من حيث
التتابع الزمني يصح القول أن حل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن من تداعيات
طوفان الأقصى، تماما كما حصل مع حزب الله (الذي تدمرت مقدراته وتم تحييده)، وما
حصل مع الدولة اللبنانية التي شكلت نظاما جديدا مختلفا عن سابقه في كل ما يتصل بأطروحات
"محور المقاومة"، وبالتأكيد التغيير الأبرز كان سقوط نظام الأسد، وأيضا إضعاف
النفوذ الإيراني وضرب وتحييد أذرع إيران في العراق واليمن.. فضلا عما حصل أساسا مع
حماس، من حيث تدمير قدراتها العسكرية واغتيال قادتها وكوادرها وحشرها في الزاوية..
وبالعودة إلى
حل جماعة الإخوان في الأردن، أرى أن الموضوع أبعد وأكبر من مسألة تداعيات الطوفان؛
الموضوع في جوهره التغيير الذي بدأ في شكل وخرائط الشرق الأوسط، ليس بالتقسيم أو
بتغيير الحدود أو بإسقاط أنظمة وتنصيب أخرى.. التغيير الأهم هو في دورها الوظيفي.
أحد معالم هذا
التغير محاولة إنهاء ظاهرة الإسلام السياسي، أو دفعها لتغيير أدوارها وخطابها،
فقبل حل الجماعة في الأردن، كان النظام السوري الجديد قد اعتقل قياديين من الجهاد
الإسلامي، وأصدر مرسوما يقيد ويحجّم دور فصائل المقاومة، وهذا يشمل الفصائل
الجهادية التي كانت جزءا من المعارضة السورية.. ومع أن النظام الجديد أتى محمولا
على قوى الإسلام السياسي الجهادي، وكما هو معلوم فإن الرئيس الشرع والعديد ممن تم
تعيينهم في مناصب مهمة في الدولة هم أساسا من "الإسلام الجهادي"، أي أنهم
أصوليون، بيد أن الأهم هو أن التفاهمات الأميركية الروسية التركية (ويمكن إضافة الإسرائيلية)
هي التي ساعدت في ولادة النظام الجديد، وحددت له شكلا ومضمونا ودورا وظيفيا معينا.
وفي لبنان،
وبعد إضعاف حزب الله، بدأت الدولة بخطوات تشبه ما أقدمت عليه سورية، من حيث تقييد
وحظر أنشطة الجماعات الأصولية، وربما تسارع في إصدار قرار بحظر حماس والجهاد من
العمل والتواجد في الأراضي اللبنانية.
وكانت السعودية
والإمارات وموريتانيا ومصر قد أصدرت قبل سنوات قرارات بحل جماعة الإخوان وحظر أنشطتها،
واعتبارها خطرا على الأمن القومي..
وهنا سأقتبس من مقال للكاتب إبراهيم عجوة: "في الإطار الإقليمي، يأتي قرار
حظر الجماعة في ظل مناخ عربي يتّجه، بشكل متسارع، نحو تجفيف منابع الإسلام
السياسي، وإعادة تشكيله بما يتماشى مع أولويات "الدولة الوطنية" التي
تسعى لتثبيت الاستقرار عبر أدوات السيطرة المركزية. حيث يتقاطع القرار الأردني مع
مسارات إقليمية تُعيد تعريف العلاقة مع قوى الإسلام السياسي بوصفها تهديد لا مجرد
خصوم سياسيين، وهو ما تجلّى بوضوح منذ سقوط حكم الإخوان في مصر 2013، ثم تصاعد
السياسات الإقصائية في الخليج، وأخيرًا التطورات في غزة التي زجّت بالحركات
الإسلامية في قلب صراع إقليمي حاد تتجاوز رهاناته الساحة الفلسطينية".
ويضيف "عجوة": "لا ينفصل قرار حظر الجماعة في الأردن عن
التحولات الكبرى في وظيفة الدولة ما بعد سايكس بيكو، إذ يكشف عن انتقال متسارع من
الدولة بوصفها "حارسًا للتوازنات الاجتماعية" إلى الدولة بوصفها
"ميسّرا" في فضاء إقليمي يعاد تشكيله خارج حدود السيادة التقليدية؛ فالدولة
التي نشأت في أعقاب سايكس بيكو كانت دولة وظيفية بامتياز، أنيط بها ضبط المجال
المحلي ضمن ترتيبات النظام الدولي وتجلياته في النظم الإقليمية، وهو ما جعلها تتعايش
وتستثمر في الحركات الإسلامية طالما لم تتجاوز الخطوط الحمراء.
لكن مع تبدل النظام الدولي، وتآكل منطق الدولة القومية لصالح بنى تحتية
عابرة للحدود (ممرات تجارية، تنمية اقتصادية معولمة، أمن سيبراني، اقتصاد تشاركي)،
تغيّرت وظيفة الدولة نفسها: لم تعد مسؤولة عن تمثيل شعب أو بناء أيديولوجيا وطنية،
بل باتت ملزمة بتنسيق انسيابية المصالح الإقليمية والدولية، وتنظيم المجتمع بما يتلاءم
مع ضرورات التنمية العالمية، في هذا السياق، تصبح الحركات الأيديولوجية العابرة
للحدود (وفي مقدمتها الإخوان) عبئًا على وظيفة الدولة الجديدة، لا رصيدًا سياسيًا.
فوظيفة الجماعة كحامل اجتماعي أو سياسي لم تعد متوافقة مع النسق الأمني-اللوجستي
الجديد، الذي يقتضي تنميط المجال العام، وتحويله إلى فضاء منضبط، قابل للتكامل في
شبكات إقليمية ترفض التسييس الديني وتخشى من الطابع العابر للسيطرة الوطنية الذي
تمثله الجماعة.
فحالة التعايش السابقة صارت تهديدًا لأنماط التنسيق الإقليمي والدولي، فالدولة
لم تعد بحاجة إلى جماعة مثل الإخوان لأنها لم تعد بحاجة إلى "ضبط الوعي"
أو "تصريف الغضب" في إطار سياسي اجتماعي. بل أصبحت معنية أساسًا بضبط
الحيز، وضمان الامتثال، وتصفية الفاعلين غير المتناغمين مع البنية الإقليمية
الجديدة التي يجري بناؤها على أنقاض سايكس بيكو.
وبالتالي قرار حظر الجماعة لا يعبّر فقط عن لحظة سياسية داخلية، بل يُدرج
ضمن مسار أوسع يشي بتراجع الإسلام السياسي في المنطقة، بوصفه مشروعا أيديولوجيا
وتنظيميا كان يُعوّل عليه لوراثة الدولة الوطنية. وفي هذا السياق، فإن الضربات
القاسية التي تلقتها حركة حماس بصفتها الرمزية تمثل الحلقة الأوضح في سلسلة تفكيك
هذا المشروع.
النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه أميركا لا يحتاج إلى خرائط مغلقة، بل
إلى ممرات مفتوحة. لا يهتم بالسيادة بقدر ما يهتم بالكفاءة التشغيلية. ومن هنا،
تظهر قواعد الاشتباك الجديدة، ويتجلّى ذلك في الانتقال من الدولة إلى الوظيفة
والممرّ؛ فأميركا ترى دول الشرق الأوسط اليوم مجرد بنى تحتية لا دولًا. العراق
ممرّ طاقة لا جمهورية. سوريا ساحة توازنات لا كيان سيادي. لبنان منصة مالية هشّة
لا جمهورية ديمقراطية. إسرائيل عقدة ذكية ونقطة عبور، والخليج محطة تمويل، والأردن
عقدة عبور، ومصر منفذ بحري وبهذا، تصبح وظيفة الدولة أهم من شكلها، ويُعاد توزيع
الكيانات وفقًا لموقعها في سلاسل الإمداد لا كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة".
(انتهى الاقتباس).
محددات ومعايير النظام الدولي الجديد مختلفة كليا عن السابق؛ صارت نقاط القوة
تعتمد على الاقتصاد المعولم، والأمن السيبراني، والممرات التجارية، وسلاسل الإمداد،
والطاقة.. والهدف الانتصار في الحرب التجارية.. الخصوم ميليشيات وجماعات مسلحة.. أما
المشاريع المطروحة فأهمها: تنفيذ طريق الهند الإمارات فلسطين، وشق قناة بونغوريون،
والسيطرة على حقول الغاز ومنابع النفط.. وهذه تُدار بعقلية تاجر عقارات، بمساعدة
قوى اليمين الصهيوني وأطماعها التوسعية.