أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 30، 2025

حول بيان حماس الأخير

 

بعد نحو عشرين شهرا من القصف والقتل والتجويع والنزوح، وفي ذروة تصعيد العدوان الإسرائيلي ووصول المنطقة إلى أخطر مفترق.. أصدرت حماس في غزة بيانا أو تعميما داخليا، هذا نصه:

"منذ اللحظة الأولى، ونحن في غزة، سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعول على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده.انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد، ومع ذلك رفعت صوتها عالياً: "من أراد الفوز فليركب"، لكن ما استجاب أحد، ومن ركب لم يثبت.. فما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وأقسم بالله ما خذل من صدق، وما ندم من ثبت، أما من تخلف، فقد كتب على نفسه الخزي، وسيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة, لا عذر بعد النداء، ولا رحمة لمن خاف في مواطن الثبات. فالمعركة ماضية، والحق لا ينتظر المتأرجحين، ومن خاف الركوب، فقد اختار الغرق بيده. أما نحن فقد أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه، ويقيننا أن السفينة التي أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، لا تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها.. هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن.. هذه سفينة العقيدة الخالصة، لا يعلو على ظهرها إلا رجال عرفوا طريقهم، ومضوا إليه لا يلوون على شيء ..وإن النصر آت، والفرز قد وقع، وكل متخاذل سيسقط عن ظهرها ولو تظاهر بالثبات، فالمعركة لا ترحم، والحق لا يتزين بالمنافقين".

بالقراءة السريعة نلحظ اللغة والمفردات الدينية، وأسلوب السجع والخطابة والإنشاء والتعميمات والأحكام المطلقة.. خطاب عاطفي يخلو من المنطق، ومن السياسة، ولا يصلح لهذا العصر،، وعموما هذا هو النمط الشائع للخطاب الديني، الموجه للعامّة والبسطاء، كلام مزخرف بلا مضمون.

بالتمعن في البيان نصل إلى استنتاجات عديدة؛ أولها أن حماس لا تستشعر بأي ذنب أو مسؤولية تجاه الحرب التي جرتها إلى غزة وسائر المنطقة، وليس في نيتها إجراء أي تقييم أو مراجعة أو نقد لمغامرتها العسكرية، بل إنها متمسكة بأطروحاتها، وتنظر إلى نفسها بنرجسية مفرطة، معتبرة نفسها ممثلا حصريا للحق، وكل من لم يتوافق مع أطروحاتها متخاذل، وكتب على نفسه الخزي، واختار الغرق بيده.

وثانياً: ليس في البيان ولا في خطاب حماس عموما أي تحمّل للمسؤولية تجاه المآسي التي جلبتها الحرب، مآسي الأيتام والأرامل والنازحين، ومن تهدمت بيوتهم، ومن فقدوا مستقبلهم.. بل على العكس ترى أنها بنت سفينة الخلاص و"من أراد الفوز فليركب، ومن تخلف عن الركوب سيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة".. بمعنى أن كل من لم يلتحق بركب حماس وأراد النجاة بنفسه وعائلته جبان ومتردد وسيخسر الدنيا والآخرة! وهذه نظرتها إلى البيئة الحاضنة للمقاومة!

وثالثاً: يعترف البيان أن حماس لجأت لمغامرتها العسكرية دون حسابات عقلانية، ودون تخطيط ولا دراسات، بل فقط رهان على الغيب، وكأن التوكل على الله دون إعداد حقيقي يجلب النصر؛ "منذ اللحظة الأولى سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعول على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده"،  ويعترف أيضا أن الحركة لم تشاور أحدا حتى أقرب حلفائها؛ "انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد".. مع إن هذا يتناقض مع خطاب "الضيف" الذي راهن على الأمة الإسلامية والشعوب العربية وأحرار العالم.. فإذا بهم يكتشفون أن "الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد". وهو اكتشاف متأخر جداً.

ورابعاً: هذا البيان يرسخ خطاب حماس الإقصائي الذي يضعها فوق الشعب ومنفصلة عنه؛ "ما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه".. السفينة هي حماس وأنصارها أصحاب العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع، والشعب هو ابن نوح الكافر الذي رفض الصعود مع سفينة المؤمنين فأغرقه الطوفان.. الشعب الذين أغرتهم الرايات البالية! والمتلونة قلوبهم! ولم يصدقوا ما عاهدوا الله عليه! ويضيف البيان: "هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن".. هذا ليس تأكيدا على نهج الإقصاء وحسب، بل وأيضا "لا مكان لمن يحسب الخطى ويزن الثمن".. لا مكان ولا داعي لحسابات العقل والسياسة والواقع ومعادلات موازين القوى. ولا ضرورة لتقدير الموقف، ولا للتخطيط وتوقع ردات الفعل والأثمان التي ستُدفع.. إضرب وتوكل على الله! فهناك يقين غيبي أن السفينة أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، وبالتالي لن تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها! الإخلاص والتوكل هي عدة الحرب وأدوات المواجهة وشروط الانتصار.. لذلك وصلنا إلى هذه النتيجة الكارثية.. لكنا عرفنا أي نوع من الإخلاص، وتجاه من، والتوكل على ماذا.. توكل على إيران ومحور المقاومة وعلى شعوب مقموعة وعاجزة وأنظمة مرتبطة.. توكل ورهان على كومة من الأوهام. الحقيقة المؤسفة أن أمواج الأرض اجتمعت وأغرقت غزة بمن فيها.

وخامساً: "أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه"، لن نحاكم النوايا، ولكن إذا صح القول، فهذا لا يعني أبدا أن الشعب محرم عليه أن يطلب الحياة والرفاه والدنيا والسلطة، وكأن ذلك يتناقض مع ابتغاء وجه الله ورضاه، الوضع الطبيعي أن أهل غزة وسائر شعوب الأرض يحبون الدنيا، ويسعون للحياة، وهذه سمة إيجابية وأصيلة وهدف نبيل.. الإنسان السوي لا يمكن أن يكون الموت أسمى أمانيه، لا في سبيل الله ولا في سبيل الوطن، أسمى أماني الإنسان الحياة، فهي هبة الله وهديته الأثمن ومن يفرط بها يعتدي على إرادة الخالق.

يونيو 27، 2025

مستقبل حركات الإسلام السياسي


شكلت الفترة ما بين تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في العشرية الثانية من القرن العشرين، وحتى مطلع السبعينيات ما يمكن وصفها بمرحلة الإعداد والتهيئة، فيما شكلت السبعينيات مرحلة التسخين والانتشار والإستعداد للانطلاقة الأهم لحركات الإسلام السياسي، حيث ستبرز بقوة في الثمانينيات جماعة الإخوان والسلفية وما سمي بالصحوة الدينية، وستبلغ أوجها فيما سمي بالعشرية السوداء في الجزائر، مع الاستمرار بالتسخين لانطلاقة أخرى ستظهر فيها الحركات "الجهادية" الأكثر تشددا مع مطلع العشرية الأولى من هذا القرن. وستكون العشرية الثانية مرحلة الذروة لكل هذه الظاهرة، وكانت أبرز تجلياتها طالبان والقاعدة والنصرة وداعش (في العراق وسورية وأفغانستان).. بالتزامن مع سيطرة الإخوان على السودان ومصر وتونس والمغرب والأردن.

ما أعاق وأخّر حركات الإسلام السياسي خمسين سنة انتشار فكر القومية العربية وقوة التيار اليساري والوطني، وسيطرة حزب البعث في قطرين مهمين، ووجود عبد الناصر (وهي فعليا الحواضر العربية)، وصعود الوطنية والقُطرية وانطلاقة الثورة الفلسطينية وتصاعد الصراع العربي الصهيوني الذي ظلت فيه قوى الإسلام السياسي غائبة ومهمشة..

أما ما ساعد على نهوضها وتمددها فجاء من ثلاث مصادر، الأول: سيطرة الملالي على الثورة الإيرانية والبدء بمرحلة تصدير الثورة. الثاني: انكفاء مصر عن دورها القومي ومجيء السادات الذي أراد كنس الناصرية واليسار بالاستعانة بالإخوان. الثالث: التحول السعودي بعد حادثة جهيمان والاستعانة بالوهابية، والعمل على نشرها في عموم العالم الإسلامي، وأيضا بالتعاون مع الإخوان.

متى وكيف ولماذا بدأ منحنى "الإسلام السياسي" بالهبوط؟ وإلى أي مدى سيواصل هبوطه؟

لنبدأ بمتى؟ بدأ مع انكفاء موجة "الربيع العربي" بانتكاسة مرعبة، أي منذ أواسط العشرية الثانية.

أما كيف؟ فيمكن رصد العديد من تجليات الهبوط والتراجع: التجربة الفاشلة لحكم الإخوان في مصر، مع أنها قصيرة لكنها كانت كافية لكشف الكثيرن ولدق ناقوس الخطر، ثم فشل حزب النهضة التونسي وخروجه عن الحكم، وتكشف التحالف المريب بين الإخوان والقصر في المغرب وتورطهم في مشروع التطبيع، الجزائر كانت قد سبقت الجيران بعد تكشف الوجه العنيف والمرعب لجماعات متشددة أجرمت بحق القرويين (لندع فساد النظام جانبا، لأنه في سياق آخر)، في السودان خروج مهين لنظام البشير، بعد فشله الذريع في إدارة أزمات البلاد. إضافة للعديد من تجارب الحكم الفاشلة لجماعات إسلامية في العديد من البلدان الإسلامية، من طالبان أفغانستان وحتى بوجو حرام في نيجيريا، مرورا بالصومال وتشاد.

لنأتي إلى لماذا، لأنها الأهم؛ أولاً: لنتجاوز نطرية إنشاء الإخوان بدعم وتمويل من القنصلية البريطانية في الإسماعيلية، فإذا حُدِّد لها آنذاك دورا وظيفيا، فإن الجماعة تجاوزته بعد أن توسعت ودخلتها شرائح اجتماعية ومجموعات اقتصادية وسياسية وشخصيات فكرية متنوعة، تعددت مصالحها، ولم تعد الجماعة كتلة صماء متجانسة.. بيد أن دورها الوظيفي في داخل الأقطار العربية كان واضحا، أو على الأقل لعبة تبادل المصالح والمنافع، وقد حُدِّد هذا الدور في مسألتين: التحالف مع الأنظمة الرجعية، وضرب وإعاقة كل مسار وطني تقدمي سواء دول أم أحزاب أم تيارات فكرية ديمقراطية وثورية، أي الدفاع عن تلك الأنظمة بمواجهة خصومها..

في تلك الدول تصرفت الجماعة كـ"معارضة مضمونة" خطابها مركز في المجال الديني والأخلاقي والاجتماعي دون تهديد حقيقي للأنظمة، بل مساندتها في الأزمات، ولكن، في ظل التغيرات العالمية، وترتيبات النظام الدولي الجديد، الذي يقتضي إعادة تعريف الدور الوظيفي للأنظمة ذاتها.. لم تعد صيغة التعايش بين الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي ممكنة، وصار الافتراق..

فالدول التي دعمتها، أو التي تغاضت عن تنامي قوتها، أو التي جبنت عن مواجهتها صار عليها اللجوء للطلاق أو الصدام.. كما حدث في الجزائر ثم مصر وأخيرا الأردن.. وقبل ذلك الدول التي استشعرت بخطرها فحظرتها (السعودية، الإمارات، موريتانيا..)

مع أن الجماعة في مرحلة سابقة قامت بعمليات توطين نفسها في جميع الأقطار، أي تحولت إلى أحزاب سياسية مجالها الدولة والمجتمع المحلي، حصل ذلك بعد أن اصطدمت بالمعادلات السياسية الدولية، وبالواقع المادي واستحقاقات الحكم، وانكشفت محدودية أدواتها في الاستجابة لتحولات الدولة الحديثة، وتبين لها عدم جدوى شعاراتها النظرية، إلا أنها لم تتخلَّ عن تصورها العقائدي العابر للوطن، ما جعلها تصطدم مع تحولات الدول وسعيها للتكيف مع النظام الدولي الجديد.. ما يعني انتهاء حاجة الأنظمة للجماعة أو أنها صارت تمثل عبئًا مزدوجًا: داخليًا لكونها ترفض التكيف مع أنماط الحوكمة الجديدة، وخارجيًا لأنها تعيق إعادة ترتيب الإقليم.

وكما كتب "إبراهيم عجوة": "لم تكن الضربات المتتالية لحماس في غزة مجرد تصفية لمجموعة عسكرية، بل كانت "تصفية رمزية" لآخر قلاع الإسلام السياسي، ولأن الطوفان انتهى بنكبة دون أي منجز سياسي لم يعد نموذجها في المقاومة ملهما، وقد تبين أنه مغامرة وتهور، ضمن حسابات حزبية ضيقة، ولصالح أجندات خارجية، وبالتالي ضعفت الجاذبية الرمزية للجماعة الأم، ورُفع الغطاء العاطفي عن الإخوان في البلدان التي كانت تتردد طويلًا في اتخاذ خطوات قانونية حاسمة بحقهم، وقد شكلت الحرب على غزة ذروة الصدام بين الإسلام السياسي ومصالح الإقليم، حيث تحوّلت "المقاومة" من مشروع وطني إلى عبء إقليمي، وبدلاً من أن تعبّر عن تطلعات فلسطينية، باتت تُستثمر في خدمة سرديات وظيفية لصالح أجندات وقوى خارجية، ما عجّل بتعرية المشروع وتراجع الهالة الرمزية التي أحاطت به لعقود".

ثانيا: المنابع التي غذت الإسلام السياسي لعقود نضبت وجفت تماما؛ فالسعودية التي شكلت أهم مصدر لنشر الأيديولوجية الدينية، لم تتوقف عن مشروعها وحسب، بل انقلبت عليه.. المصدر الثاني: إيران، وهذه أيضا تعرضت لضربات قاصمة، وتم بتر أذرعها، وصارت مجبرة على الانكفاء، والتخلي عن مشروع تصدير الثورة، ودعم الجماعات الموالية لها.. والمسألة هنا ليست فقط إجراءات في الإطار العسكري والحزبي، الأهم رمزية هذا التحول وأثره على المدى القصير والبعيد.

ثالثا: النماذج التي قدمتها جماعات الإسلام السياسي في الحكم  أو السيطرة على مناطق كانت جميعها بائسة وفاشلة ودموية (قبل وبعد الربيع العربي)، وإضافة إلى الأمثلة التي ذكرنا بعضها سابقا، شكل نموذج داعش والنصرة صدمة للعالم في مدى قسوته وعنفه، صورت الإسلام قرينا بالإرهاب.. أما نموذج إيران، فقد خلق بيئة طائفية تورطت فيها كل الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية، لدرجة أن الإسلام السياسي بشقيه السُني والشيعي لم يعد مصدر إلهام، وقد فقد رونقه ومصداقيته..


يونيو 26، 2025

عن البطولة والمواجهة وقيمة الإنسان

 

أحاول بين فينة وأخرى نقل أصوات لمواطنين وناشطين من غزة، لنشرها على نطاق أوسع، ولكي نفهم حقيقة ما يحدث هناك، وبتعبيرات من هم في المحنة.. سأنقل بتصرف بعض ما كتبه الدكتور تيسر عبد الله: "يعلن جيش الاحتلال أحيانا عن "حدث أمني صعب"، وسرعان ما تتناقل وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي الخبر، لتنتشر بسرعة فائقة وعلى نطاق واسع، فيتلقفها المريدون بالنسخ واللصق، والإضافة والتحوير والمبالغة، وتختلط الأمنيات بالواقع.. وبعد فترة قصيرة يصدر الجيش بيانا مقتضبا عن مقتل جندي أو أكثر.

نحن نتمنى ونرجو أن تكون جميع أوقات العدو صعبة، ويتكبد خسائر تعادل آلامنا وما ارتكبه بحقنا من جرائم. ولا ننكر على الفرحين لمثل هذه الأخبار فرحتهم. ولكن يجب أن نستقبل مثل هذه الأخبار في سياقها الطبيعي لمجريات الحرب، دون مبالغة ودون تضخيم. ودون أن تطغى على أخبار حقيقية أخرى أهم وتغطي عليها.

ويجب أن ندرك أننا نعيش في حرب وليس في انتفاضة أو مقاومة شعبية. وفرق كبير بينهما. الاهتمام والفرحة بتوجيه ضربات عسكرية ضد الاحتلال تكون طبيعية ومبررة في انتفاضة شعبية وليس في حرب. الحدث الصعب في الحروب يكون في حال التمكن من تكبيد العدو خسائر ضخمة ومعتبرة، أو في حال النجاح في إعاقة تقدمه، أو طرده من أماكن سيطر عليها، أو إجباره على طلب الهدنة والاستسلام. وهذا لم يتحقق منه شيء أبدا طوال أشهر الحرب.

أما مقتل بضعة جنود، أو إعطاب دبابة بينما الاحتلال جرف كل غزة وأباد سكانها، واعتبار ذلك "حدث أمني صعب" فهذا نوع من التضليل. وكالعادة. فإن الجمهور الخارجي يحتفي بهذه العمليات، ويشبع بها عطشه العاطفي دون محاولة إرهاق نفسه التدقيق بنتائجها وانعكاساتها على أهل غزة.

في ظروف وأجواء المقاومة الشعبية والانتفاضة تكون أي عملية بسيطة ينفذها شاب "حدث أمني صعب" بالفعل، كما فعل عدي التميمي مثلا، وعشرات غيره، وتعادل كل الأحداث الصعبة التي يتحدث عنها الاحتلال في هذه الحرب.

وإذا كان يوجد في غزة الآن أحداث صعبة؛ فلا يوجد أصعب من الإبادة المتواصلة التي يرتكبها الاحتلال، ومن المفقودين الذين لا يزالون تحت الأنقاض، ومن الأحياء السكنية التي مسحت عن وجه الأرض، من النازحين والمشردين في الخيام والذين يعانون من كل أمراض الدنيا الجسدية والنفسية.. ليس أصعب من مرور عامين من التجهيل على أطفالنا، واستبدالهم طابور المدرسة بطابور التكيات، ولا يوجد ما هم أصعب من الوقوف بخجل في طوابير دخول حمامات قذرة، ولا أصعب من الأوبئة والأمراض والخوف والغلاء وعصابات سرقة المساعدات، وانكسار النفس أمام بكاء الأطفال والأمهات.

ليس هناك في الدنيا ما هو أصعب من الأطفال اليتامى، والأرامل والأمهات الثكالى، والآباء المفقودين، وذوي الإعاقة، والمرضى الذين ينتظرون موتهم بصمت، ومبتوري الأطراف الذين يصرخون ليل نهار دون علاج، والمعتقلين في الزنازين وهم يتعرضون للتنكيل والاغتصاب، والشبان الذين فقدوا الأمل بالمستقبل.

لا يوجد أصعب من المجازر التي يرتكبها الاحتلال في كل دقيقة، ولا من أطنان الركام ومشاهد الخراب، والأشلاء والجثث المتفحمة أو التي تنهشها الكلاب".

أما الناشط أمجد أبو كوش، فكتب: "مشهد مقاوم يضع في جوف دبابة عبوة ناسفة مشهد بطولي وشجاع. لأنه عرّض نفسه للموت واستعد للتضحية. أيضاً من يصعد فوق شاحنة المساعدات يعرض نفسه للخطر ويضحي بحياته. ومن يستيقظ في الثانية بعد منتصف الليل، ويزحف على بطنه أميالا وبمجرد رفع رأسه يتعرض لرصاص القناصة (بما يشبه لعبة الحبار) في سبيل الحصول على كيس طحين هو أيضا مشهد بطولي وشجاع، كذلك من خاطروا بأنفسهم في رحلات الموت في البحار والصحارى هربًا من الظلم والاستبداد ليصلوا أوروبا هو عمل بطولي وشجاع. وهذا يدعونا لإعادة تعريف البطولة والشجاعة.. إذا كانت البطولة مرتبطة بالقدرة على مواجهة الموت فقط؛ إذاً المندفع بتهور، والانتحاري، والمغامر أبطال.

البطولة الحقيقية ليست فقط مواجهة الموت؛ البطولة الحقيقية يجب أن ترتبط بهدف أعلى، وبنتيجة تسعى لتحقيقها. كل المعطيات الحالية بعد سحق غزة وتدميرها، ومقتل وجرح وفقدان ونزوح مليوني غزاوي تؤكد بإنها معركة صفرية، وأننا رجعنا مائة سنة للوراء، وغير قادرين على قلب نتائجها.

يعز علينا فقدان الشبان الفلسطينيين، يعز علي كل فلسطيني أن تكون تلك البطولات والتضحيات دون ثمن، لأجل لقطة تأخدها الجزيرة، أو ينتشي بها المتفرجون على مأساة غزة، أو ليقول الحزب الفلاني أننا موجودون، وخيارنا صحيح، هذه اللقطة تعني أن مقتل بضعة جنود أهم من بلد انسحقت وشعب يجوع ويُباد، مش هترخصونا هلقد".

الخلاصة: الشجاعة الفردية لا تصنع نصرا، ولا تُحدث تغييرا سياسيا، قد تحقق للمنفذ أمنيته بالشهادة، لكنها على الصعيد الجمعي لا تفعل شيئا، إلا إذا وُضعت في سياق سياسي عام، يعبّر عن امتداد نضال شعبنا الطويل الذي لم يتوقف في الرد على جرائم الاحتلال، وتكون ضمن عملية تراكمية ومدروسة.

الشجاعة الفردية كانت مهمة في الحروب التاريخية، لأنها كانت تعتمد على قوة الجندي الجسدية ومهارته في استخدام السيف وشجاعته، وفقدان أي عنصر منها يعني موت الجندي.

مقتل بضعة جنود إسرائيليين (حتى لو كانوا بالآلاف) لن يغير من سير الأحداث؛ فإسرائيل استعدت لحرب طويلة، ووضعت في حسابها فقدان الكثير من جنودها، وفي الواقع ما حصل أنها فقدت أقل بكثير مما كانت تتوقع. في الحروب التاريخية كان مقتل عشرات أو مئات الجنود يقلب النتيجة، لأنها حروب قبلية تعتمد في قوتها ووجودها على عدد أفرادها.

في الحروب الحديثة تغير كل شيء، الشجاعة ليست شرطا، فالجندي الذي بكبسة زر قتل وجرح أربعة آلاف كادر وقائد من حزب الله، فعل ذلك من غرفة محصنة، وربما يكون رعديدا.. وفي المواجهة مع إسرائيل لا نقاتل قبيلة ستجلو إلى منطقة أخرى إذا خسرت جزء من جنودها، أو إذا هُزمت في معركة.. نحن نواجه نظاما دوليا كاملا، إسرائيل مجرد واجهة وأداة لهذا النظام، وهذه المواجهة تتطلب وعيا وعملا سياسيا بطوليا.. تتطلب شروطا كثيرة وصعبة، وللأسف نتعامى عنها، ونتعامل بعقلية ومنهجية القرون السابقة.

يونيو 25، 2025

شعور جيد ومريح


الذين يصدقون تحليلات الدويري وزملائه يفعلون ذلك لأن الجزيرة تمنحهم شعورا طيبا، لدرجة الإدمان على تحليلاتها، شعورا خفيا براحة الضمير، وإحساسا زائفا بالعزة، ووعدا وهميا بالنصر، وتبريرا لتقاعصهم عن فعل شيء حقيقي ومؤثر.

والذين يتابعون المثلثات الحمراء وقصص بطولات المقاومين، ومقتل الجنود الصهاينة، وتدمير ثلث دبابات الجيش.. يفعلون ذلك لأن هذه الأخبار تمنحهم شعورا جيدا، شعورا يعوّض مشاهد الدمار والخراب ومقتل وإصابة وإعاقة وفقدان ونزوح وتشرد مليوني إنسان فلسطيني في غزة. بل وينسيهم ضياع غزة كلها..

وهذا ينطبق على من يميلون لأي تحليل يجعل إيران منتصرة وبطلة، وكذلك الذين يتبعون أي محلل يتحدث عن "المسرحية"، وعن هزيمة إيران المنكرة، ودورها المشبوه.. وكما ينطبق على مؤيدي "المقاومة" بلا تحفظ، وعلى معارضي "المقاومة" في كل شاردة وواردة، بسبب وبلا سبب.

وأزيدكم من الشعر بيتا، ينطبق على كل فرد حين يتبني أي تيار، أو يقبل أي فكرة، أو يؤيد أي طرف، أو يعاديه، أو حتى يشجع فريق رياضي.. المصدر الحقيقي وراء كل ذلك هو الشعور الداخلي..

عشرات الآلاف من "المجاهدين" الذين تورطوا في الحرب الأهلية في العراق وسورية وجاؤوا من عشرات البلدان العربية والأجنبية، جاؤوا من آخر الدنيا لأن أجواء الحرب تمنحهم شعورا جيدا، شعورا يجعلهم يقترفون جرائمهم بضمير مرتاح، وكل ما عليهم استبدال كلمات القتل والاغتصاب والسرقة بمسميات دينية..

الذين يتصدقون على الفقراء يفعلون ذلك لأن التصدق يمنحهم شعورا طيبا، يشعرون أنهم نالوا الأجر، وسينالون مقابل صدقاتهم قصرا في الجنة، بدليل أنهم لا يتصدقون إلا في رمضان، ولا ينتبهون لوجود فقراء إلا في رمضان.. لأن الأجر في هذا الشهر مضاعف.

والذين يفعلون الخير ويتبرعون بأموالهم وجهدهم (دون دافع ديني، ولا طلبا لأجر) يفعلون ذلك لأن التطوع أو التبرع يمنحهم شعورا طيبا، وإحساسا بالرضا عن الذات.

والذين يدخرون أموالهم ويسافرون إلى الحج بكل ما يتضمنه من مشقة وضنك، يفعلون ذلك لأن الحج يمنحهم شعورا رائعا بالسكينة ويوفر لهم أجواء روحانية مريحة، وهذا ينطبق على من يحجون إلى مكة المكرمة أو إلى قم، أو كربلاء أو إلى نهر الجانغ في الهند.

المرأة حين تمنحها هرموناتها شعورا إيجابيا مُرضياً تمنح نفسها وروحها لشريكها، وحين ينتكس شعورها تمتنع حتى عن مناولته ملعقة، أو تقريب طبق الأرز باتجاهه.. والرجل حين يتكدر مزاجه وتغلب عليه مشاعر الإحباط والسلبية يغدوا عدوانيا نزقا ولا يُطاق.

الأب الذي يضرب ابنه، والمعلم الذي يعنف طلبته يفعل ذلك بدافع الشعور بالغضب، ثم يأتي عقله ويبرر له فعلته، بأنها بدافع الحب ومن أجل التربية.

المحقق أو السجان الذي يعذب المعتقل أو المشبوه يفعل ذلك ليس بهدف انتزاع معلومة، أو الوصول إلى الحقيقة، أو لفك ملابسات قضية غامضة.. يعذب ويضرب ويقتل لأن ذلك يمنحه شعورا بالرضا وربما المتعة..

والذي يجادلك بعصبية، ويحاول جاهدا إثبات صحة رأيه، وتسفيه رأيك المخالف له يفعل ذلك ليس بهدف الفهم، أو الوصول إلى قواسم مشتركة.. هو مستعد لطحنك وإخراجك من الملة للحصول على الشعور بالتوازن الداخلي، فمجرد وجود فكرة معارضة لما هو مستقر في عقله يعني هناك مصدر قلق واضطراب وصراع نفسي، وخشية من خسارة سكونه الداخلي.. ولا حل أمامه إلا بالهجوم القوي المضاد على كل ما يقلقه ويشعره بالاضطراب.

الشعراء والأدباء والعلماء والفنانين أنتجوا إبداعاتهم ليحصلوا على الشعور بالرضا، أي لدوافع شخصية بحتة، بغض النظر عن أقوالهم وعن إيمانهم بالقضية التي يطرحونها، والتزامهم برسالة الفن والأدب والعلم.. الشعور هو الأساس، حتى لو تطلب ذلك تحطيم منافسيهم، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئا عظيما للبشرية..

انضمامك لجماعة أو لحزب، واعتزازك بطائفتك أو قبيلتك عبارة عن تفاعل مع الإحساس والشعور الداخلي، ثم يأتي العقل بالتبريرات والتفسيرات وإيهامك أن خيارك صحيح ومنطقي.

المسألة كلها تتعلق بالشعور الداخلي، ومن بعد ذلك نضع لها التبريرات والمسوغات، ونجمّلها بالكلمات، ونزيد عليها بالشروح والفلسفات، ونزينها بالشعارات.. الشعور الداخلي هو المحرك الحقيقي، هو الدافع والواعز والبوصلة والمعيار والحُكم، وما عدا ذلك قشور وهمية أو افتراضية ابتدعها الفلاسفة والمنظّرون وأصحاب الأيديولوجيات.

في واقع الأمر، كل ما تؤمن به، وكل مواقفك الشخصية، وتصوراتك وتوجهاتك، إقدامك على فعل شيء جيد، أو امتناعك عن فعل ما هو سيء.. جميع ما سبق منبعه شيء واحد اسمه الشعور الداخلي، ومعياره ما يرضيك أو لا يرضيك، أو البحث عن الشعور بالرضا والسعادة.

دراسات علمية عديدة أشارت إلى وجود منطقة صغيرة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج (أو تنطفيء) كلما تصرف الإنسان على نحو ما، فمثلا قد يشعر البعض بالسعادة إذا ساعد محتاجا، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض قد يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين هو الشعور، قد يكون الشعور غامضا (أو أنّ الشخص لم يدركه) لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة من الدماغ..

يونيو 22، 2025

توضح الخطوط العامة للمخطط الصهيو أميركي

 

لفهم مجريات الأحداث منذ السابع من أكتوبر وحتى اللحظة سنسقط نظرية المؤامرة، ولكن من الصعب إسقاط نظرية المخطط.. فما هو هذا المخطط؟ وما هي أدواته؟

لنعود قليلا للوراء، وتحديدا إلى ما قبل شهر من اندلاع الحرب العدوانية على غزة، فمن على منبر الأمم المتحدة في أيلول 2023 وقف نتنياهو ملوحا بخارطة جديدة للمنطقة، قائلا: سنغير وجه الشرق الأوسط..

لفهم أعمق لنتفق على المحددات التالية:

علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة ليست مجرد تحالف إستراتيجي بين دولتين، إسرائيل أداة أميركا وقاعدتها المتقدمة، قد تنشأ خلافات بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية، لكنها أبدا لن تصل إلى العمق، وستظل مجرد خلافات شكلية على التفاصيل، للولايات المتحدة أهدافا متوسطة وبعيدة المدى وكذلك لإسرائيل، وفي أغلب الأحيان تتلاقى تلك الأهداف، وأحيانا تتقاطع.

المخطط الذي نتحدث عنه مخطط أميركي إسرائيلي، هدف الولايات المتحدة الإستراتيجي بعيد الأمد هو الفوز في حربها التجارية مع الصين، والإبقاء على هيمنتها على العالم، كقوة متفردة، تتحكم في النظام الدولي. أما أهداف إسرائيل، فهي تصفية القضية الفلسطينية، والظهور كقوة أولى في الإقليم، وأن تتخلص من كل مصادر التهديد (المقاومة، إيران وأذرعها) والقوى المنافسة (إيران، مصر، تركيا) ولكل هدف طريقة مختلفة في التعامل.

محددات المخطط في الإقليم: قطع طريق الحرير الصيني، من خلال إيجاد منافس له هو طريق الهند الإمارات إسرائيل. ضرب الموانئ البحرية في كل المنطقة، والإبقاء على موانئ الدول التي تجاري المخطط وتتفق معه، مشروع قناة بنغوريون (وهو هدف مؤجل بسبب ارتفاع تكلفته، ولكنه يبقى على الطاولة)، الاستحواذ على مصادر الطاقة (النفط والغاز)، وضمان تدفقها، وضمان أمن الطرق التجارية ليس فقط لمصادر الطاقة، بل لكل سلاسل الإمداد في شتى المجالات الحيوية.

فيما يتعلق بأهداف إسرائيل: كسر معادلة التفوق الفلسطيني في الصراع الديموغرافي، من خلال قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وطرد أكبر كتلة سكانية ممكنة، والبداية من غزة، بتحويلها إلى بيئة طاردة غير صالحة للسكن، ومن ثم الانتقال إلى الضفة الغربية بتكثيف الإستيطان ومصادرة الأراضي، وانتظار أي فرصة سانحة لنقل نموذج غزة إلى الضفة، وقد فعلت ذلك في مخيمات شمال الضفة كخطوة تجريبية قابلة للتوسع تنتهي بالضم الكلي (أو الجزئي)، إضافة إلى إغلاق وكالة الغوث كخطوة عملية لشطب حق العودة، وإنهاء قضية اللاجئين، وإضعاف السلطة الوطنية ومحاصرتها ماليا وأمنيا، بانتظار إيجاد بديل لها، بحيث لا يتمتع بأية صفة سياسية، أو بتمثيل للشعب الفلسطيني، وبالتالي إنهاء الكيانية السياسية والهوية الوطنية الفلسطينية، كشرط أساسي لإنهاء القضية الفلسطينية، ومن ثم التطبيع مع الدول العربية (أو إخضاعها).

هذه أهداف قديمة/ جديدة، ومحفوظة في الأدراج، وهناك مخططات أخرى بديلة، وما كانت تحتاجه إسرائيل هو ذريعة قوية، كافية لإشعال الحرب، والبدء بالتنفيذ، بأسلوب أحجار الدومينو.

بعد عملية 7 أكتوبر على الفور أعلنت إسرائيل الحرب، وهو أمر لا تفعله بسهولة، وتستبدله عادة بالإعلان عن عمليات عسكرية محدودة.. في غزة قتلت ودمرت وقصفت كل شيء، حتى أنهت على قوة حماس العسكرية، ثم وخلال شهر واحد وجهت ضربات قاصمة لحزب الله، حتى أخرجته من المعادلة، ومباشرة تم إسقاط النظام السوري، وبذلك انهار "محور المقاومة" وصار الطريق معبدا إلى طهران. وكأنَّ كل ما حدث سابقا كان تمهيدا للوصول إلى هذه المرحلة.

لم يكن بوسع إسرائيل سابقا توجيه ضربة عسكرية لإيران كما فعلت الآن، وحتى أميركا اكتفت بالتحلل من الاتفاق النووي، واستخدام أسلوب العقوبات والحصار، اليوم صار بوسع أميركا توجيه ضربات مكثفة ضد منشآت إيران النووية، بل والتلويح بإمكانية إسقاط النظام. ولكن لماذا إيران؟

أولاً: إيران قوة إقليمية مهمة، ولديها مشروع توسعي طموح، وثانياً: تخشى إسرائيل من تحولها إلى قوة نووية، وبالتالي زيادة نفوذها في المنطقة؟ ثالثا: تتمتع إيران بموقع جيوسياسي فريد وفي غاية الأهمية، وبالتالي كل مشاريع ومخططات الغرب الإمبريالي وتوجهات النظام الدولي الجديد إما أن تمر من خلال إيران أو تصطدم معها، ومن هنا يصبح إسقاط النظام أو استبدالة بآخر غير أيدولوجي ومتساوق مع الترتيبات الدولية الجديدة مسألة مهمة بل وحاسمة. ورابعا: إيران أهم مزود للصين بمصادر الطاقة، فإذا ما تم تنصيب نظام موالي فإن الصين ستصبح تحت رحمة القبضة الأميركية، بل إن تغيير النظام قد يؤدي إلى تحلل إيران من اتفاقية التعاون التجاري المشترك الذي وقعته مع الصين في العام 2021 والتي تهدف إلى إحياء «طريق الحرير البحري»، وزيادة التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين، والتعاون في مجالات التعدين والنقل والزراعة والتكنولوجيا. والتحلل من هذه الاتفاقية سيشكل ضغطاً إضافيا على الصين. وأخيرا: تغيير النظام الإيراني سيكون آخر قطعة في أحجار دومينو تغيير وجه الشرق الأوسط الذي تحدث عنه نتنياهو.

تركيا موضوع آخر ومؤجل، وسيتم التعامل معها بطرق مختلفة، أما مصر (بالرغم من عدم جهوزيتها الآن لتبؤ مكانة إقليمية قيادية في الإقليم) إلا أنها تظل في دائرة الاستهداف: سد النهضة (وهناك تعاون وتنسيق أثيوبي إسرائيلي)، مخططات تهجير سكان غزة إلى سيناء، تضررها الكبير من ضربات الحوثيين للسفن المارة من البحر الأحمر، التي أدت إلى انخفاض حاد في إيرادات قناة السويس. وأخيرا التلويح بشق قناة بنغوريون.. لكن مصر ردت وأستعدت بطريقتين: إغلاق محكم لحدودا الشرقية أما مخاطر التهجير، وتكثيف تواجدها العسكري في سيناء (لأول مرة منذ كامب ديفيد) ليس فقط بزيادة أعداد الجنود بل بأسلحة ثقيلة إستراتيجية.

يمكن القول وبكل أسف أن إسرائيل والولايات المتحدة حققتا أهدافا لم يكن بوسعهما تحقيقها ضمن الظروف السابقة قبل سنتين.. وقد سار المخطط كما أرادتا إلى حد كبير.. المفارقة أن اللاعبين الأساسيين في الضربة الافتتاحية يوم 7 أكتوبر (وهما حكومة نتنياهة وحماس) سيتواريان عن المشهد، وربما يختفيان كليا، فهذه الترتيبات العميقة والتغييرات الجذرية ستطال كل المنطقة، بما في ذلك حكومة نتياهو اليمينية المتطرفة، وربما يجري استبدالها بحكومة أكثر واقعية، وتمتلك الحد المطلوب من العقلانية، ولا تحركها الخرافات الدينية والأساطير التوراتية.

التغيير سيحصل حتما، فالموجة عالية جدا، والذكي من يستطيع الخروج منها سالما.