، فإزاء تمسك مصر بموقفها الرافض للتهجير، فإن الميناء قد يوفر الدعم اللوجستي لتسهيل الهجرة، وقد يوفر بواخر نقل عملاقة (ألا تتضمن الحروب مفاجآت غير متوقعة). فقد أدى العدوان إلى تدمير شبه كامل للقطاع، واستشهاد وجرح أزيد من مائة ألف إنسان، ونزوح مليوني مواطن، ومع التجويع والحصار صار حلم كل مواطن مغادرة هذا الجحيم.

والتخوف الثاني فك ارتباط إسرائيل نهائياً مع غزة، ودفعها بعيداً، بعد أن فشلت في احتوائها أو إلقائها في حضن مصر، مع تعميق فصلها عن الضفة سياسيا، وجغرافيا وكوحدة جمركية.

والتخوف الثالث إخراج معبر رفح عن الخدمة، لأن إسرائيل لا تثق به، وتعتبره المدخل الرئيسي لأسلحة حماس، حيث سيؤدي ذلك مع مرور الوقت وفرض حقائق جديدة إلى إلغاء المعبر أو تهميشه، وقطع كل صلة لغزة مع العمق العربي.

التخوف الرابع مرتبط ببعض المعطيات التي نجمت عن العدوان، والتي كانت سببا لها؛ وإذا ربطنا تلك المعطيات ببعضها قد نتوصل إلى استنتاجات منطقية؛ فمثلا قامت إسرائيل بشق طريق عرضي يصل بين السياج الشرقي والبحر بثلاثة مسارب، تسمح للدبابات والآليات بقطع المسافة بحدود سبعة دقائق، ما يعني فصل القطاع شماله عن جنوبه، وإطباق السيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه. وهذا يعني أن احتلال القطاع سيدوم لفترات طويلة جدا، وحتى لو اضطرت إسرائيل للانسحاب سيظل الجيش قادرا على اجتياحه والعودة إليه مجددا وفي أي وقت، وسيظل تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر. المهم أن هذا الطريق ومناطق تواجد الدبابات ستتصل بالميناء الأمريكي، وقد صار واضحا أن هذا الميناء ليس لإيصال المساعدات، بقدر ما سيغدو قاعدة أمريكية متقدمة، وموطئ قدم على شاطئ غزة، وتحديدا قبالة حقول الغاز، بما يضمن مستقبلا تقاسم موارد حقول الغاز بين أمريكا وإسرائيل مع أي سلطة ستنصبها في غزة.

من غير الواضح إلى متى سيظل هذا الميناء مؤقتا؟ وما هو مصيره بعد سنوات؟ وقد تعودنا من أمريكا على المشاريع الفاشلة، فمثلا شنت حربا على أفغانستان لطرد طالبان، وبعد عشرين سنة أعادتهم للسلطة!


مارس 06، 2024

تقريباً، اتضحت الصورة..

 

مع دخول العدوان شهره السادس، تبدو الصورة مختلفة عما كانت عليه في بداياته: أداء المقاومة، وتيرة القصف، تفاعل الناس، ردود أفعال المجتمع الدولي.. حتى المفاجآت التي انتظرناها لم تظهر، وتقريبا اتضحت الصورة.. مع الأخذ بالاعتبار أن الحروب تتضمن دوما مفاجآت غير متوقعة.

لنبدأ بإسرائيل؛ كنا نعتقد أن إسرائيل لن تتحمل حربا طويلة الأمد (هكذا قال الخبراء العسكريون)، وأنّها لن تتحمل خسائر بشرية، ولن تسمح لدباباتها أن تتعرض للقصف، وأن الخلافات الداخلية ستُسقط الحكومة، وستشطر المجتمع، وستُضعف الدولة، وأن المجتمع الدولي لن يسمح بالتهجير، وإذا حدثت مذبحة كبيرة سيسارع العالم لإدانة إسرائيل، وسيجبرها على إنهاء الحرب..

تبين أن إسرائيل قادرة على خوض حرب طويلة جدا، وأنها هيأت جمهورها لتقبل خسائر باهظة في الأرواح، وأنها غير مهتمة بالرهائن، وقادرة على تحمل ضغوطات أهاليهم، وقادرة على تسويق أكاذيبها ببراعة ووقاحة، وقادرة على تجاوز الضغوطات الدولية (التي لم تتحق أصلا) بل وجعل العالم منقادا لها، وقادرة على تحمل خسائرها الاقتصادية مهما بلغت (لأنها تضمن التعويضات)، وأنَّ الأمن وقوة الردع أهم عندها من صورتها الإعلامية، وأنها قادرة على ضرب كل قرارات الشرعية الدولية عرض الحائط..

أما أمريكا، فتبين أن كل ما يعنيها من الحرب هو أمن إسرائيل، وضمان تفوقها، وتحرير مواطنيها المحتجزين لدى المقاومة، وكل ما يتصل بذلك ويؤثر على الانتخابات الأمريكية.. لذا ستظل تراوح مكانها، وتدير الأزمة، وتقدم وعودا سرابية، وستظل توفر الحماية السياسية لإسرائيل، وتمدها بما تحتاجه من أموال وأسلحة وذخائر.. بل وجر أوروبا إلى موقفها.  

أما عربيا، فربما كان من الخطأ أساسا الرهان على الموقف العربي، أو توقع فعل عربي رسمي قوي ومؤثر، حتى أن هشاشة الموقف العربي لم تتمثل في ضعفه السياسي أو الإستراتيجي، بل حتى في عجزه عن إدخال قنينة ماء إلى غزة دون موافقة وإذن إسرائيل وبالتنسيق معها، وبالطريقة التي تحددها (إنزال المساعدات جوا مثلا)..

الموقف الشعبي (عربيا، وإسلاميا، وعالميا) رغم أنه متقدم وجيد، وقد خرجت التظاهرات الحاشدة في عموم مدن وعواصم العالم، إلا أن ذلك كله، وعلى أهميته، لم يوقف العدوان، وفي أحسن الأحوال قد يغير مواقف الحكومات ولكن على المدى البعيد، وحتى حالة التغيير في الوعي، وكشف حقيقة إسرائيل العنصرية والمتوحشة، وانحياز الغرب لها، وإعادة القضية إلى الواجهة.. كل هذا سيعطي ثماره بعد أمد بعيد.. وطبعا، دون ضمانات أكيدة بتحقق ذلك.

كما أن العالم بعد خمسة شهور لم يعد يتابع العدوان بنفس الاهتمام والشغف، فهناك عشرات الحروب وبؤر التوتر والصراع المتفجرة في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي فإن الإعلام يبحث عن كل ما هو جديد ومثير..

أما ما يعرف بمحور المقاومة، والرهان على وحدة الساحات، ومشاركة حزب الله في الحرب بكامل قوته.. فهذا كله كانت مجرد أماني وخطابات إنشائية، وتهديدات، واستخدام لقوى محلية لأغراض متصلة بأجندات وتوازنات إقليمية، وتأثيراتها على مجريات الحرب لحد الآن محدودة. وكل ما قيل عن اتساع رقعة الحرب، وتحولها إلى حرب عالمية.. مجرد فزاعة، استخدمتها أمريكا لإعادة مكانتها وسيطرتها على المسرح الدولي..

نأتي إلى الساحة الفلسطينية.. بات معروفا أن جماهير الضفة الغربية وفلسطينيو الداخل لم يتفاعلوا مع العدوان بالدرجة المأمولة، فقد كان راسخا في وعيهم الباطني أن إسرائيل تتربص بهم، بل وتنتظر منهم ردة فعل قوية لتكرار ما حدث في غزة في الضفة، ولوضع كل شعب فلسطين على حافة الهاوية، وتهيئة الظروف للتخلص منهم وترحيلهم.. فضلا عن قلة إمكانياتهم ومحدودية خياراتهم، في ظل الهجمة الإسرائيلية الشرسة والمتأهبة والمختلفة عن كل ما سبق..

في غزة، وبعد اجتياح كامل القطاع، تبين أن المقاومة غير قادرة على ردع العدوان، ولا عن صد الجيش، أو إعاقة تقدمه، أو التحصن في مكان ما يصعب على الجيش وصوله.. وتقريبا توقفت الصواريخ، ودمر الاحتلال أغلب الأنفاق، ولم يتبقى سوى جيوب مقاومة تستبسل في الدفاع عن مواقعها، وفي استهداف ما يمكنها من دبابات وآليات للعدو، والورقة الأخيرة لدى حماس هي الرهائن، والتي اتضح أن إسرائيل غير مكترثة بها.

مفاوضات الهدنة أو التوصل إلى وقف إطلاق النار تراوح مكانها، ومتعثرة، وإسرائيل متمسكة بشروطها، وتحاول جر حماس إلى مزيد من التنازلات.. ومن الواضح أن أمريكا غير جادة بإيقاف الحرب.

الحاضنة الشعبية بدأت تضعف وتذوي، فبسبب سياسة التجويع والتعطيش والإفقار ومنع وصول المساعدات، ومع انهيار المنظومة الصحية، وتدمير المنظومة التعليمية، والاقتصادية، وتخريب البنية التحتية، وتفشي الأوبئة، واقتراب الناس من المجاعة وانتشار أمراض سوء التغذية.. وكل ما ينجم عن الحروب من أمراض وظواهر اجتماعية سلبية كالاستغلال وجشع التجار والتعديات وسرقة البيوت، وسوء توزيع المعونات.. كل هذا خلق ظروفا بيئية وصحية واجتماعية بالغة السوء وفي منتهى القسوة..

بعد كل هذا الدمار والخراب حققت إسرائيل أهم أهدافها.. وبقي عليها حسم موضوع اليوم التالي للحرب، أي تحديد من سيحكم غزة.. وهي من القضايا المستعصية والمعقدة، وربما تكون حماس الجهة الوحيدة القادرة على إيجاد حل لها، وبالتالي إيقاف الحرب؛ وبحسب ما كتب الدكتور تيسير عبد الله من غزة، لدى حماس خياران: وقف الحرب وحقن ما تبقى من دماء الأبرياء، وهذا يتطلب منها التضحية بنفسها (أي التخلي عن حكم غزة) لإنقاذ شعبها. والخيار الثاني استمرار الحرب، بكل ما تعنيه من استمرار إبادة المدنيين. وفي هذا الخيار ستحاول حماس الإبقاء على أمل استمرار حكمها والمحافظة على نفسها. وهي محاولة ليست مضمونة في ظل حجم التدمير الاحتلالي، وقد تخسر في هذا الخيار نفسها والشعب معا. ولذلك لا داعي للتركيز الشديد في البحث عن الكرة في أي ملعب الآن، أو أن تأتي المفاوضات بمعجزة.

ما كان غامضا في بداية الحرب، بات أقرب للوضوح.. والأهداف الكبيرة التي سعينا لها صارت أبعد وأبعد.. وصار منتهى الطموح أن تتوقف الحرب، ونحقن دماء من ظل على قيد الحياة.. وانتظار جولة صراع جديدة، على أمل أن نستفيد من هذه التجربة القاسية واللعينة.

مارس 05، 2024

النزعات الاستبدادية لدى النظم الثورية


تشترك الحركات والأنظمة الثورية الراديكالية بمجموعة من السمات والنزعات، سواء كانت جماعات أم دول.. أولها أنها تمتلك عقيدة أيدويولوجية، وتعتقد بيقين لا يتسرب إليه الشك أنها عقيدتها هي الأيديولوجيا الصحيحة والوحيدة، وأن نبيها أو فيلسوفها أو زعيمها المؤسس قال الحقيقة النهائية.. قد تكون هذه الأيديولوجيا إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، أو يسارية، أو قومية، أو يمينية.. لكنها من وجهة نظر أصحابها هي الصواب المطلق، وبالتالي لا تقبل أن أن ينافسها أو يقاسمها أحد، وعلى الآخرين إتباعها.

وعادة ما تقوم هذه الأيديولوجيا على فكرة التفوق العرقي (الشعب المختار، والعرق الأنقى، والدين الصحيح..)، وعلى قاعدة من ليس معي فهو ضدي، وعلى شيطنة الخصوم، ونزع أي صفة إنسانية عنهم، ومعاداتهم بمعادلة صفرية (إما نحن أو هم)، وهذا يلغي أي إمكانية للتعايش، أو للمساومات والحلول السياسية والإنسانية..

ومن خلال الإعلام (وهو دائما موجه) يتم الدمج ما بين الأيديولوجيا والشعار والمقدس من جهة مع القادة والزعماء من جهة أخرى، بحيث يتهيأ للعامة أن هؤلاء هم من يجسدون كل ذلك، فيكتسبون قداسة الديني، وطهارة الفكرة، وقوة الشعار، وهذا يمنح القائد إمكانية التفرد بالقرارات، وتصبح اجتهاداته نظرية ثورية، وشطحاته الفكرية قمة الحكمة، وبالتالي تتعطل أي إمكانية للمراجعات والنقد الذاتي، بل يصبح أي انتقاد للقيادة تعدٍ على المقدس، وشق للصف.. ومن ثم تستغل القيادة تلك القداسة والرمزية التي اكتسبتها بتمرير كل ما تريد، وبفرض سلطتها بالقوة والقمع والاستبداد، ودون أي مساءلة أو نقد.

قد تقبل السلطة الثورية تحالف أطراف أخرى لأغراض مصلحية وسياسية وضمن مرحلة مؤقتة، لكنها تظل تنظر للحليف على أنه تابع، وقد تقبل (أو تكون مجبرة على ذلك) بوجود فئات اجتماعية أو طوائف أو مجموعات ثقافية معينة ولا تتفق معها في الأيديولوجيا، لكنها ستخضعهم لقوانينها وتعاليمها. وستظل تنظر إليهم بفوقية أولاً، وبعقلية الشك والريبة، فهؤلاء بالنسبة إليهم إما كفارا، أو رعايا، أو أناس مضللون ويتوجب هدايتهم..

ستمتلك هذه الجماعة تنظيما هرميا (قد يكون سريا، أو علنيا فرض نفسه بالقوة، وقد يصبح الحزب الحاكم)، ولهذا التنظيم تراتبية صارمة، والعلاقات من بين القمة والقاعدة قائمة على السمع والطاعة والامتثال، وتنفيذ التعليمات بدقة.. وشيئا فشئيا، ومع انتشار التنظيم وأفكاره وتغلغله في المجتمع يتحول التنظيم وأتباعه والبيئة الاجتماعية إلى قطيع..

وبغض النظر عن طهارة ونقاء الرواد الأوائل، بمجرد استلام الحزب للحكم، أو سيطرة الجماعة على منطقة ما، تبدأ على الفور طبقة السلطة بالتشكل، وتتبلور معها مصالحها الخاصة، وهي مكونة من قيادات الصف الأول والثاني، وحلفائهم من التجار ورجال الدين، والعشائر، والتكوينات الأخرى المسيطرة، ومن كل طامح بالمشاركة، أو مستعد للتملق.. ومع مرور الوقت تبدأ مصالح هذه الطبقة بالتعارض والابتعاد عن مصالح عامة الناس، وخلال فترة وجيزة تتعمق التناقضات بين الطرفين، وبالطبع ستكون الغلبة للسلطة التي ستلجأ للقمع بالضرورة.

وغالبا ما ينشئ الحزب الحاكم تنظيمات شعبية مرادفة: مجموعات المؤيدين والأنصار، فرق كشافة، فتيان، نقابات واتحادات شكلية.. ويتم منحها صلاحيات وامتيازات محددة (خارجة عن القانون)، مما يدفع العامة للتقرب من هذه الجماعات وقياداتها للاستفادة من تلك المزايا.. وهذه بدوره ينثر بذور الفساد، والذي سرعان ما يتعمق، ويصبح من سمات المجتمع والنظام.

وأبرز ما يميز الجماعات الراديكالية ثقافة الشعارات، وغالبا ما تكون شعارات براقة، مصاغة بلغة قوية، وذات إيقاع مميز؛ جُمل مترادفة، أو ثلاث كلمات تحمل معاني معينة، أو عبارة ذات جرس موسيقي، وهذه الشعارات تتضمن الحقائق المطلقة، والمقدس الديني أو القومي، وتحث على التضحية والمشاركة والولاء.. بالإضافة للشعارات تأتي الخطابة، وهي عادة ما تكون فصيحة وبليغة وإنشائية، وتعتمد عليها السلطة لتمرير سياساتها على العامة، وتثويرهم وتحريكهم أو إشغالهم في قضايا أخرى.

ولأن الخطابة والشعارات قائمة على التمني والتفكير الرغائبي الممزوج بالثأر، والوعود والتهديد، وبلغة عاطفية خالية من المضامين، بل تتعارض مع المنطق، ومنفصلة عن الواقع، وأقرب للخيال والمثالية.. في النهاية ستصدم بالواقع، وسيظهر مدى خوائها وتخلفها.. الأمر الذي سيتسبب بالهزائم العسكرية، أو بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.. ولإبقاء المعنويات عالية سيلجأ الإعلام الموجه للكذب، أو صناعة رموز تعوّض الفشل والفراغ، وسيلجأ النظام للتهرب من الأزمات، وترحيل مشكلاته، أو تصديرها للخارج، من خلال تهم "المؤامرة الكونية"، والأعداء، والإمبريالية والصليبية.. وقد يلجأ للحروب الخارجية، أو محاربة من يسميهم أعداء الثورة، والطابور الخامس، والمنافقين، وعملاء الغرب..

ومع تفاقم الأزمات الداخلية، والفشل والفراغ يبدأ النظام بالاشتغال على الداخل، بإشغالهم بقضايا فرعية، وبالتركيز على التدين الشكلي، وتأدية الطقوس الدينية والاجتماعية، والأعياد الوطنية، وبالاستفادة من تناقضاتهم، ومن نقاط ضعفهم، وربما من خلال كرة القدم مثلا، أو إشغالهم بلقمة الخبز، وتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ومحاولة إيجاد "المواطن المستقر"، وتعميم ثقافة سلبية مفادها أنك طالما منشغل بحياتك الخاصة، ولا تنخرط في الهم العام، ولا تنتقد السلطة فأنت بأمان، وخلاف ذلك ستُجابة بكل قسوة.  

وسرعان ما ستتضح حقيقة رؤية السلطة الحاكمة للشعب، فهم في نظرها مجرد دافعي ضرائب، وأصوات انتخابية (في حالات معينة وشكلانية)، أو حشود تخرج في المظاهرات المؤيدة، ولاستعراض قوة وهيبة التنظيم، أو السلطة الحاكمة.. أو هم أضحيات وقرابين في سبيل تحقيق أهدافها، وستبرر السلطة ذلك عبر الشعارات والخطابات..

ولأن الجماهير تسعد بالكلام المعسول، وتطرب على الشعارات التي تمنيها بالنصر، وبالتهديدات التي تشفي غليلها، ممّا يلغي سمات التعقل والتبصر، فتتحول إلى جموع غاضبة ومنقادة، وتسمح للجهة الحاكمة باستغلالها، وهكذا تنشأ معسكرات العبيد تحت راية الحريّة التي وُعدوا بها، بل ويتم التضحية بهم في حروب عبثية باسم الدين والوطن والعقيدة.

هذا ما حصل حرفيا في أغلب الثورات (وربما جميعها)، تبدأ بقيادات نظيفة وصادقة، وأفراد وكوادر شجاعة، وبشعارات جميلة وبراقة.. ثم تتحول إلى نظم بوليسية وفاشية، مهووسة بالأمن والأجهزة الأمنية التي تعد على الناس أنفاسها. تماما كما حصل في مزرعة الحيوان لجورج أورويل.

ويستطيع القارئ تخيل أي نظام سياسي مرَّ على المنطقة في تاريخنا المعاصر، وسيجد أنه طبق ذلك حرفيا.. بما فيها تلك التي رفعت أجمل الشعارات..