في ذلك اليوم الحزيراني النديّ، قبل عشرين عامًا، كُنّا على موعدٍ
خاص مع الفرح، في يوم سيحيل حياتينا لسحابة ذكريات، وحكايات عشقٍ وأغنيات ... جئنا
بلا موعد، والتقينا صدفة على جسر من الأمل المُمدد فوق كومة يأس ...
توّجتني ذلك اليوم على عرشها، فأهدتني قناديلها وضحكاتها ... سكنَتْ
شراييني وخبّأتُها في خوابي القلب، ولم أفرّط يومًا بسرها ...
شهرُ حزيران الذي تنزَّل فيه العشق من السماوات العُلى ... شهيًّا
مثل أول الصباح ... طريّاً كحبة خوخ ... هادراً مثل صوت الحياة ... فمن شهد منكم
الشهرَ فليحصد حنطته... وليعشق كما عشقْت ... أو يذُبْ أسىً كدمع الشموع...
سأحدثكم عن حبيبتي قليلاً ... سيدةٌ بكامل مشمشها؛ لها بهاءُ البدر،
وغموض الضباب ... فيها زهد العابد وطموح الحالمين، مبسمها نافذة للبحر ... صمتها
بابٌ للصحراء ... ووعدُها سقفٌ للفضاء ... في طفولتها عصفتْ بها الأيام، وتداولتها
الجراح، وكلما نكأ الريحُ لها جرحًا ... ضاق البحر بسرّها الكبير ... فترفلُ
بالصمت وبالأحزان ...
في البدء، أحببتها بلا سبب، ثم صار عندي ألف سبب، وألف شمعة توقد
جذوة الحب كل مساء، وألف طريقة لأستلَّ من غمد روحي ألف قمرٍ للشغف، وأفسح الطريق
للهواء الرطب كي يعبر من نافذتها ... كي أرقص طربًا ... ويهتز قلبي لها ...
فتتدفقُ منه أنهارًا من نبيذ وفرح ...
كلما مرّت تراءى لي أنها تُـحلّقُ بخيلاء بين الكواكب ... تُـحلّقُ
عاليا فتضيء أكثر، وتبتسم ... ثم تهبط رويدًا رويدًا مثل طائر آتٍ من البعيد يحمل
بشرى ... تسيرُ على مهل وراء الأفق ... لأمسك طيفها بكلتا يدي، فأصحو ... رأيتها
سمراء كبيادر القمح ... حنطية من فرط ما ضحك الموسم حين واعده المطر ... مشرقة مثل
أيقونة معلقة في كبد السماء ... من عينيها ينبلج الفجر ... ومن كفّيها تشرق الشمس
... ومن كلامها يبزغ قوس قزح... قلبها شفّاف كماء النبع وطفل يرفض أن يكبر ...
تجرحه صورة ... وتبكيه أغنية ... وتحييه بسمة من ثغر طفلة ... صوتها نايُ السَّحَر
... طلَّتُها أول النهار كمطلع أغنية، تشعل نار الحنين ... سهلة مثل كلمة تتداولها
كل اللغات، وعصيّة مثل أمنية مستحيلة ... إذا حضرَتْ أشعرُ أني نحلة وهي قفير
العسل ... وإذا أسبلت عينيها تغرقني في نوم دافئ ... وأذوب بين راحتيها مثل حبة
توت ... أحلم أني في جنّتها، أمتزجُ في دمعها ... أُولد .. وأموت...
عشرون سنة مرّت كما مر النسيمُ على خد زهرة ... عشرون سنة وما زلت
أفكّكُ لغزها، أسبرُ أغوارها، أدور في فُلْكها ... وقد أحتاجُ عُمرًا إضافيًّا
لأصل إلى حيث أريد ... عشرون سنة مضت ... كلحنٍ شجِيّ، مثل وابلٍ ناعمٍ من المطر
... ومثل لوز شهي ...
كل هذي السنين وأنا أجمع لها الورد، وأَنْظم القصائد، وأُحضِرُ
البحرَ إلى شُبّاكها في العصارى الحالمات، وكنتُ إذا اشتدَّ الحرُّ أسوقُ إليها
الغمام، وأصير لها ظلا ظليلا، وإذا وقفتُ حيرانا، أو مسّني اللُغوب، تمحو بكفّها
الحاني ما خطّته المنايا، وما كتبته الأوجاع ... ثم ترسم لي خارطة الطريق، لئلّا
أضل في متاهات المغيب .. كنتُ أنسى لشدة العشق ... أن قلبي مجرد عضلة ...
لا تحمل فوق طاقتها ... وأن جرعة حب زائدة قد تنال منه ... ناداني قلبي فلبيت
النداء ... كنتُ أنسى لفرط الشوق أني مجرد إنسان ... لا يقوى على الطيران ...
وكلما نادى الحنين، خفقت أجنحة روحي لتطير في أقاصي المدى ...
نفسُ المرأة التي عشقتها مُذ رأيتها، قبل عشرين عاما، طوال تلك
السنين، فقدنا أشياء كثيرة؛ أصدقاء يأتون ويروحون، علاقات عابرة تمضي إلى حالها، أحلام
تخفق، وأخرى تتحقق... كان العمر يمضي، بطيئا حيناً، وسريعاً أحيان... كل الأشياء
كانت تصغر وتتلاشى... وحده حُبّنا كان يكبر، ووحدها ذكرياتنا كانت تحضر، في كل
مساء، بنفس بريق العينين، وبنفس الشغف ...
يا وردة الصُبح ... ما أجملك ... يا موئل بهجتي ... يا مرفأ الحلم
ومستقر الأماني ... سنعيش معًا لحظةً فلحظة، إذا تعبتُ سآوي إلى حضنك، وإن خفتِ من
عواء الريح أو من شدة المطر ... سأضمّكِ إلى صدري، لأعصمكِ من الطوفان ..
كل عام وأنتِ حبيبتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق