"بورين"،
قرية فلسطينية نمطية، بيوت قديمة تعود لأيام الأتراك، وتضم بين جدرانها ذكريات
أليمة من ذاك الزمن الغابر، أزقة ضيقة وسلاسل حجرية
وعيون ماءٍ جارية، وبعض الآثار المتبقية من العصر الروماني، تقبع على جبل يتوسط
المسافة بين النهر والبحر، وتطل على منظر طبيعي خلاب، حيث بساتين اللوز والزيتون،
وحقول الحنطة التي تمشطها نسمات الصيف العليلة، في سهلها الفسيح، ترى تدرجا ساحرا
لمشتقات الأخضر على مدار الفصول، ومع بدء الربيع يزهر نوار اللوز بالأبيض والزهري،
فيضفي بهجة على المكان، وتتفجر الأرض جمالا عبقريا مذهلا، ظل مختبئاً من برد
الشتاء، وينتظر دفء الشمس ليخرج من مكمنه، مع قطعان من الغزلان وأسراب من الحبارى
والحجل، أزهار السوسن والأقحوان وشقائق النعمان تنثر ألوانها بعبث وخيلاء، يفوح من
الأرض عبق التراب وقد بلله الندى، فتعطر الجوَّ بروائحُ البابونج والميرمية والزعتر،
ونسمات محملة بشذى الصنوبر والريحان، في الصباح تشتمّ روائح الطابون والخبز، وترى
الأهالي في طريقهم ليشذبوا أطراف الزيتون، ويخلعوا العشب النامي تحت الشجر، وفي
المساء عطر الياسمين المتناثر على مداخل البيوت، وفي العصارى يجلس الرجال في
الساحة والنسوة على مداخل البيوت والجميع يراقبون الذاهب والآتي ويغتابون بعضهم
ويحكون الحكايات، بعض الصبايا يحملن على رؤوسهن جرار الماء من عين البلد، وأطفال
يتراكضون، وشباب يلعبون الورق في مقهى القرية الوحيد.
بعض
الأشخاص تركوا بصمة في ذاكرة بورين الشعبية، وقصصا يحكيها الناس في أمسياتهم، من
بين هؤلاء "بسـيمة": عجوز تجاوزت الثمانين، ترك الزمان على وجهها تجاعيد
وخطوط لو تأملتها لأدركت كم كانت جميلة في صباها، وقد وُلدت بسـيمة صمّاء بكماء؛
فلم تسمع طوال حياتها كلمة واحدة تؤسس من خلالها ذاكرة في عقلها الباطن، ولم تنبس
ببنت شفة ليتذكرها الناس من بعدها، ومع هذا فقد كانت تعي وتدرك كل شيء، وتعرف
أخبار البلد وأحوال الناس قبل غيرها.
لم
تتزوج بسيمة. عاشت وحيدة، يحيطها الصمت من كل مكان. وعندما وافتها المنية – رحمها
الله – اكتشف الجيران موتها بعد ثلاثة أيام! كانت فلسطينيةً كما هي الأرض، ومعطاءة
كما النبع، وإشكالية كما هي حالتنا المعقدة! بسيطة كرغيف الخبز، ومعجزة كنهار مشمس
ينذر بمذبحة، كانت تحقن الإبر للمرضى، وتحيك الملابس، وتربي الحمام، وتجوب شوارع
القرية بلا كلل، عندما كانت تأوي للفراش آخر الليل تظن أن الجميع يتربص بها،
وينتظر نومها لينال من حمامها ودجاجاتها، وربما كان هذا سبب رفضها المجيء إلى رام
الله والإقامة معنا رغم دعواتنا المتكررة لها.
كانت
تحرس الأرض من الطامعين واللصوص، وتتعامل مع موسم الزيتون كموسم أعياد ووفق طقوسها
الخاصة، فطوال الموسم لا تستحم ولا تصلّي، تخرج مع أول خيوط الشمس ولا تعود إلا
بعد المغيب، نشاط مثير للدهشة، كان ما يحيرني هو كيف تعلم ببدء المواسم، وانتهائها
ومواقيتها بهذه الدقة المتناهية، فعندما ينتهي الموسم كانت تستحم وترتدي أزهى ملابسها
ويشعّ من عينيها بريق الفرح.
طوال
أيام الصيف كانت تخرج بعد الفجر مباشرة وتتجه صوب الجبل، نحو كرم التين بمسافة
تتجاوز الثلاثة أميال، تحت مستوطنة "إيتسهار" بقليل، حيث لا يجرؤ أحد
للوصول إلى هناك، فتملأ سلالها رغم أنف الجنود، وتقفل راجعة، وطالما تساءلتُ: أين
تذهب بكل هذا التين؟! وطالما تصدَّتْ لقطعان المستوطنين، وحمت بستانها من
الطامعين، وكأنما كانت تستحضر جداتها الكنعانيات، وتحرث معهن الأرض.
لروحها
السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق