أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 21، 2024

اليـمن، الذي كان سعيدا

 

لليمن ولشعبها مكانة خاصة في قلب كل فلسطيني؛ تربطنا وشائج تاريخية ووجدانية، وعشق متبادل.. في أيام الثورة في لبنان كان اليمانيون دوما حاضرين في العمل الفدائي، وقد قدموا خيرة شبانهم على مذبح فلسطين.. ولكن وللأسف ظل هذا البلد الغالي على قلوبنا منسيا، ومهمشا، وبالكاد تجد مقالات نادرة تتحدث عنه، خاصة بعد اندلاع آخر أزمة فيه، والتي قاربت على العقد الكامل..

وأعترف أنني من المقصرين بالكتابة عن هذا البلد العظيم، ربما لأن الكتابة عنه من أصعب المسائل، فلو أردنا الإشادة باليمن، وتاريخها ودورها وعطائها يمكن لأي طالب مدرسة أن يكتب خطبة مطولة ستكون أكثر من رائعة، وستكون صادقة تماما.. وصفحات الفيسبوك مليئة بمديح اليمن، وبقدر من المبالغة والتهويل والقراءة الرغائبية.. لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير.

عند الحديث عن حب اليمن وشعبها وتعاطفنا مع مأساتها سنتفق جميعا، ولكن بمجرد دخول السياسة على الخط ستتشابك كل الخيوط، وسنتفرق شيعا وأحزابا..

ولا شك أن الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على اليمن هزنا جميعا، وآلمنا، لذا ندينه ونستنكره بأشد العبارات.. واعتقد أن أغلب الفلسطينيين (لا أحب التعميم) فرحوا بالضربات اليمانية الموجهة لإسرائيل، وأنا شخصيا حين سمعتُ "يحيى السريع" أول مرة يعلن الحرب على إسرائيل.. من شدة تأثري بكيت.. لكن كل ما قلته حتى الآن كلام عاطفي نابع من القلب، لكنه في حقيقة الأمر يمثل السطح الخارجي للحدث.. وهذا لا يكفي، ولا يجوز أن تظل مواقفنا مبنية على العاطفة، والتحليل السطحي الشعبوي..

في عهد الإمام البدر كانت اليمن أكثر البلدان العربية تخلفا، فإذا كانت البلدان العربية نفسها متخلفة، فلنا أن نتخيل مقدار التخلف اليمني آنذاك، كان المجتمع يعيش في بيئة قروسطية، في نمط حياته وفكره ونظامه السياسي. وبعد أن أقام اليمانيون نظاما جمهوريا، اكتشفوا أنهم لم يبرحوا القرون الوسطى إلا ببعض الشكليات، ومع دخولهم القرن الحادي والعشرين (بفعل مرور الزمن) ما زال المواطنون دون حقوق سوى شملهم في إحصاءات تعداد السكان، والتي تبين أنَّ الأمية في بعض المناطق أكثر من 60% (اليمن الجنوبي في عهد الحزب الاشتراكي كان قد تخلص من الأمية) والبطالة والفقر أكثر من 50%، وما زالت المرأة في سجنها الاجتماعي، بينما ينفق اليمن على القات أكثر من 2 مليار دولار سنوياً.

وبعد قرون من سباته الشتوي، وعقود أليمة تناوبت خلالها على جسد اليمن المنهك سهام القتلة: أصحاب العمائم، والقبليين والطائفيين، وحكام نرجسيون لا يرون في البلاد من يصلح لحكمها غيرهم، حاول شعب اليمن الثورة على الظلم والتخلف  في إطار الربيع العربي.. بيد أن النتائج أتت عكسية.

يربو تعداد سكان اليمن على الثلاثين مليونا، بتركيبة اجتماعية قبلية، وإذا كانت أغلبيتها من المسحوقين الذين يتطلعون إلى الحرية والكرامة، فإنها تضم أيضا تنظيم القاعدة وخطابه الداعشي، والإخوان المسلمين، وقوى اليسار القادمة من الجنوب، الذين لم يستفيدوا شيئا من النظام بعد قيام الوحدة، والخطابات المذهبية القادمة من صعدة.. مقابل الخطاب الرسمي السابق الموجه للغرب والقائم على تخويفه من "الغول الأصولي"، وتخييره بينه وبين الإرهاب.. وخطاب الحوثيين الحالي والذي لا يخفي تبعيته لإيران، ويعلن الحرب على أمريكا وإسرائيل والسعودية دفعة واحدة، تاركا شعبه للجوع والفقر.

 قبل صعود الحوثيين اصطدموا وتحالفوا مع النظام أكثر من مرة، حتى استولوا على العاصمة في العام 2014، لتبدأ بعدها حربهم ضد التحالف (السعودي الإماراتي) والتي أعادت البلاد إلى سابق تخلفها وفقرها. ومع كل محبتنا للحوثيين، والذين هم من أهل البلاد وليسوا مجرد طائفة، إلا أن هذه الحالة جعلت الشعب اليمني بكل طوائفه وفئاته وقواه السياسية في طرف والسلطة وميليشياتها الحاكمة في طرف. خاصة وأن دوافع ومحددات الحرب للطرفين المتقاتلين ليس وطنية خالصة.

على أية حال، كل ما سبق شأن يمني داخلي، ونرجوا لهم التوحد والتغلب على كل مشاكلهم، وما نناقشه هنا تداعيات دخول اليمن في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. ولفهم ذلك لنتذكر المعطيات التالية:

الحوثيون هم أحد الأذرع الموالية لإيران، والمؤتمرة بأمرها، وقد جعلوا من اليمن ساحة لخوض حروب إيران الإقليمية، في سياق تنافسها مع السعودية على الدور الإقليمي، ومحاولاتها للتدخل في المنطقة وإيجاد موطئ قدم لها في جنوب الجزيرة العربية، حيث باب المندب، مدخل أحد أهم طرق التجارة العالمية. وهذا الدور الوظيفي للحوثيين تبلور قبل الحرب بسنوات عديدة.

منذ بدء العدوان على غزة وكافة أذرع إيران تضرب ضمن قواعد اشتباك؛ بسقف محدد ومنخفض. وفي المرة الأخيرة نجح الحوثيون بالوصول إلى تل أبيب، فاعتبرت إسرائيل ذلك خرقا لهذه القواعد، فردت بقصف جوي عنيف في ميناء الحديدة.

الأدوار التي تؤديها أذرع إيران تأتي عادة بعد تهديدات إسرائيل بضرب الجنوب اللبناني. أو في سياق استعراض القوة الإيرانية في التوازنات العسكرية بين الطرفين.

والغريب أن لهذه الأذرع ميليشيات، كانت سابقا قد تورطت في الصراعات الأهلية في بلدانها، وارتكبت فظائع ضد المدنيين، وساهمت في تشريد الشعب السوري واليمني واللبناني والعراقي، بل في العراق تسلطت على اللاجئين الفلسطينيين وطردتهم من البلاد. وما زالت فئات عريضة من هذه الشعوب تعارضها، وتعتبرها جماعات رجعية استبدادية.

بالنسبة لأدوارها في مواجهة إسرائيل، عملياً لا توجد أي قيمة عسكرية حقيقية لهذه الجبهات؛ فهي لم تمنع الاحتلال من تنفيذ خططه المرسومة بدقة في غزة، ولا حتى استطاعت التشويش عليها، ولم توقف المجازر، ولا التدمير والتهجير، وهي لحد الآن مجرد جبهات إعلامية غير مؤثرة فعليا على مشروع نتنياهو الكبير والممتد الهادف لتدمير غزة وجعلها غير صالحة للعيش.

فيما يتعلق بإغلاق البحر الأحمر، وتعطيل ميناء إيلات، علينا أن نتذكر أن إسرائيل تعتمد أساسا على مينائي أسدود وحيفا.. وإغلاق البحر الأحمر بالإضافة لضرره على مصر، فإنه دفع شركات النقل البحري والتأمين العالمية لاتخاذ الطريق البري البديل (الهند-الإمارات-الأردن- إسرائيل) والذي كان مخططا له قبل الحرب.

استفاد نتنياهو إعلاميا من فتح كل هذه الجبهات، وصار قادرا على القول أنه الملك والمخلص، القادر على حماية إسرائيل وضرب أعدائها على بعد ألفي كلم.

الحقيقة المرة أنّ شعب اليمن كشعب فلسطين، وكسائر الشعوب العربية، كانوا وما زالوا وقوداً للحروب، البعض جعل من دمائهم ساحة وغى إعلامية لتنفيذ مخططات إقليمية ودولية، ولتحسين كل طرف شروطه التفاوضية.

يوليو 15، 2024

لماذا نرفض انتقاد المقاومة؟

 

لأننا تعودنا على ربط النقد بالتجريح والتخوين.. ولأن التشكيك لا يعني عندنا إعادة التفكير، بقدر ما يعني توجيه الاتهامات.

لأننا تشربنا منذ الصغر على مفاهيم غيبية وقدرية، وتعلمنا أن كل شيء إما بيد العلي القدير، ولا حول لنا ولا قوة، أو بيد قوة معادية غامضة تتآمر علينا، ومؤامراتها نافذة بلا ريب.

لأن من يرفضون النقد تمكنوا ببراعتهم اللغوية من تأويل النصوص الدينية بما يتماشى مع أهوائهم، وأنتجوا خطابا دينيا موازيا مفاده أن الله معنا، وناصرنا، بغض النظر عن الحسابات "الدنيوية" والأخذ بالأسباب، وأن العدو مهزوم في كل الأحوال، مهما امتلك من أدوات القوة ومقومات النصر.

ولأن من يرفضون النقد بارعون في الخطابة، وفي الكتابة، وفي تصدير الشعارات، وإجراء المقارنات مع أية تجربة كفاحية نجحت في السابق.. لسانهم فصيح، ونبرة صوتهم عالية، ومفرداتهم رهيبة، ولديهم كل أدوات التأثير على عواطف وقلوب الناس: جزالة الألفاظ، وسحر البيان، والنص الديني، والقوالب الجاهزة.. والجمهور جاهز..

ولأننا تعودنا منذ الصغر على تأليه الزعيم، وتمجيد القائد، وأي انتقاد له يعني العداء للثورة وللمقاومة وللشعب..

ولأننا ما زلنا نعتقد بأن كل شعار ثوري أو ديني وكل مقولة لقائد تاريخي هي بالضرورة صحيحة في كل مكان وزمان، المهم أن يكون الشعار بنغمة وقافية ومصاغ بلغة قوية، ويتضمن المحسنات اللغوية، ويفضَّل أن تكون المقولة سهلة الترديد والحفظ لاستخدامات الفيسبوك.

ولأننا تعلمنا أن كل من يحمل السلاح هو مقاوم شريف بالضرورة وهدفه نبيل وأسلوبه صحيح مهما كان.. وتعلمنا أيضا أن الكفاح المسلح هو الشكل الوحيد لممارسة المقاومة، وما سوى ذلك مجرد ألاعيب وترهات لا طائل منها.

من يرفضون النقد بعضهم من أولئك الذين يتابعون الحرب من مسافة آمنة، كما لو أنها مباراة كرة قدم، يشعرون بالنشوة كلما شاهدوا منظر تفجير دبابة، أو مقتل الجنود الغزاة، ولا يلتفتون لمعاناة أهل غزة، من جوع وحرمان وخوف وتشريد وخسارة عشرات الآلاف من الأرواح.. كل هذا الدمار والتقتيل والمجازر تُنسى أمام مشهد تفجير دبابة.. ومن ينتقد سيفسد عليهم روعة المشهد للصمود الأسطورى.

هؤلاء (وأغلبهم من خارج غزة) لا يريدون رؤية الجانب الإنساني من المشهد، ولا حتى رؤية آدمية أهل غزة، فهم مجرد وقود لحرب مقدسة، وأضحيات واجبة التقديم على مذبح الشهادة.. وغزة ليست مأساة ولا فاجعة ولا كارثة، بل هي مكان ضروري يمنحهم الشعور بالعزة والكرامة، لأن البلدان التي يعيشون فيها لا تمنحهم هذا الشعور، بل تضطهدهم وتنكل بهم، وتهينهم في لقمة عيشهم.. فجاءت غزة لتعطيهم هذا الشعور الرائع.. وهذا المشهد لا يجب أن يتوقف، يجب أن يستمر للأبد، حتى لو قُتل كل أهل غزة.. المهم أن يعيشوا إحساس الكرامة، ولأطول فترة ممكنة.. حتى لو على حساب دماء الغزيين، والنصر الموعود سيجيء بجماجم أطفال غزة.

الخطاب الإعلامي الدارج والشائع مريح للنفس، وهو مسكّن لآلام الضمائر المثقلة بالشعور بالذنب والعجز، وهو البديل السحري الخفي لأي فعل حقيقي ومؤثر، لذلك لا يريدون سماع أي تحليل مغاير، لأنه "مثبط للعزيمة"، و"هادم للمعنويات"، المعنويات التي يستمدونها من أخبار "المعارك الكبرى"، والإنجازات العظيمة، ومن حتمية النصر القريب والعاجل، لذلك، فهم لا يرون من مشهد غزة إلا أبطال المقاومة فقط.. وهم حقا أبطال ولا أشك في ذلك..

يرفضون النقد لأن أي نقد سيخلخل قناعاتهم، وسيهز أرضياتهم التي يقفون فوقها، وسيخرجهم من دوائرهم المريحة.. النقد يحثهم على التفكير والتمحيص وإعادة النظر بالمسلّمات والبديهيات.. وهذه مسألة شاقة وعذاب نفسي، وقد تنتهي بخيبة أمل كبيرة.. والأسهل تصديق الشعارات الرائجة، والمشي مع الركب والانسجام مع القطيع.. ولا بأس من تأجيل خيبة الأمل أطول فترة ممكنة، وحينها فإن اللعنات على المتخاذلين والمتآمرين جاهزة، فهم السبب!  

النقد قد يوضح الصورة ويزيل الغشاوة وهذا آخر ما يريده "من يرفضون النقد"، لأنه قد يعني انهيار شعاراتهم التي بنوا من خلالها شعبيتهم.. فإذا اهتزت قواعدهم الشعبية سينهار بنيانهم، وسيتكشف مدى خطأ حساباتهم وخطأ رهاناتهم ووهن خطابهم الإعلامي..

حين نمارس النقد، لا نمارسه نكاية بفصيل، ولا تصيّد لأخطاء حزب، فهذه قمة الانتهازية.. نمارسه لأننا جميعا في مأزق خطير، ولأن ما يحدث الآن إنما هو حرب إبادة وتهجير تطال الشعب الفلسطيني كله، وما سيترتب عليها سيؤثر على مجمل القضية الفلسطينية وعلى مستقبلنا كلنا، وما يعانيه أهل غزة شيء فظيع وفوق الوصف وهؤلاء يستحقون منا أن نستشعر بآلامهم على الأقل، لا أن نتغنى بمعاناتهم بحجة أنهم أساطير وأبطال خارقين.. والأمانة الوطنية تقتضي منا قول كلمة الحق، ولو كره الناس ذلك.. ومن يريد إرضاء الجمهور كل ما عليه أن يطرح نفسه كخبير إستراتيجي ومحلل سياسي وسيجد عشرات المحطات تستضيفه على شاشاتها، وسيجد هناك المال والشهرة وحب الجماهير المتعطشة لأي نصر..

ولا حاجة للتذكير بأن النقد لا يوجه للمقاومة نفسها، فالمقاومة حق مقدس وواجب مستحق في كل زمان ومكان.. النقد موجه للأساليب والأدوات والحسابات والرهانات والتحالفات وكيفية الممارسة..إلخ، وهذا واجب الجميع..

يوليو 09، 2024

أمين عابد، والخطر القادم

 

منذ أن تعرفت على أمين عابد قبل سنوات عدة، وأنا مواظب على قراءة كل ما يكتب، نتواصل معاً على الخاص من حين إلى آخر، ومع أننا لم نلتق وجها لوجه، إلا أني أحسبه صديقا مقربا، وأستطيع القول أني أعرفه جيدا، أعرف كيف يفكر، وكيف يتصرف، أحس بعالمه الجواني، واسمع صرخاته المكبوتة..

أمين إنسان بسيط جداً؛ يحمر وجهه خجلا إذا مدحته بكلمة، لكنه يغضب بشدة كلما رأى إنسانا مظلوما.. فقير بل ومعدم لكنه نهر عطاء.. زاهد ومتقشف لكنه محب للحياة، ولا يتوانى عن تقديم المساعدة لمن يعرفه ولمن لا يعرفه.. لذا لم استغرب من حجم التضامن الكبير جدا معه، والرافض لجريمة الاعتداء عليه.

أمين مثقف جدا، وعميق الفكر، وصاحب قلم حر، ولديه جرأة غير عادية في قول كلمة الحق.. ومع أنه ابن فتح إلا أنه طالما انتقدها، وانتقد أخطاءها وسياساتها وقادتها، لذلك لم يكن من الفئة "المحظوظة" التي حافظت على مكتسباتها، ولم يتملق لأحد.. كما انتقد حماس حين لجأت للسلاح وخلقت الانقسام، وحين فرضت الضرائب دون وجه حق، وحين ضيقت على الحريات، وحين رأى خيرة شبان غزة يغادرونها بحثا عن "حياة"، فكان من نشطاء "بدنا نعيش".  

ومنذ بدء العدوان رفض النزوح من مخيم جباليا، وشجّع أهالي منطقته على الصمود، وكرس نفسه لخدمتهم، ينقل المصابين، ويساعد الجرحى، ويدفن الشهداء، وينبش الأنقاض بحثا عن ناجين، ويوصل المساعدات لمن يحتاجها، ينظم حملات تطوع لتنظيف الشارع وإزالة الردم.. هو كتلة عطاء وطاقة لا تنضب..

كان ناشطا على أكثر من صعيد، وجميع منشوراته تركز على ضرورة وقف الحرب، مصرا على تسميتها بحرب الإبادة والتهجير، وأنه لا طائل من ورائها، ولن نجني منها سوى المزيد من الخراب والتضحيات التي يمكن تلافيها.. وكان ينتقد أخبار الجزيرة، لأنها منفصلة عن الواقع، ولا تنقل الحقيقة، وتزين للناس أهوال الحرب، وتمنح إسرائيل المزيد من التبريرات لمواصلة عدوانها.. وكان ينتقد ويفضح من يسرقون المعونات، ومن لا يوزعونها بعدالة، ومن يتاجرون باسم الشعب تحت مسميات التكايا والجمعيات الخيرية، ومن يرفعون الأسعار، ومن يستغلون معاناة الناس بلا رحمة ولا ضمير، ومن يتوانون عن حماية شعبهم، ويمتنعون عن محاسبة تجار الحرب والسماسرة.. كل هؤلاء كان أمين ينتقدهم بشجاعة وصراحة.. لذا فأعداؤه كثر..

لكن محبيه أكثر بكثير..  

أمين بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، ولم يتزوج، وحصل على الماجستير في العلوم السياسية ولم يشتغل.. أمين مثل كل أبناء جيله، لم يحظ بفرصة للعيش؛ ما أن أنهى طفولته حتى وجد نفسه في وسط انتفاضة شعبية "مسلحة"، ثم عاش الحصار بكل ما جره من مظالم وضنك، ثم شهد ستة حروب، بكل ويلاتها وأهوالها وفواجعها.. حياة كلها خوف وقصف ودمار وقتلى.. وفي أوقات "الاستراحة" بين الحروب معاناة وقهر على كافة المستويات.. لم يغادر القطاع، لم يرَ العالم، لم يختبر شيئا اسمه حياة طبيعية..

اليوم، وبينما غزة تعيش سلسلة مذابح، في ذروة جديدة لأعنف قصف إسرائيلي منذ بداية العدوان، كان أمين في طريقه لتدبر احتياجات عائلته، فاختطفته مجموعة من الملثمين تقدر بعشرين عنصرا واستفردت به في مكان منعزل، وهاجمته بلا رحمة، واعتدوا عليه بالضرب المبرح، بالهراوات والأدوات الحادة وأعقاب الأسلحة، على مدى 40 دقيقة، كسّروا أسنانه وأطرافه الأربعة، ولولا قدوم الأهالي ومجموعة من النسوة ممن هبوا لنجدته لتمكنت تلك المجموعة الآثمة والجبانة من تصفيته والإجهاز عليه..

ما حصل مع أمين مخيف ومرعب ويستوجب دق ناقوس الخطر.. والخطورة تكمن في تفشي الفوضى والانفلات الأمني، والتي ستتفاقم أكثر.. وقد تفتتح حلقة جديدة من مسلسل الصراع الأهلي، ومثل هكذا صراع هو الأخطر والأشد والأعنف، ولن يسلم منه أحد؛ من اعتدى ومن اعتدي عليه، ستتسع دوائر الانتقام، وحلقات العنف.

وكل محاولة لإسكات الصوت لن تكون أكثر من مجرد إرهاب، ولكنه إرهاب من لم يعد لديهم ما يخسرونه وما يخشونه. لذا هي أفعال حمقاء وجبانة ستجر الجميع إلى أتون الفتنة والاقتتال الداخلي. وهذا ما حذر منه أمين قبل أيام قليلة.

الخطورة أن ينتقل الخلاف في الرأي من الكلام والنقاش إلى مستوى الفعل والانتقام والقتل، هذا لن يخلق سوى الكراهية والحقد والمزيد من التعصب والتشظي.. ويبدو أن بعض المتشددين من حماس قد بدؤوا مبكرا التحول إلى هذا الاتجاه، فإذا كان حالنا الآن ونحن جميعا تحت القصف الإسرائيلي، فكيف سيكون حالنا في "اليوم التالي" للحرب؟

الخطورة بدأت تظهر بوضوح منذ عدة أشهر، لكن الإعلام يتكتم عنها، حتى لا يخدش الصورة "المثالية" التي صدّرها عن مجتمع غزة، وعن المقاومة وحاضنتها المفترضة.. ما يجري من سرقات وتعديات واستغلال وسمسرة وذل وبهدلة وإمتهان لكرامة الناس، ومن تفتت اجتماعي، وانهيار قيمي وصل حدا خطيرا لدرجة أن الجميع يخجل من ذكر الكثير من القصص، التي تبدو شاذة الآن، ولكن إن استمر مسلسل التدهور فتصبح مجرد قصص يومية..

أوقفوا هذه الحرب العبثية قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا..

يوليو 05، 2024

معضلة فتح، والمعارضة الفلسطينية

 

في الموجة الأولى من الكفاح الفلسطيني، ونتحدث هنا عن الفترة منذ مطلع القرن العشرين وحتى النكبة 1948 لم يتبلور تنظيم فلسطيني مركزي بحيث يقود النضال الوطني، وتلتف من حوله الجماهير والقوى والأحزاب؛ فقد برزت شخصيات قيادية مثل الشيخ عز الدين القسام، وحسن سلامه، وعبد القادر الحسيني وغيرهم من القيادات العسكرية، ومنذ الثلاثينيات بدأت تتشكل أحزاب وقوى سياسية، لم يتمكن أيٍ منها من تصدّر المشهد، وسرعان ما اتخذت الطابع العشائري، الأمر الذي أدخلها في صراعات بينية، وصلت حد التصفيات.

في النصف الثاني من القرن الماضي بدأت الموجة الكفاحية الثانية، متمثلة بانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة، وتأسيس منظمة التحرير، ومن ثم تشكّل العديد من الفصائل الوطنية والتي انحرطت بدورها في إطار المنظمة.

وبعد أربع سنوات من تأسيسها هيمنت فتح ومعها الفصائل المسلحة على المنظمة، وأخرجتها من دائرة التبعية للأنظمة الرسمية، وحاولت قدر المستطاع الحفاظ على القرار الوطني المستقل، وتحريره من الوصاية والاحتواء.

ودون الخوض في تفاصيل السرد التاريخي، ما يعنينا هنا أن فتح منذ الانطلاقة 1965 وحتى انتفاضة الأقصى 2000 شكلت العامود الفقري للثورة، بصفتها التنظيم الأكثر شعبية، والأكثر حضورا ومشاركة وفاعلية في الميادين العسكرية والسياسية وغيرها..

في الانتفاضة الثانية والتي كانت ربما آخر عهد فتح بالكفاح المسلح، جرى أمران، الأول: عسكرة الانتفاضة، ونزع طابعها المدني والجماهيري والسلمي. والثاني: صعود قوى الإسلام السياسي وبالذات حركة حماس، وتليها الجهاد الإسلامي.

واختصارا للكلام، سنركز على موضوع علاقة القوى الفلسطينية (حماس، وسائر الفصائل الأخرى) بحركة فتح، أو بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية، وسندمج مرحلة ما قبل الانتفاضة، بالمرحلة التي تليها وصولا إلى وقتنا الراهن، نظرا لتشابه الخصائص والسمات فيما نريد الحديث عنه تحديدا.

اتسمت تلك المرحلة بثلاث سمات أساسية، وهذا ينطبق على الجميع: فتح وحلفائها ومعارضيها وخصومها:

الأولى: كل الفعل النضالي الفلسطيني كان يجري بدون خطة إستراتيجية موحدة، رغم وجودها في الكتب والأدبيات، لكن حتى هذه الأدبيات تقادمت وصار ضروريا تطويرها وتحديثها، فضلا عن أنه كان يجري التخلي عنها لصالح العمل الارتجالي، والانتظار، والاحتكام لردات الفعل، بعقلية بطريركية أبوية، وبدون نهج مؤسساتي مبني على أسس علمية.

الثانية: لم تجرِ أي محاولة نقد ذاتي حقيقية، أو مراجعات نقدية، أو إعادة تقييم للموقف، أو محاولات لتصويب المسار. في كل مرة نقول "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، و"الوقت غير مناسب"، أو ننظر لعمليات النقد بوصفها تثبيط للعزائم، أو نمارس النقد بطريقة عدائية وسلبية.

الثالثة: علاقات الفصائل الوطنية والإسلامية مع فتح (والمنظمة والسلطة) علاقة معارضة (وهذا جيد ومشروع وضروري)، ولكنها لا تشبه شكل المعارضة مع النظام في الدول الديمقراطية، والتي تقوم على أساس التكاملية والتنافس الإيجابي وتبادل الأدوار لخدمة هدف وطني مشترك؛ بل كانت علاقات تضاد وتنافر بمنطلقات إقصائية، وبنهج التفرد والإحلال، وتصيد الأخطاء، أي علاقات تنافس سلبي بمنهج التخوين والتكفير وتبادل الاتهامات وإلقاء المسؤوليات على الطرف الآخر.

وأي حصيف يعرف أن هذه النقاط كفيلة بتدمير وإفشال أي ثورة، حتى لو قادها شخص خارق بعبقريته وإخلاصه وشجاعته.. لأن نجاح أي ثورة يعتمد أساسا على الشعب، وعلى قواه الحية والفاعلة والمنظمة، شريطة أن تكون مبنية على أساس خطة إستراتيجية بعيدة المدى، وبرؤية واضحة، وبخطاب سياسي واحد، ونهج وممارسة موحدة في الفعل الثوري والمقاوم، وبعمليات مراجعة ونقد صادقة وشجاعة ودائمة ومستمرة.. وهذه شروط أساسية لا مجال للتهاون فيها.

على سبيل المثال من المفترض أن تلتقي الفصائل اليسارية مع فتح لاعتبارات فكرية عديدة، أبسطها أنّ فتح قادرة على استيعاب وتقبّل وهضم اليسار بأفكاره وتوجهاته وبرامجه، بل ودعمه وتقويته.. لكن فصائل اليسار تحالفت مع حماس بدءاً من تأسيس ما عُرف ب"الفصائل العشرة" التي شكلها النظام السوري لإفشال مسار مدريد (حتى قبل أن يتكشف مسار أوسلو)، وصولا إلى تحالفهما معاً في أية انتخابات طلابية أو نقابية بهدف إفشال أي كتلة مقربة من فتح. مع العلم أن حماس بأيديولوجيتها وبرنامجها الاجتماعي ومنطلقاتها الفكرية وأولوياتها وأجنداتها (بغض النظر إذا كانت صح أو خطأ) تتناقض كليا مع كل ما يحمله اليسار من أفكار وعقائد وبرامج وتوجهات، وتتعارض مع تاريخ اليسار. ولن أدخل في محاولة فهم أسباب ذلك، حتى لا نخرج عن الموضوع. فهذه الظاهرة تشمل النخب اليسارية والعلمانية (خارج فلسطين) التي صارت ترى في حزب الله، وإيران، وحتى طالبان وداعش نماذج ملهمة ومستعدة للتحالف معها!

بالنسبة لحماس (ما بعد انتفاضة الأقصى)، حيث بدأت لأول مرة تمارس الكفاح المسلح، وبدأت شعبيتها تتصاعد بشكل كبير ولافت، بمعنى أنها تخلت عن نهجها الدعوي، وصارت فلسطين من ضمن أولوياتها (رغم أن الزهار وصف فلسطين بأنها مجرد مسواك، وهي لا تبدو على الخارطة، والعلم الوطني مجرد خرقة بالية..)، ما يعنينا هنا أن حماس تبنت برنامجا سياسيا لا يختلف عن برنامج فتح، وبالتالي انتفت أسباب الاختلاف معها، وصار من المفترض أن تلتحم الحركتان في برنامج سياسي واحد مقاوم. لكن هذا لم يحدث، بل صار الانقسام!

مشكلة حماس أنها قدمت نفسها نموذجا استثنائيا في التاريخ النضالي الفلسطيني، منقطعا عن سياق التجربة النضالية الفلسطينية، ولم تبنِ على نتاج تراكماتها، واعتبرت أن تاريخ المقاومة بدأ بها، ولا يستمر بدونها، وبعد أن كانت تخوّن أطروحات فتح في الحل السياسي، وبرنامج الدولة الفلسطينية، جاءت وبعد أربعة عقود لتتبنى نفس البرنامج حرفيا، ولكن بالانفصال عن كل ما سبق. بمعنى أنه عوضا عن استمرارية العمل الكفاحي والبناء على ما تراكم عادت بنا حماس إلى المربع الأول! ولكن منقسمين!

تعالوا نتخيل لو أن كل الأطراف والقوى الفلسطينية تخلت عن التحزب والتعصب والحسابات الفئوية الضيقة، ونزعت عباءاتها الأيديولوجية، وكفّت عن الارتهان للخارج، ولم تدخل في لعبة المحاور الإقليمية وتحالفاتها، والعمل لمصلحة أجندات خارجية، وأقرت (قولاً وفعلاً) بأن الجميع جزء من النضال الوطني، ومتفقون على هدف واحد، ومواجهة عدو واحد.. وبدلا من تبادل الاتهامات، نبدأ بممارسة نقد ذاتي لتصويب المسار وتدارك الأخطاء، والكف عن المغامرات المتهورة.. فقط تخيلوا ماذا كان ممكنا أن يحدث؟  

المسألة ليست توفيرا للمال والجهد والوقت والتضحيات الباهظة.. المسألة أننا بدون ذلك سنظل نحصي الهزائم والخيبات، وسنظل ندفع ثمن التعصب الحزبي والغرور الأيديولوجي، وسنظل غارقين في الأوهام والخلافات وتمنيات الانتصار الموعود الذي فقدنا كل أسبابه.

يونيو 28، 2024

استخدام فاسد لأمثلة تاريخية

 

سواء للرد على من يتهمونهم بالتهور، أو للتخفيف من وطأة العدد الضحم جدا من الضحايا الفلسطينيين، أو لتبرير لجوئهم للحرب..  يكثر قادة حماس من استخدام مثال الجزائر وفيتنام، بذريعة أن هذه التضحيات هي الثمن الذي يتوجب دفعه لقاء النصر والحرية والتحرير..

على أية حال، سواء مثالي الجزائر وفيتنام، أو جميع الأمثلة الأخرى (كوبا، كاسترو، جيفارا، لوممبا..) جاءت في زمن الحرب الباردة، أي ضمن معطيات ووقائع وظرف سياسي ونظام دولي وتوازنات وموازين قوى مختلفة كليا عما هو عليه حال اليوم، ويمكن القول أنها لم تعد موجودة، وحلت مكانها عناصر ومعطيات أخرى مختلفة جذريا، أوجدت محددات جديدة ومختلفة أيضا لسياسات الدول وتدخلاتها وتحالفاتها، ولقدرة حركات التحرر على إحراز أهدافها.. وبالتالي فإن المقارنة من حيث المبدأ ستكون فاسدة، ما لم تأخذ كل تلك العناصر بالحسبان.

حتى نموذج انتصار المؤتمر الوطني الإفريقي وإنهائه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا جاء كحلقة أخيرة في مسلسل الحرب الباردة، ومثّل نهايتها، أو بعبارة أدق بسبب انتهائها.. وهذا العنصر يعد من أهم أسباب انتصار ثورة مانديلا..

بالنسبة لمثال الجزائر، في الواقع، القيمة الحقيقية له لا تكمن فقط في عدد الشهداء المهول (مليون شهيد)، بل والأهم في انتصار الثورة الجزائرية لحد ذاته، صحيح أن الفضل الأساسي لإحراز النصر كان بسبب تلك التضحيات الكبيرة، ولكن بالتأكيد ثمة أسباب أخرى للنصر؛ أبرزها الإدارة الجيدة والحكيمة للمعارك، وحسن الاستعداد والتخطيط، وتأمين الجبهة الداخلية، وانخراط عامة الشعب في الثورة، والاستفادة من الظرف السياسي الدولي (أي الحرب الباردة)، والاعتماد على الدعم الخارجي السياسي واللوجستي (تذكروا هذه العناصر جيدا).. والتي بدونها كان يتعذر تحقيق الانتصار.

فلو أن الثورة الجزائرية لم تحقق الانتصار، أو أصيبت بانتكاسة ما، ومع نفس العدد من الشهداء لصارت مثلاً يُضرب للدلالة على الفشل والتهور وسوء التخطيط.. وستكون المقولة الدارجة "مليون شهيد، راحوا هدرا".. فليست العبرة في أعداد الضحايا، لنتذكر مثلا أن شعوب الهنود الحمر خاضوا كفاحا مريرا على مدى عقود طويلة، وخسروا ملايين الأرواح، ولم تكن تنقصهم الشجاعة، ولا قيم المجد والحرية.. لكنهم خسروا وسُحقوا في النهاية.

فلا يشترط لثورة ما أو لشعب معين حتى ينتصر أن يكون على جانب الحق، وأن تكون قضيته عادلة، ولنا في القضية الكردية، والأرمنية، ومجاهدي خلق وغيرهم أمثلة واضحة.

ومن الأمثلة التي يُساء استخدامها "الثورة الفيتنامية"، والتي يتم اختزالها في مسألتين: أنها ثورة مسلحة، وأن قادتها كانوا يفاوضون العدو وهم تحت النار، وفي أوج المعارك.. وفي هذا الطرح مغالطات تاريخية عديدة، فمثلا "هوشي منه" وهو أبو الثورة الفيتنامية ورمزها ومؤسسها والذي لا يختلف أحد على وطنيته وحكمته وشجاعته، كان قد بدأ المفاوضات مع الأمريكان إبان الحرب العالمية الثانية، وقد تعاون مع الجيش الأمريكي واعتبره حليفا لهم (في الفترة ما بين 1941، وحتى 1945)، حيث التقى الطرفان آنذاك على مصلحة واحدة؛ وهي محاربة اليابانيين الذي احتلوا فيتنام، ولكنهم دعموا القوات الفرنسية التي كانت تسيطر على البلاد وتحالفوا معها.

ومرة ثانية تفاوض "هوشي منه" مع الأعداء، وهذه المرة كانت بعد تحقيقه النصر الحاسم على الفرنسيين في معركة "ديان بيان فو" الفاصلة سنة 1954، والتي انتهت بإعلان الفرنسيين استسلامهم لثوار "الفيت منه" وانسحابهم من شمال البلاد، فرغم تلك النتيجة العسكرية الحاسمة إلا أن مصير فيتنام ومستقبلها كانا بيد التوافق الدولي، حيث اجتمعت 11 دولة في جنيف (أمريكا، الاتحاد السوفييتي، فرنسا، بريطانيا، الصين.. وبالطبع الثوار الفيتناميين)، وكان أمام "هوشي منه" خياران: إما مواصلة الحرب حتى طرد الفرنسيين من كل فيتنام، أو القبول بالتسوية التي عرضها المجتمع الدولي عليه، والتي تمثلت بتقسيم البلاد إلى شطرين (شمالي وجنوبي).. وهو خيار صعب ومحرج، وقد توقع "هوشي منه" دعم حلفائه الأقربين (الصين والاتحاد السوفييتي) لكن الصين كانت قد خسرت في الحرب الكورية (التي انتهت قبل ذلك بسنتين) نحو مليون قتيل، وبالتالي ستكون غير راغبة بخوض حرب جديدة، أما الاتحاد السوفييتي فكان راغبا بتحسين علاقاته مع الغرب، وتخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة، وفي النهاية ضغطوا على "هوشي منه" للموافقة على تقسيم البلاد، والذي لم يكن أمامه سوى القبول.

وثمة درس آخر من معركة "ديان بيان فو" الحاسمة؛ وهو أنها اعتمدت على العنصر الجماهيري، حيث اشترك نحو 250 ألف مدني أكثر من نصفهم نساء، في نقل المؤن والمعدات والأسلحة وقطع المدافع التي تم تفكيكها وإعادة تركيبها وتمويهها حول المنطقة التي تحصن فيها الجيش الفرنسي، والذي قال قائده آنذاك أنه يمتلك مدافع وأسلحة أكثر من اللازم، ولكنه بمجرد تلقيه الهزيمة انتحر.. وهذه ممارسة اختفت في الوقت الراهن، حين كان كل قائد يستشعر بمسؤوليته عن الهزيمة يستقيل أو ينتحر.

العنصر الآخر المتعلق بالنموذج الفيتنامي هو أن الثورة الفيتنامية لم تقتصر على السلاح، بل وأيضا على المقاومة السلمية، فبعد تقسيم البلاد (1955) وانسحاب الفرنسيين خضع الشطر الجنوبي منها ل"حكومة فيتنام الجنوبية" الموالية لأمريكا، وكانت حكومة فاسدة ودكتاتورية، وبسبب سياساتها القمعية اندلعت في البلاد موجة احتجاجات شعبية على خلفية قمعها للبوذيين (الذين يشكلون 70% من السكان)، فبدأ الرهبان بقيادة مظاهرات شعبية حاشدة ضد النظام، وفي كل مرة يقوم راهب بحرق نفسه أمام الجميع، ومع تكرار هذا الشكل الفريد من المقاومة السلمية كانت كراهية الشعب للنظام وسخطه عليه تترسخ أكثر فأكثر، وصولا إلى إسقاطه، مع استمرار التحاق الشبان بالثورة وانضمامهم لجبهة "الفيتكونج"، التي صارت جبهة جميع الشعب.

صحيح أن الفيتناميين خسروا نحو مليوني قتيل بين مدني وعسكري، بسبب شراسة ووحشية العدو، بيد أنهم كبدوا الفرنسيين نحو مائة ألف قتيل، وكبدوا الأمريكان 58 ألف قتيل، بالإضافة لنحو 250 ألف قتيل من الجيش الفيتنامي الجنوبي المدعوم من أمريكا. ما يدل على أن موازين القوى لم تكن مختلة بالكامل.

حين تأخذ مثالا تاريخيا افهمه بالكامل، ولا تجتزئ جانبا منه بما يتوافق مع أهدافك الأيديولوجية، على الأقل احتراما لعقول الناس.