شكلت الفترة ما بين تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في
العشرية الثانية من القرن العشرين، وحتى مطلع السبعينيات ما يمكن وصفها بمرحلة
الإعداد والتهيئة، فيما شكلت السبعينيات مرحلة التسخين والانتشار والإستعداد
للانطلاقة الأهم لحركات الإسلام السياسي، حيث ستبرز بقوة في الثمانينيات جماعة
الإخوان والسلفية وما سمي بالصحوة الدينية، وستبلغ أوجها فيما سمي بالعشرية
السوداء في الجزائر، مع الاستمرار بالتسخين لانطلاقة أخرى ستظهر فيها الحركات
"الجهادية" الأكثر تشددا مع مطلع العشرية الأولى من هذا القرن. وستكون
العشرية الثانية مرحلة الذروة لكل هذه الظاهرة، وكانت أبرز تجلياتها طالبان
والقاعدة والنصرة وداعش (في العراق وسورية وأفغانستان).. بالتزامن مع سيطرة
الإخوان على السودان ومصر وتونس والمغرب والأردن.
ما أعاق وأخّر حركات الإسلام السياسي خمسين سنة انتشار فكر القومية العربية
وقوة التيار اليساري والوطني، وسيطرة حزب البعث في قطرين مهمين، ووجود عبد الناصر
(وهي فعليا الحواضر العربية)، وصعود الوطنية والقُطرية وانطلاقة الثورة الفلسطينية
وتصاعد الصراع العربي الصهيوني الذي ظلت فيه قوى الإسلام السياسي غائبة ومهمشة..
أما ما ساعد على نهوضها وتمددها فجاء من ثلاث مصادر، الأول: سيطرة الملالي
على الثورة الإيرانية والبدء بمرحلة تصدير الثورة. الثاني: انكفاء مصر عن دورها
القومي ومجيء السادات الذي أراد كنس الناصرية واليسار بالاستعانة بالإخوان.
الثالث: التحول السعودي بعد حادثة جهيمان والاستعانة بالوهابية، والعمل على نشرها
في عموم العالم الإسلامي، وأيضا بالتعاون مع الإخوان.
متى وكيف ولماذا بدأ منحنى "الإسلام السياسي" بالهبوط؟ وإلى أي
مدى سيواصل هبوطه؟
لنبدأ بمتى؟ بدأ مع انكفاء موجة "الربيع العربي" بانتكاسة مرعبة،
أي منذ أواسط العشرية الثانية.
أما كيف؟ فيمكن رصد العديد من تجليات الهبوط والتراجع: التجربة الفاشلة
لحكم الإخوان في مصر، مع أنها قصيرة لكنها كانت كافية لكشف الكثيرن ولدق ناقوس
الخطر، ثم فشل حزب النهضة التونسي وخروجه عن الحكم، وتكشف التحالف المريب بين
الإخوان والقصر في المغرب وتورطهم في مشروع التطبيع، الجزائر كانت قد سبقت الجيران
بعد تكشف الوجه العنيف والمرعب لجماعات متشددة أجرمت بحق القرويين (لندع فساد
النظام جانبا، لأنه في سياق آخر)، في السودان خروج مهين لنظام البشير، بعد فشله
الذريع في إدارة أزمات البلاد. إضافة للعديد من تجارب الحكم الفاشلة لجماعات
إسلامية في العديد من البلدان الإسلامية، من طالبان أفغانستان وحتى بوجو حرام في
نيجيريا، مرورا بالصومال وتشاد.
لنأتي إلى لماذا، لأنها الأهم؛ أولاً: لنتجاوز نطرية إنشاء الإخوان بدعم
وتمويل من القنصلية البريطانية في الإسماعيلية، فإذا حُدِّد لها آنذاك دورا وظيفيا،
فإن الجماعة تجاوزته بعد أن توسعت ودخلتها شرائح اجتماعية ومجموعات اقتصادية
وسياسية وشخصيات فكرية متنوعة، تعددت مصالحها، ولم تعد الجماعة كتلة صماء
متجانسة.. بيد أن دورها الوظيفي في داخل الأقطار العربية كان واضحا، أو على الأقل
لعبة تبادل المصالح والمنافع، وقد حُدِّد هذا الدور في مسألتين: التحالف مع
الأنظمة الرجعية، وضرب وإعاقة كل مسار وطني تقدمي سواء دول أم أحزاب أم تيارات
فكرية ديمقراطية وثورية، أي الدفاع عن تلك الأنظمة بمواجهة خصومها..
في تلك الدول تصرفت الجماعة كـ"معارضة مضمونة" خطابها مركز في
المجال الديني والأخلاقي والاجتماعي دون تهديد حقيقي للأنظمة، بل مساندتها في
الأزمات، ولكن، في ظل التغيرات العالمية، وترتيبات النظام الدولي الجديد، الذي
يقتضي إعادة تعريف الدور الوظيفي للأنظمة ذاتها.. لم تعد صيغة التعايش بين الأنظمة
وجماعات الإسلام السياسي ممكنة، وصار الافتراق..
فالدول التي دعمتها، أو التي تغاضت عن تنامي قوتها، أو التي جبنت عن
مواجهتها صار عليها اللجوء للطلاق أو الصدام.. كما حدث في الجزائر ثم مصر وأخيرا
الأردن.. وقبل ذلك الدول التي استشعرت بخطرها فحظرتها (السعودية، الإمارات،
موريتانيا..)
مع أن الجماعة في مرحلة سابقة قامت بعمليات توطين نفسها في جميع الأقطار،
أي تحولت إلى أحزاب سياسية مجالها الدولة والمجتمع المحلي، حصل ذلك بعد أن اصطدمت بالمعادلات
السياسية الدولية، وبالواقع المادي واستحقاقات الحكم، وانكشفت محدودية أدواتها في
الاستجابة لتحولات الدولة الحديثة، وتبين لها عدم جدوى شعاراتها النظرية، إلا أنها
لم تتخلَّ عن تصورها العقائدي العابر للوطن، ما جعلها تصطدم مع تحولات الدول وسعيها
للتكيف مع النظام الدولي الجديد.. ما يعني انتهاء حاجة الأنظمة للجماعة أو أنها
صارت تمثل عبئًا مزدوجًا: داخليًا لكونها ترفض التكيف مع أنماط الحوكمة الجديدة،
وخارجيًا لأنها تعيق إعادة ترتيب الإقليم.
وكما كتب "إبراهيم عجوة": "لم تكن الضربات المتتالية لحماس
في غزة مجرد تصفية لمجموعة عسكرية، بل كانت "تصفية رمزية" لآخر قلاع
الإسلام السياسي، ولأن الطوفان انتهى بنكبة دون أي منجز سياسي لم يعد نموذجها في
المقاومة ملهما، وقد تبين أنه مغامرة وتهور، ضمن حسابات حزبية ضيقة، ولصالح أجندات
خارجية، وبالتالي ضعفت الجاذبية الرمزية للجماعة الأم، ورُفع الغطاء العاطفي عن
الإخوان في البلدان التي كانت تتردد طويلًا في اتخاذ خطوات قانونية حاسمة بحقهم،
وقد شكلت الحرب على غزة ذروة الصدام بين الإسلام السياسي ومصالح الإقليم، حيث
تحوّلت "المقاومة" من مشروع وطني إلى عبء إقليمي، وبدلاً من أن تعبّر عن
تطلعات فلسطينية، باتت تُستثمر في خدمة سرديات وظيفية لصالح أجندات وقوى خارجية،
ما عجّل بتعرية المشروع وتراجع الهالة الرمزية التي أحاطت به لعقود".
ثانيا:
المنابع التي غذت الإسلام السياسي لعقود نضبت وجفت تماما؛ فالسعودية التي شكلت أهم
مصدر لنشر الأيديولوجية الدينية، لم تتوقف عن مشروعها وحسب، بل انقلبت عليه..
المصدر الثاني: إيران، وهذه أيضا تعرضت لضربات قاصمة، وتم بتر أذرعها، وصارت مجبرة
على الانكفاء، والتخلي عن مشروع تصدير الثورة، ودعم الجماعات الموالية لها..
والمسألة هنا ليست فقط إجراءات في الإطار العسكري والحزبي، الأهم رمزية هذا التحول
وأثره على المدى القصير والبعيد.
ثالثا:
النماذج التي قدمتها جماعات الإسلام السياسي في الحكم أو السيطرة على مناطق كانت جميعها بائسة وفاشلة
ودموية (قبل وبعد الربيع العربي)، وإضافة إلى الأمثلة التي ذكرنا بعضها سابقا، شكل
نموذج داعش والنصرة صدمة للعالم في مدى قسوته وعنفه، صورت الإسلام قرينا
بالإرهاب.. أما نموذج إيران، فقد خلق بيئة طائفية تورطت فيها كل الجماعات الإسلامية
وغير الإسلامية، لدرجة أن الإسلام السياسي بشقيه السُني والشيعي لم يعد مصدر إلهام،
وقد فقد رونقه ومصداقيته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق