بعد نحو عشرين
شهرا من القصف والقتل والتجويع والنزوح، وفي ذروة تصعيد العدوان الإسرائيلي ووصول
المنطقة إلى أخطر مفترق.. أصدرت حماس في غزة بيانا أو تعميما داخليا، هذا نصه:
"منذ اللحظة
الأولى، ونحن في غزة، سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعول على قوة بشر
ولا نرجو إلا نصره وتأييده.انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن
الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد، ومع ذلك رفعت صوتها عالياً: "من
أراد الفوز فليركب"، لكن ما استجاب أحد، ومن ركب لم يثبت.. فما هذه السفينة
إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع
الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات
الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وأقسم بالله ما خذل من صدق، وما ندم من
ثبت، أما من تخلف، فقد كتب على نفسه الخزي، وسيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا،
وحسرة لا تنطفئ في الآخرة, لا عذر بعد النداء، ولا رحمة لمن خاف في مواطن الثبات.
فالمعركة ماضية، والحق لا ينتظر المتأرجحين، ومن خاف الركوب، فقد اختار الغرق بيده.
أما نحن فقد أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه،
ويقيننا أن السفينة التي أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، لا تغرق ولو
اجتمعت أمواج الأرض عليها.. هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه
قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن.. هذه سفينة العقيدة
الخالصة، لا يعلو على ظهرها إلا رجال عرفوا طريقهم، ومضوا إليه لا يلوون على شيء ..وإن النصر آت، والفرز قد وقع، وكل متخاذل سيسقط عن ظهرها ولو تظاهر بالثبات،
فالمعركة لا ترحم، والحق لا يتزين بالمنافقين".
بالقراءة السريعة
نلحظ اللغة والمفردات الدينية، وأسلوب السجع والخطابة والإنشاء والتعميمات والأحكام
المطلقة.. خطاب عاطفي يخلو من المنطق، ومن السياسة، ولا يصلح لهذا العصر،، وعموما
هذا هو النمط الشائع للخطاب الديني، الموجه للعامّة والبسطاء، كلام مزخرف بلا
مضمون.
بالتمعن في
البيان نصل إلى استنتاجات عديدة؛ أولها أن حماس لا تستشعر بأي ذنب أو مسؤولية تجاه
الحرب التي جرتها إلى غزة وسائر المنطقة، وليس في نيتها إجراء أي تقييم أو مراجعة أو
نقد لمغامرتها العسكرية، بل إنها متمسكة بأطروحاتها، وتنظر إلى نفسها بنرجسية مفرطة،
معتبرة نفسها ممثلا حصريا للحق، وكل من لم يتوافق مع أطروحاتها متخاذل، وكتب على
نفسه الخزي، واختار الغرق بيده.
وثانياً: ليس
في البيان ولا في خطاب حماس عموما أي تحمّل للمسؤولية تجاه المآسي التي جلبتها
الحرب، مآسي الأيتام والأرامل والنازحين، ومن تهدمت بيوتهم، ومن فقدوا مستقبلهم..
بل على العكس ترى أنها بنت سفينة الخلاص و"من أراد الفوز فليركب، ومن تخلف عن
الركوب سيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة".. بمعنى
أن كل من لم يلتحق بركب حماس وأراد النجاة بنفسه وعائلته جبان ومتردد وسيخسر
الدنيا والآخرة! وهذه نظرتها إلى البيئة الحاضنة للمقاومة!
وثالثاً: يعترف
البيان أن حماس لجأت لمغامرتها العسكرية دون حسابات عقلانية، ودون تخطيط ولا
دراسات، بل فقط رهان على الغيب، وكأن التوكل على الله دون إعداد حقيقي يجلب النصر؛
"منذ اللحظة الأولى سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعول على قوة
بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده"، ويعترف أيضا أن الحركة لم تشاور أحدا حتى أقرب
حلفائها؛ "انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة،
مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد".. مع إن هذا يتناقض مع خطاب "الضيف"
الذي راهن على الأمة الإسلامية والشعوب العربية وأحرار العالم.. فإذا بهم يكتشفون أن
"الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد". وهو اكتشاف متأخر جداً.
ورابعاً: هذا
البيان يرسخ خطاب حماس الإقصائي الذي يضعها فوق الشعب ومنفصلة عنه؛ "ما هذه
السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا
من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم
الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه".. السفينة هي حماس وأنصارها
أصحاب العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع، والشعب هو ابن نوح الكافر الذي رفض
الصعود مع سفينة المؤمنين فأغرقه الطوفان.. الشعب الذين أغرتهم الرايات البالية! والمتلونة
قلوبهم! ولم يصدقوا ما عاهدوا الله عليه! ويضيف البيان: "هذه ليست سفينة
المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى
ويزن الثمن".. هذا ليس تأكيدا على نهج الإقصاء وحسب، بل وأيضا "لا مكان لمن
يحسب الخطى ويزن الثمن".. لا مكان ولا داعي لحسابات العقل والسياسة والواقع
ومعادلات موازين القوى. ولا ضرورة لتقدير الموقف، ولا للتخطيط وتوقع ردات الفعل والأثمان
التي ستُدفع.. إضرب وتوكل على الله! فهناك يقين غيبي أن السفينة أُسست على الإخلاص،
ورفعت أشرعة التوكل، وبالتالي لن تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها! الإخلاص والتوكل
هي عدة الحرب وأدوات المواجهة وشروط الانتصار.. لذلك وصلنا إلى هذه النتيجة
الكارثية.. لكنا عرفنا أي نوع من الإخلاص، وتجاه من، والتوكل على ماذا.. توكل على إيران
ومحور المقاومة وعلى شعوب مقموعة وعاجزة وأنظمة مرتبطة.. توكل ورهان على كومة من الأوهام.
الحقيقة المؤسفة أن أمواج الأرض اجتمعت وأغرقت غزة بمن فيها.
وخامساً: "أبحرنا
لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه"، لن نحاكم النوايا،
ولكن إذا صح القول، فهذا لا يعني أبدا أن الشعب محرم عليه أن يطلب الحياة والرفاه
والدنيا والسلطة، وكأن ذلك يتناقض مع ابتغاء وجه الله ورضاه، الوضع الطبيعي أن أهل
غزة وسائر شعوب الأرض يحبون الدنيا، ويسعون للحياة، وهذه سمة إيجابية وأصيلة وهدف
نبيل.. الإنسان السوي لا يمكن أن يكون الموت أسمى أمانيه، لا في سبيل الله ولا في
سبيل الوطن، أسمى أماني الإنسان الحياة، فهي هبة الله وهديته الأثمن ومن يفرط بها
يعتدي على إرادة الخالق.