أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 25، 2025

تغيير شكل الإقليم سياسيا ووظيفيا

 

من حيث التتابع الزمني يصح القول أن حل جماعة الإخوان المسلمين في الأردن من تداعيات طوفان الأقصى، تماما كما حصل مع حزب الله (الذي تدمرت مقدراته وتم تحييده)، وما حصل مع الدولة اللبنانية التي شكلت نظاما جديدا مختلفا عن سابقه في كل ما يتصل بأطروحات "محور المقاومة"، وبالتأكيد التغيير الأبرز كان سقوط نظام الأسد، وأيضا إضعاف النفوذ الإيراني وضرب وتحييد أذرع إيران في العراق واليمن.. فضلا عما حصل أساسا مع حماس، من حيث تدمير قدراتها العسكرية واغتيال قادتها وكوادرها وحشرها في الزاوية..

وبالعودة إلى حل جماعة الإخوان في الأردن، أرى أن الموضوع أبعد وأكبر من مسألة تداعيات الطوفان؛ الموضوع في جوهره التغيير الذي بدأ في شكل وخرائط الشرق الأوسط، ليس بالتقسيم أو بتغيير الحدود أو بإسقاط أنظمة وتنصيب أخرى.. التغيير الأهم هو في دورها الوظيفي.

أحد معالم هذا التغير محاولة إنهاء ظاهرة الإسلام السياسي، أو دفعها لتغيير أدوارها وخطابها، فقبل حل الجماعة في الأردن، كان النظام السوري الجديد قد اعتقل قياديين من الجهاد الإسلامي، وأصدر مرسوما يقيد ويحجّم دور فصائل المقاومة، وهذا يشمل الفصائل الجهادية التي كانت جزءا من المعارضة السورية.. ومع أن النظام الجديد أتى محمولا على قوى الإسلام السياسي الجهادي، وكما هو معلوم فإن الرئيس الشرع والعديد ممن تم تعيينهم في مناصب مهمة في الدولة هم أساسا من "الإسلام الجهادي"، أي أنهم أصوليون، بيد أن الأهم هو أن التفاهمات الأميركية الروسية التركية (ويمكن إضافة الإسرائيلية) هي التي ساعدت في ولادة النظام الجديد، وحددت له شكلا ومضمونا ودورا وظيفيا معينا.

وفي لبنان، وبعد إضعاف حزب الله، بدأت الدولة بخطوات تشبه ما أقدمت عليه سورية، من حيث تقييد وحظر أنشطة الجماعات الأصولية، وربما تسارع في إصدار قرار بحظر حماس والجهاد من العمل والتواجد في الأراضي اللبنانية.

وكانت السعودية والإمارات وموريتانيا ومصر قد أصدرت قبل سنوات قرارات بحل جماعة الإخوان وحظر أنشطتها، واعتبارها خطرا على الأمن القومي..

وهنا سأقتبس من مقال للكاتب إبراهيم عجوة: "في الإطار الإقليمي، يأتي قرار حظر الجماعة في ظل مناخ عربي يتّجه، بشكل متسارع، نحو تجفيف منابع الإسلام السياسي، وإعادة تشكيله بما يتماشى مع أولويات "الدولة الوطنية" التي تسعى لتثبيت الاستقرار عبر أدوات السيطرة المركزية. حيث يتقاطع القرار الأردني مع مسارات إقليمية تُعيد تعريف العلاقة مع قوى الإسلام السياسي بوصفها تهديد لا مجرد خصوم سياسيين، وهو ما تجلّى بوضوح منذ سقوط حكم الإخوان في مصر 2013، ثم تصاعد السياسات الإقصائية في الخليج، وأخيرًا التطورات في غزة التي زجّت بالحركات الإسلامية في قلب صراع إقليمي حاد تتجاوز رهاناته الساحة الفلسطينية".

ويضيف "عجوة": "لا ينفصل قرار حظر الجماعة في الأردن عن التحولات الكبرى في وظيفة الدولة ما بعد سايكس بيكو، إذ يكشف عن انتقال متسارع من الدولة بوصفها "حارسًا للتوازنات الاجتماعية" إلى الدولة بوصفها "ميسّرا" في فضاء إقليمي يعاد تشكيله خارج حدود السيادة التقليدية؛ فالدولة التي نشأت في أعقاب سايكس بيكو كانت دولة وظيفية بامتياز، أنيط بها ضبط المجال المحلي ضمن ترتيبات النظام الدولي وتجلياته في النظم الإقليمية، وهو ما جعلها تتعايش وتستثمر في الحركات الإسلامية طالما لم تتجاوز الخطوط الحمراء.

لكن مع تبدل النظام الدولي، وتآكل منطق الدولة القومية لصالح بنى تحتية عابرة للحدود (ممرات تجارية، تنمية اقتصادية معولمة، أمن سيبراني، اقتصاد تشاركي)، تغيّرت وظيفة الدولة نفسها: لم تعد مسؤولة عن تمثيل شعب أو بناء أيديولوجيا وطنية، بل باتت ملزمة بتنسيق انسيابية المصالح الإقليمية والدولية، وتنظيم المجتمع بما يتلاءم مع ضرورات التنمية العالمية، في هذا السياق، تصبح الحركات الأيديولوجية العابرة للحدود (وفي مقدمتها الإخوان) عبئًا على وظيفة الدولة الجديدة، لا رصيدًا سياسيًا. فوظيفة الجماعة كحامل اجتماعي أو سياسي لم تعد متوافقة مع النسق الأمني-اللوجستي الجديد، الذي يقتضي تنميط المجال العام، وتحويله إلى فضاء منضبط، قابل للتكامل في شبكات إقليمية ترفض التسييس الديني وتخشى من الطابع العابر للسيطرة الوطنية الذي تمثله الجماعة.

فحالة التعايش السابقة صارت تهديدًا لأنماط التنسيق الإقليمي والدولي، فالدولة لم تعد بحاجة إلى جماعة مثل الإخوان لأنها لم تعد بحاجة إلى "ضبط الوعي" أو "تصريف الغضب" في إطار سياسي اجتماعي. بل أصبحت معنية أساسًا بضبط الحيز، وضمان الامتثال، وتصفية الفاعلين غير المتناغمين مع البنية الإقليمية الجديدة التي يجري بناؤها على أنقاض سايكس بيكو.

وبالتالي قرار حظر الجماعة لا يعبّر فقط عن لحظة سياسية داخلية، بل يُدرج ضمن مسار أوسع يشي بتراجع الإسلام السياسي في المنطقة، بوصفه مشروعا أيديولوجيا وتنظيميا كان يُعوّل عليه لوراثة الدولة الوطنية. وفي هذا السياق، فإن الضربات القاسية التي تلقتها حركة حماس بصفتها الرمزية تمثل الحلقة الأوضح في سلسلة تفكيك هذا المشروع.

النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه أميركا لا يحتاج إلى خرائط مغلقة، بل إلى ممرات مفتوحة. لا يهتم بالسيادة بقدر ما يهتم بالكفاءة التشغيلية. ومن هنا، تظهر قواعد الاشتباك الجديدة، ويتجلّى ذلك في الانتقال من الدولة إلى الوظيفة والممرّ؛ فأميركا ترى دول الشرق الأوسط اليوم مجرد بنى تحتية لا دولًا. العراق ممرّ طاقة لا جمهورية. سوريا ساحة توازنات لا كيان سيادي. لبنان منصة مالية هشّة لا جمهورية ديمقراطية. إسرائيل عقدة ذكية ونقطة عبور، والخليج محطة تمويل، والأردن عقدة عبور، ومصر منفذ بحري وبهذا، تصبح وظيفة الدولة أهم من شكلها، ويُعاد توزيع الكيانات وفقًا لموقعها في سلاسل الإمداد لا كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة". (انتهى الاقتباس).

محددات ومعايير النظام الدولي الجديد مختلفة كليا عن السابق؛ صارت نقاط القوة تعتمد على الاقتصاد المعولم، والأمن السيبراني، والممرات التجارية، وسلاسل الإمداد، والطاقة.. والهدف الانتصار في الحرب التجارية.. الخصوم ميليشيات وجماعات مسلحة.. أما المشاريع المطروحة فأهمها: تنفيذ طريق الهند الإمارات فلسطين، وشق قناة بونغوريون، والسيطرة على حقول الغاز ومنابع النفط.. وهذه تُدار بعقلية تاجر عقارات، بمساعدة قوى اليمين الصهيوني وأطماعها التوسعية.

الدولة والجماعات الإسلامية وتبادل الأدوار


في ردهم على قرار الدولة الأردنية بحلّ جماعة الإخوان المسلمين وجّه نشطاء اتهامهم للحكومة (ولكافة الأنظمة) أنها تشن حربا على الإسلام، وتستهدف العقيدة.. إلخ، فهل هذا الإدعاء صحيح؟

وبحسب المرحوم نصر حامد أبو زيد فإن الفرق بين جماعات الإسلام السياسي والنظم السياسية فيما يتعلق بالتطرف والتشدد والمفاهيم الرجعية هو فرق وهمي، فرق في درجة التشدد وكيفية إظهاره، وفي الأسلوب والأدوات.. لكن النتيجة واحدة، إخضاع المجتمع لمفهوم مغاير للدين يخدم الطرفين، بحيث يجر المجتمع إلى حالة دينية مغرقة في التدين الشكلي والشعارات الغيبية والتشدد في قضايا لم يرد ذكرها لا في الكتاب ولا في السنة ولم يطلبها الدين أساساً.

في الحقيقة ظاهرة أحزاب الإسلام السياسي جزء من ظاهرة أكبر وأشمل، تشترك فيها الدولة ومؤسساتها الرسمية والتعليمية والمدنية وحتى الجماهير أنفسهم، يشتركون جميعا في المفاهيم والخطاب الديني السائد، هم متشابهون فكريا وثقافيا ودينيا، الخلاف فقط سياسي وحزبي وعلى السلطة، جميعهم يرجع إلى نفس المصادر الفكرية والفقهية والأدلة الشرعية سواء المتطرفين أو من يوُصفون بالمعتدلين؛ في الجوهر لا فرق بين خطاب داعش وجبهة النصرة، وبين الإخوان المسلمين وحزب التحرير، وبين الخطاب الديني الرسمي.. الاعتراض على داعش لأنها طبقت أفكارها بشكل مستفز ومتوحش ومبالَغ فيه، والاعتراض على الإخوان أو على أي حزب ديني آخر هو اعتراض سياسي له علاقة بالسلطة والانتخابات والنفوذ والهيمنة على عقول الجماهير، أو بالتحالفات السياسية الإقليمية وأجندة الممولين. أو هو خلاف على تأويل الدين ومن يحتكر تمثيله، وتعبيرا عن هذا الخلاف يتهم رجال الدين الرسميين مشايخ الجماعات الإسلامية بأنهم متطرفين وإرهابيين، فيما تتهم تلك الجماعات رجال الدين الرسميين بأنهم فقهاء سلاطين، ومتملقين، أو حتى منافقين..

في الواقع الدولة (لا أقصد الأردن تحديدا، فهذا ينطبق على جميع الدول) لا تحارب الإسلام كدين وعقيدة وشعائر وعبادات وثقافة شعبية.. ليس للدول أي اعتراض على أركان الإسلام وأركان الإيمان ومفاهيم العقيدة وجميع الطقوس الدينية، ولا تمنع أحد من ممارسة تدينه، الدولة همّها الأول والأهم البقاء والحفاظ على مصالحها وحدودها وأمنها ونظامها.. وما عدا ذلك تفاصيل هامشية.

وتاريخيا كانت الدولة تحتمي بالجماعات الدينية وبرجال الدين وبتأويلها الخاص للدين وباحتكارها له، وكان هذا السبب الأقوى والأهم لبقاء الدول واستمرارها، وكانت المؤسسة الدينية المستفيد الأول، وظل التعايش بينها قائما. وحالة التوافق أو تبادل الأدوار التي كانت قائمة ومستقرة في تنظيم هذه العلاقة لا يمكن أن تستمر للأبد، ولا بد من إعادة تشكيلها من حين إلى حين وفقا للطرف الأقوى..

الدولة هي التي ترعى المساجد مثلا، فهي تتدبر كافة مصاريفها (من خلال وزارة الأوقاف) كالبناء، والمصاريف التشغيلية، ورواتب العاملين فيها، مثل خطيب صلاة الجمعة، الإمام، المؤذن، الحارس.. وبدون الدولة (أو على الأقل موافقتها) لا يستطيع الأهالي بناء المساجد والإنفاق عليها.. ولا يبدو واضحا هل تفعل الدولة ذلك لوجه الله، وإيمانا منها بأهمية المسجد بالنسبة لكل مسلم؟ أم لأغراض أخرى؟

لكن من الواضح أن الدولة تريد إبقاء سيطرتها على المسجد، فتحدد لخطيب الجمعة موضوع الخطبة، وتراقب أنشطة المسجد ورواده، وستفصل أو تعتقل أي موظف يتبع الأوقاف أو أي شخص إذا ما خرج عن خط الدولة خاصة السياسي والأمني.

ومع ذلك، في العديد من المناطق فقدت الدولة سيطرتها الكاملة على المسجد، وسمحت لجماعة دينية ما تولي السيطرة عليه، أو أنها أُرغمت على ذلك، ولكن لنبحث عن أسباب الخلاف..

الأمر ذاته ينطبق على لجان الزكاة والمؤسسات الإعلامية والجمعيات الخيرية التي تتبع الجماعات الإسلامية، والتي تشكل اقتصاد موازي وضخم وقائم بذاته، وفي كثير من الأحيان لا يخضع لرقابة الدولة، وتستخدم الجماعات تلك الجمعيات في استقطاب الأتباع وكسب شعبيتها التي ما أن تتضخم حتى تبدأ في ابتزاز الدولة، والاستفادة منها في الانتخابات.

وأيضا رياض الأطفال ودور القرآن الكريم، التي تستخدمها في استقطاب الأطفال والفتية والشبان وتستغلهم فيما بعد لتنفيذ قراراتها باندفاع ودون سؤال.

والدولة لا تكتف بالمشاركة في الاحتفالات والمناسبات الدينية، بل تشارك في محاربة حالات التنوير، واعتقال أي مفكر يخرج عن السياق التقليدي أو يأتي بفلسفة دينية حداثية، أو منع أي عمل فني أو أدبي يطرح مفهوما تحرريا تقدميا منفلتا عن ضوابط السلفية، لا بل أحيانا تجابه المظاهر المدنية العلمانية الطبيعية التي يصنفها فقهاء التشدد والسلفية بأنها خارجة عن الدين، مثل أزياء النساء، والحريات الشخصية، وحتى سن قوانين غير عصرية متشددة تعود لبيئة القرن الثاني الهجري مثل قوانين الأحوال الشخصية وقوانين الأسرة، فضلا تمسكها بالمناهج الدراسية التي وضعها الإخوان والقوى السلفية الأخرى. ورعايتها "كليات الشريعة" المصدر الأهم للفكر الديني السياسي، ومنبع رجال الدين الرسميين والجهاديين، ورعايتها كافة المؤسسات الإعلامية التي تروج لخطاب التشدد وخطاب الإسلام السياسي.

ما حدث فعليا أن الدول صارت تزاود على الجماعات الإسلامية بالتطرف والتشدد وإغراق المجتمع بالمفاهيم الدينية، في الأردن ظل التحالف بين النظام والإخوان المسلمين منذ أربعينات القرن الماضي حتى العقد الأخير، حين بدأت تظهر معالم التشقق والخلاف والصراع.. في سورية أيام بشار وقد يستغرب القارئ مدى حرص النظام آنذاك على إتاحة المجال لنمو وازدهار الخطاب الديني المتشدد، وإتاحة المجال للقوى الجهادية والسلفية لممارسة أنشطتها، حتى على حساب القوى العلمانية (بغض النظر عن النوايا والأهداف) كانت النتيجة واحدة والممارسة واحدة.. في مصر بدأت هذه العلاقة وتبادل المصالح منذ بداية عهد السادات.. في السودان طبق نظام النميري الشريعة (قبل البشير).

وما حصل لاحقا أن الدول بعد أن فقدت سيطرتها واهتزت عروشها اعتقدت أن المزاودة على الإسلاميين سيجعلها تكسب الشعب، وأنَّ قمع الجماعات الإسلامية سيساهم في الحد من التطرف، وسيجعلها قادرة على تصدير نسخة معدلة من الدين بتأويل خاص يمكنها من الاستمرار والبقاء.


أبريل 22، 2025

أصدقاء، وصداقات

 

ثمة صديق لك (وربما شلة أصدقاء) جمعتكما الأقدار منذ سنوات الطفولة أو الشباب، وظلت الصداقة دافئة وممتدة، وتنبض بالحياة.. هذا الصديق بالذات ربطتك به كيمياء خفية، فكان عاديا أن تحتفظ بصداقته، خاصة بعد مروركما بالتجارب القاسية وامتحانات الحياة الصعبة.. احتفظ بصداقته، وتمسك به، فهو عملة نادرة..

أصدقاؤك القدامى أيام المدرسة، وحتى الجامعة، ليس بالضرورة هم أصدقاؤك الآن، وليس شرطا أن تظل متمسكا بهم، فبعد كل تلك السنين، صار لكل صديق عالمه الخاص، وأفكاره وتوجهاته وهمومه.. فعندما كنا صغارا لم يكن همنا سوى اللعب والمتعة، وهذه لا تفـرّق، وما أن كبرنا حتى بدأت حيواتنا تتمايز وأفكارنا تتباين والمسافات بيننا تتباعد.. فيحدث أن تلمح أحدهم على الرصيف المقابل فتشيح وجهك للاتجاه الآخر.. أو تتصافحان بابتسامة مصطنعة وتتبادلان الأسئلة: شو أخبارك؟ وين أراضيك؟ نصحان، مشيّب، بعدك شباب.. إلخ، ثم يمضي كل واحد في طريقه..

طبعا، هنالك دوما أشخاص فُرضوا عليك في مرحلة ما، أو نشأت بينكم صداقة بمستوى معين.. أحيانا يزورونكم على شكل كوابيس، أو كذكرى ثقيلة مثقلة بالغباء، تتمنى لو تعرف كيف تنزعهم من ذاكرتك، وتطردهم إلى أقاصي الأرض..

قد يظل من إرث الماضي صديق (أو أكثر) تربطك به وشائج خاصة، وتشتاق إليه.. لم تلتق به منذ سنوات، وعندما تلتقي به ولو صدفة سيكون أول لقاء دافئا، تستعيدان الذكريات، وتعرفان أخبار بعضكما، وأين انتهت بكم الحياة، وعلى أي شاطئ قذفتكم أمواجها.. قد تعود المياه إلى مجاريها، وكأن تلك الفجوة الزمنية لم تكن، فتواصلان صداقتكما.. وقد يكون ذلك اللقاء كافيا، فتتبادلان أرقام الهواتف، وعلى الأرجح لن يتصل أحد بالآخر، أو تتبادلان عناوينكما على صفحات التواصل، فتعود الصداقة افتراضية، وعن بعد..

وثمة صديق عزيز بينكما ذكريات جميلة ومغامرات شيقة، وقد مضت سنوات كثيرة لم تره، ولم تسمع عنه.. ستبحث عنه بإلحاح على شبكات التواصل (التي جمعت الناس بطريقة مدهشة وغير مقصودة)، وبعد جهد جهيد ستعثر على اسمه، ستبادر بطلب صداقته، أو مراسلته على "الواتس".. ستتحدثان مطولا، وستضحكان على هَبل أيام "الزمن الجميل"، وسيسأل كل واحد الآخر عن أصدقاء مشتركين منتشرين في عموم الكوكب.. ستتعاهدان على التواصل وتبادل الزيارات في أقرب فرصة.. وهذا نادرا ما يحدث، وسيستأنف كلٌ منكما حياته القديمة والمعتادة، وقد أُضيف إليها ميزة وضع "لايك" على منشور أو تهنئة بمناسبة اجتماعية.. لكن دفء العلاقة تبخر، وصارت مجرد ذكرى..

في كل مرحلة عشتها كان لك صديق مقرب، وبانتقالك إلى المرحلة التالية نسيته، وكسبت صديقا جديدا، على الأغلب لفترة مؤقته، مع أنك كنت تعتقد أن صداقتكما ستظل للأبد.. هذا زمانيا، أما مكانيا فالأمر مشابه تماما: في الجامعة لك أصدقاء، وفي مكان العمل لك أصدقاء، ومن بين جيرانك لك أصدقاء، وفي النادي أو المقهى لك أصدقاء.. وهؤلاء لا يعرفون بعضهم بعضا.. وتظن نفسك الرابط العجيب بينهم.. وفي الواقع كل واحد منهم يحمل الشعور ذاته.. وفي الحقيقة هذه صداقات مؤقتة، أقرب للزمالة، وغالبا ما ترسب في أول امتحان عملي.. والأفضل أن تظل عند هذا المستوى..

ثمة صديق حقيقي، تحبه ويحبك.. لكنه يسكن بعيدا، في بلد نائي، ربما في أقاصي الدنيا، ومضى وقت طويل لم تره.. ستشعرك لوعة الفراق أنك خسرت سنينا كان من المفترض أن تكون رائعة بصحبة ذلك الصديق، وأنكما خسرتما لحظات حميمة، وسهرات ممتعة، وذكريات كان مفترضا أن تتشكل.. سيظل ذلك الصوت الداخلي يحذرك من معاودة الاتصال به، ستخيفك فكرة أنه تغير، ولم يعد ذلك الشخص الذي جمعتكما أشياء كثيرة، فأنت لا تعلم يقينا كيف صار؟ ستخشى فقدانه، وستفضّل أن تظل صورته القديمة في ذاكرتك، كما تركته قبل سنوات بعيدة.. أحيانا الذكريات أجمل من الواقع.

وهناك صديق متخيَّل طالما سمعت عنه من حولك وهم يتحدثون عنه، ويشيدون به، ويعددون سماته الفريدة، أو يقصّون مغامراته الجسورة.. أو أنك عرفته من العالم الافتراضي، قرأت منشوراته على فيسبوك، وأعجبتك شخصيته وطريقة تفكيره واعتقدت أنه مقرب منك، ويشبهك.. ستتمنى لو أنه صديقك في العالم الحقيقي، أو أنك عرفته منذ زمن.. لكنك أيضا ستخاف من احتمالية أنه لن يرحب بك، أو أنَّ أفكاره وتوجهاته نظرية، وفي الواقع هو شخص مختلف، أو عادي، أو قميء، أو رائع، لكنه لن يكون صديقك.. أحيانا "أن تسمع بالمعيدي خيرا من لقائه".. وأحيانا التخيلات أفضل من الواقع.    

وهنالك صديق مر سريعا في حياتك، مثل ومضة خاطفة، لكنه ترك أثرا طيباً، وذكرى لطيفة.. والآن انقطعت أخباره، ولا تدري تحت أي سماء هو، ستشعر باشتياقٍ مزمن تجاهه.. ابحث عنه، قد تجده يبادلك الشعور..

وبالتأكيد، لا بد من وجود الصديق المزعج/ طيب القلب.. والصديق الخبيث/ حلو اللسان.. وصاحب المصلحة.. لا تنس أن العلاقات الإنسانية كلها قائمة على تبادل المصالح والمنافع، وكما ترى الآخرين وتحكم عليهم يرونك ويحكمون عليك.. وقد قيل في الأمثال: "صديقك الذي يُبكيك، لا من يُضحكك"، أو من تبكي أمامه دون خجل، وتضحك معه من قلبك ودون تحفظ..  

على مر الأيام والسنين، ستدرك أن صديقك الحقيقي هو/ي الزوج/ة شريكك في السراء والضراء، وفي البيت والأولاد، رفيقك في دروب الحياة، كان وما زال السند والحبيب والداعم.. الذي سيظل يحبك كما أنت..

أو هو والدك الذي عاش من أجلك، أو أُمك التي أنت قطعة منها، أو شقيقك الذي سيؤجرك قلبه دون مقابل.. أو ابنك الذي كبر وصار صديقك الأول..

في خريف العمر، نحب أن ننزوي، وأن نجد وقتا للتأمل، والتذكر، وأن نحدق في المدى المفتوح.. وأن نتصالح مع أنفسنا بعد عراك دام طويلا.. ستكون الأيام قد غربلت الأصدقاء وأبقت على واحد أو اثنين..

في الأمس، واليوم، وغدا.. وفي كل وقت قلبك هو صديقك الأزلي والدائم، وموضع ثقتك، الذي لن يخذلك أبداً، إلا بتوقفه عن الخفقان، وبالتالي ستكون مسيرتكما معاً قد بلغت منتهاها، وتوقفت..

أبريل 20، 2025

حصاد الإخوان المسلمين بعد مائة عام

 

شخصيات وجهات عديدة انشقت أو خرجت عن جماعة الإخوان المسلمين، ولكن من منطلقات مختلفة؛ فمثلا خرج تنظيم القاعدة عن الإخوان (عبد الله عزام)، ليتحول فيما بعد إلى جبهة النصرة وداعش، والعديد من التنظيمات المسلحة ليُظهروا النسخة الأكثر تطرفا وتشددا عن الجماعة الأُم.. وفي كتابه "الحصاد الـمُر" هاجم الإخواني السابق أيمن الظواهري جماعته معتبرا أن نهجهم في التقرب من الحكومات وتقبلهم الديمقراطية والانتخابات تجعلهم في صفوف الكفار.. فيما خرجت شخصيات بالاتجاه المضاد، ليمثّلوا النسخة الليبرالية والأكثر اعتدالا عن الجماعة، أو لأنهم اختلفوا معها في مسائل فقهية وسياسية وتنظيمية، أو أنهم رأوا فسادها واستنكروا ممارساتها وأبوا على أنفسهم الاستمرار في ذلك النهج.. (ليث شبيلات، ثروت الخرباوي وغيرهم).

في أواسط الثمانينيات خرج عن الجماعة الشهيد فتحي الشقاقي ليؤسس حركة الجهاد الإسلامي، بعد أن فشل في إقناع الجماعة بنهج الكفاح المسلح، وضرورة إبراز الوجه الفلسطيني للنضال..

لكن أول من خرج عن جماعة الإخوان ومنذ مطلع خمسينيات القرن الماضي كلٌ من: خليل الوزير، وكمال عدوان، وفتحي البلعاوي، وسليم الزعنون أبو يوسف النجار.. وهم من مؤسسي وقيادات حركة فتح.. فقد كان هؤلاء وعشرات غيرهم من تنظيم الإخوان في غزة، لكنهم اختلفوا مع الجماعة في مسائل مهمة ومفصلية، أبرزها رفضهم الأيديولوجية والحزبية، وإيمانهم بأهمية الكيانية الفلسطينية، وضرورة بلورة شخصية سياسية مستقلة للشعب الفلسطيني، وأولوية العمل الوطني على الدعوي، ودعوتهم لتبني نهج الكفاح المسلح، إضافة إلى عدم انخراطهم في صراع الإخوان مع عبد الناصر..

فيما رفضت الجماعة فكرة الكيانية الوطنية (وخاصة الكيانية الفلسطينية) وبقيت متمسكة بفكرة وحدة الأمة الإسلامية، وبمشروعها العابر للحدود.. والدليل أن الجماعة أسست فروعا لها في مختلف الأقطار العربية، وقد حمل كل فرع اسم بلده، مثلا جماعة الإخوان فرع سوريا، أو فرع الكويت.. باستثناء فلسطين، فقد أُلحق تنظيم غزة بتنظيم مصر، وأُلحق فرع الضفة الغربية بتنظيم الأردن، ولم يتأسس أي فرع يحمل اسم فلسطين..

لكن الجماعة ومنذ نهاية الثمانينيات (وعموم حركات الإسلام السياسي) بدأت بإجراء تغيرات مهمة وجوهرية تتعلق بآليات عملها ومرونة تفكيرها وموقفها من قضية الأمة/ والكيانية الوطنية، فتبلورت ظاهرة توطين الأحزاب الإسلامية؛ أي تحولها إلى أحزاب محلية، مبتعدةً بذلك ولو قليلا عن خطابها التقليدي، دون أن تتخلى عن شعاراتها الأممية والعقائدية.

فمع اتساع الفجوة بين شعاراتها والواقع، والتطورات المتسارعة على الأرض أيقنت أنها لن تكون إزاء جدل فقهي نظري، يخضع لمبدأ الحجية ويعتمد على فصاحة اللغة، بل إزاء الواقعي والحيوي والمتحرك، والذي لا يرحم، وبالتالي يتوجب عليها الاهتمام بالمسائل المحلية، فمهما كانت صياغاتها النظرية بليغة ومحكمة، وسواء كانت تلك الأحزاب في المعارضة أم في الحكم، فإنها ستُصدم مع الحقائق المادية على أرض الواقع وستجد نفسها مضطرة للتعامل معها بمنطلقات وأدوات مادية واقعية. على المستوى الخارجي أدركت أن المواجهة مع الغرب لن تكون أيديولوجية، أو بلاغية، بل ستكون سياسية، اقتصادية ودبلوماسية، فاختار بعضهم المصالحة مع الغرب بدلا من التصادم معه.

في هذا السياق تحولت جماعة الإخوان في الأردن إلى "جبهة العمل الإسلامي"، وفي مصر، إلى حزب العدالة والحرية، وفي المغرب إلى حزب العدالة والتنمية، وفي ليبيا إلى حزب التنمية والإصلاح. كما لو أن غياب كلمة "إسلامي" من التسمية واستبدالها بمصطلحات عصرية مثل التنمية والعدالة، ليست صدفة سعيدة، بل هي من ضرورات العصر، وتعبيرا عن رغبة في تغيير الواجهة، ودليلا على تراجع الأيديولوجي النظري لصالح المحلي والعملي. حتى أن جماعة الإخوان في الأردن وفي أثناء الحملة الانتخابية للبرلمان (أكتوبر 2016)، لم تطرح شعارها التقليدي "الإسلام هو الحل"، واستبدلته بشعارات أكثر عملية..

مضى من عمر الجماعة 97 عاماً.. وهذا يستدعي السؤال: بماذا أفادت الإسلام؟ وماذا قدمت للعالم الإسلامي؟ استقطبت ملايين الأتباع، وامتلكت مليارات الدولارات، وبنت قاعدة اقتصادية عملاقة، وامتلكت شبكة إعلامية هي الأضخم من نوعها، وتغلغلت في النقابات والبرلمانات العربية، وحولت آلاف المساجد ودور حفظ القرآن إلى مقرات حزبية، وحكمت في أكثر من قطر وأكثر من بقعة جغرافية، وانبثقت عنها عشرات التنظيمات (معظمها متطرفة ووسمت بالإرهاب).. لكنها أخفقت في تحقيق هدفها المركزي الذي انطلقت من أجله: بناء المجتمع المسلم، واستعادة الخلافة.. بيد أنها نجحت في تمرير أفكارها وغرزها في عموم الجماهير العربية والإسلامية.. وهي في العموم أفكار دوغمائية وطوباوية ومنفصلة عن الواقع؛ مجرد شعارات براقة وتهويمات ضبابية تغيّب العقل، وتدغدغ العواطف، وأناشيد تغذي الوهم، وتمجّد ثقافة الموت، وتزدري الحياة، ولا تقيم وزنا لحياة الناس، فانتجت جيلا ضيق الأفق، متعصب، ضحل التفكير.. بلا إبداع.. حتى أنها لم تقدم شاعرا أو أديبا أو فيلسوفا أو مفكرا يعتد به..

في مصر بنت جماهيرتها على قاعدة رفض كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل ورفض البنك الدولي واشتراطاته، ولما تولت الحكم أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأكدت تمسكها بكامب ديفيد، واقترضت من البنك الدولي!

في السودان اعترف "البشير"، في تصريحات موثقة، بأن كل مفاصل الدولة بعد انقلاب 1989 أصبحت تحت سيطرة الإخوان، بعد أن وضع الضباط الإخوان بقيادة "حسن الترابي" اللمسات الأخيرة للانقلاب.. وبعد ثلاثين سنة من الحكم فاحت روائح الفساد والطغيان، وبانت علامات الفشل والانهيار، وتقسيم البلاد تبرأ خطاب الإخوان الرسمي من نظام البشير..

فشل نظام البشير لا يكمن فقط في الفساد، والقمع والتنكيل ومصادرة الحريات والسجون السرية، ولا في القضاء على أول تجربة ديمقراطية (حكومة الصادق المهدي)، ولا في الانهيار الاقتصادي، وخسارة نصف البلاد، ومقتل آلاف السودانيين في حروب عبثية (الجنوب ودارفور).. الفساد الأكبر هو الإخفاق في تحويل السودان إلى أغنى بلد عربي وإفريقي..

بعد أن أسقطت أميركا نظام صدام، أقامت نظاما مواليا على أساس المحاصصة الطائفية، وعينت طارق الهاشمي (وهو من الإخوان) نائبا للرئيس.. وجميعنا يعرف ماذا حل بالعراق في تلك المرحلة..

ولو أضفنا الجماعات التي انبثقت عن الإخوان، أو المقربة منها، أو التي تتشارك معها نفس الأيديولوجيا سنجد النماذج البائسة لحكم طالبان في أفغانستان، وبوكو حرام في نيجيريا، وداعش في الموصل، والنُّصرة في الرقة، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وطالبان باكستان في وادي سوات، والعشرية السوداء في الجزائر.

وفي غزة، فرضت حركة حماس سيطرتها على القطاع، وتفردت بالحكم منذ صيف 2007 وجلبت لها الحروب والكوارث.

في الأردن حاز الإخوان على 31 مقعدا في انتخابات 2024 البرلمانية، وهي أفضل نتيجة منذ 35 عاما، ويعود ذلك إلى استثمارهم في الحرب على غزة واستخدامها كمادة في الدعاية الانتخابية، كما فعلوا في انتخابات 1989 حين ركزوا على الانتفاضة الفلسطينية.

أبريل 16، 2025

من هنا ينفذون إلى عقول العوام


كل دعوات الاستسلام مرفوضة ومدانة؛ فشعبنا يخوض المقاومة منذ أكثر من قرن، لم ولن يُهزم، ولن تُكسر شوكته، ولن يوقف مقاومته، ولن يعلن استسلامه.. لكن هذا لا علاقة له بتسليم حماس ملف المفاوضات لمنظمة التحرير، أو لجامعة الدول العربية، فشعبنا خاض المقاومة قبل حماس وبدونها، وسيظل يخوضها حتى لو اختفت حماس ومعها  فتح وكافة الفصائل..

كما أن تسليم السلاح مرفوض، لأنه نوع من الاستسلام، لكن سلاح الشعب الفلسطيني الحقيقي والفاعل والأقوى هو صموده وثباته فوق أرضه، أما تصريحات قادة حماس بشأن تسليم سلاحها فهي مثيرة للتعجب، خاصة أخذ مثال بيروت 82 ومذبحة صبرا وشاتيلا، وحجة حماية الشعب من العدوان.. ومجرد التفكير لثوان معدودات ولكن بعقل سليم كاف لدحض وتفنيد تلك المقولات الساذجة.. التي يتم تسويقها في إطار تبرير الفشل.

منذ زمن اختراع السيوف والخناجر ارتبط السلاح في الذهنية الشرقية بالشرف والرجولة والهيبة، وبكل معاني العصابية الذكورية.. وفي الفكر التحرري الوطني ارتبط بالقوة والصمود والتحدي.. لذا مسألة تسليم السلاح تظل مرفوضة، لأنها ستعني المذلة والاستسلام.. كل هذا صحيح، وفي صميم الوعي الوطني الجمعي، إذا كان بشكل عام أو بالمعنى المجرد لمقولة "تسليم السلاح".. لكنه ليس قانونا مطلقا، وعند الحديث عن تسليم حماس لسلاحها، كشرط من شروط إنهاء الحرب يتم توظيف المقولة في سياق ديماغوجي، وباستخدام أمثلة تاريخية لا علاقة لها بالحدث الآني، أو باستخدام مقولات لاإنسانية ولا أخلاقية مثل القول بأن شنق أطفال غزة أهون من تسليم السلاح..

هذا خلط متعمد بين حق الشعب بالمقاومة وبحمل السلاح، وبين استخدامه بشكل غير مسؤول، تماما كما تم إحداث الخلط وبشكل متعمد ومدروس بين مفهوم المقاومة وإعلان الحرب. فللمقاومة شروطها وأدواتها وأسلوبها المختلفة كليا عن خوض الحرب.. والمقاومة حق طبيعي ولا خلاف عليه، ولا أحد يدعو لإيقاف المقاومة أو لإدانتها من حيث المبدأ، وكل الانتقادات والاعتراضات كانت على شكل وأسلوب المقاومة التي خاضتها حماس، التي تجاوزت الأساليب المعهودة للمقاومة، وبشكل مختلف عن منهج حركات التحرر، لتصبح إعلان حرب، تخوضه بقوى ميليشياوية شبه نظامية وبنفس أسلوب الحرب النظامية.. والمفارقة بأن حماس والشعب الفلسطيني كله يطالب بإيقاف الحرب، ومنذ يومها الأول، فلو كانت الحرب الشكل الصحيح للمقاومة فلماذا نطالب بوقفها؟ 

ومن حيل الدفاع والتبرير الأخرى مهاجمة إسرائيل إعلامياً وخطابياً، من خلال ذكر جرائمها وتعدياتها ومخاطرها وضرورة لجمها ومحاربتها، وهذا طبعا لاخلاف عليه، لكن الحيلة هنا إيهام المتلقي بأن كل من يعادي إسرائيل هو بالضرورة في الموقف الوطني السليم؛ وبالتالي كل ما يقوم به، وما يقوله، وما يخطط له بالضرورة صحيح، ولا تجوز معارضته، أو انتقاده، بل إن من يعارضه خائن، أو في صف العدو وإلى جانبه.. بكلمات أُخرى: بعد أن يتفق الجميع على تشخيص العدو بأنه شرير وخطر ومتوحش، سيصبح تلقائيا كل من يتصدى لهذا العدو يمثل الحق والخير والسمو، ويغدو قديسا، يتوجب إتباعه وطاعته، وهنا تتماهي شخصية الجهة التي تخوض المقاومة وقياداتها مع الوطن والشعب والقضية العادلة، وطالما أنه يقاوم العدو سيكون من الصعب على عامة الناس إدراك الفروقات بين ما يمثله القائد واجتهاداته ومصالحه الشخصية والحزب ومكاسبه الفئوية وبين مصلحة الوطن والقضية العليا التي يناضل من أجلها الشعب. رغم أن التاريخ يزودنا بأمثلة لا حصر لها لجهات وقيادات مقاومة ارتكبت أخطاء قاتلة، وكانت أجنداتها خارجية، وتسببت بكوارث.

واستمرارا لنفس الحيلة تتم مهاجمة الآراء المعارضة ووجهات النظر المنتقدة باتهام صاحبها بأنه يردد مقولات العدو، فمثلا إذا انتقدت حماس أو غيرها على موقف معين سيقولون لك أنت تردد ما يقوله مردخاي، وبالتالي أنت بوق للاحتلال، ومتفق معه، وتخدم أهدافه.. أو يتم اتهامه بأن "سحيج" للسلطة، ومنتفع منها.. فبدلاً من مناقشة الفكرة يتم شخصنة الموضوع ومهاجمة الشخص المتحدث، أو مهاجمة السلطة وفتح ومنظمة التحرير، أي حرف موضوع النقاش باتجاهات أُخرى، وكأنَّ فساد السلطة أو أخطاء فتح تبرر لحماس أن تفعل ما تريد، ويعفيها من مسؤولية كل ما حدث.. عموما، هذه من المغالطات المنطقية الشائعة في أي حوار.

وأيضا من الحيل المتبعة تبرير الفشل، أو الإخفاق، أو الهزيمة بذريعة تفوق العدو الكاسح (وكأنَّ قدرات إسرائيل وتفوقها كان أمرا سريا)، أو التحجج بالدعم الأميركي (وكأنَّ العلاقة بين إسرائيل وأميركا جديدة ومفاجئة)، أو الإدعاء بأن سبب الهزيمة والإخفاق خذلان الحلفاء، وتخاذل الدول العربية وتقاعص الشعوب الإسلامية، أو المؤامرة الكونية.. وليس سوء الإدارة وانعدام التخطيط والحسابات المرتجلة والمراهنات الخاطئة. وهذا أيضا تهرب من تحمّل المسؤولية..

ما أود قوله أنّ صراعنا مع المشروع الصهيوني ليس سجالا بين الحق والباطل ومن يمتلك الحجة والبرهان واللغة والخطابة سينتصر في المعركة.. هذا ينجح لو كان خلافا فكريا وساحته الكتب وميادينه الندوات الثقافية، ولو كان مجرد خلاف قانوني وساحته المحاكم.. هذا صراع حضاري شامل، بكل مضامينه وأبعاده السياسية والتاريخية، وحتى لو كنا مؤمنين بحقوقنا، ونمتلك كل الحجج الأخلاقية والقانونية، لا يكفي.. لا يكفي لأن ننتصر.. ولا يكفي أن تكون صاحب حق، الأهم أن تعرف كيف تطالب بهذا الحق وكيف تمارسه؛ لأن هناك واقع سياسي واقتصادي، ونظام عالمي، وتحالفات دولية، وعلاقات ومصالح متشابكة بين الدول، وهناك دكتاتورية الجغرافيا، ومصالح الشعوب والحكومات، ووقائع متغيرة ومعقدة، وحركة تاريخ لا تتوقف.. ونحن في قلب ذلك كله، ومع هذا الواقع لا تنفع الحيل ولغة الخطابات والشعارات الثورجية والعواطف المندفعة والإدعاءات بتحقيق الانتصار الرباني والتاريخي، لأنه سرعان ما سيكشفه.. هذا الواقع لا يخدم إلا القوي ومن يمتلك الإستراتيجية الصحيحة والتخطيط العقلاني.. ومن لا يعي تلك الحقائق، ولم يحسن التصرف معها، وظل متمسكا بأفكاره الخاصة وبلغته الخشبية ستتجاوزه الأحداث وستقفز عنه حركة التاريخ.. حتى لو كان مخلصا ومضحيا، فما بالك إذا كان يكذب على نفسه، ويخادع جماهيره بهذا الخطاب الديماغوجي المضلل! ويعتمد على قناة الجزيرة لترويجه ولتسويق نفسه.