أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 10، 2017

بوح واعترافات شخصية


لطالما اعتبرتُ شقيقي "محمد" (يكبرني بعامين وشهرين)، ملهمي الأول: كان ذكيا وطموحا، وكنت أقلده دوما؛ ينشغل بجمع الطوابع، فأوهم نفسي أن هوايتي أيضا هي جمع الطوابع، ينشغل بالقراءة، فأقرأ ما يقرأ، يشترك في مسابقات المطالعة التي تنظمها وزارة التربية، فأسير على خطاه.. وكان هذا مدخلي لعالم القراءة والكتب منذ وقت مبكر..

كانت مجلات الرسوم المصورة أول ما قرأت (سوبرمان، والرجل الوطواط..)، ثم انتقلت إلى قصص المغامرين الخمسة، ثم إلى عالم الشياطين ال13، فقصص أرسين لوبين، وصولا إلى الكتب الدينية والسير الذاتية للمشاهير..
في سنوات السبعينات وقعت أربعة أحداث هامة، ستغير من شخصيتي: انتفاضة فلسطينية صغيرة 1976، زيارة السادات للقدس 1977، الحرب الأهلية اللبنانية 1975~1990، واجتياح الليطاني 1978.. صور الانتفاضة ستهزني هزا، وستلقي في قلبي الرعب، لدرجة أني سأصاب بمغص واضطراب في خفقان القلب كلما اقتربت الساعة من الثامنة مساء؛ موعد نشرة الأخبار، التي ستبث صورا مروعة للجيش الإسرائيلي وهو ينكل بالفلسطينيين.. تلك المشاهد كانت تتسلل إلى عقلي ليلا على شكل كوابيس.. أما صور معارك الفدائئين في الجنوب اللبناني فستثير فيَّ الحميّة، فأقوم مع شقيقي "محمود" وأصدقاء آخرين بتشكيل مجموعة فدائية مصغرة (لا يحضرني الآن الاسم الذي أطلقناه عليها)، وسنبدأ بالتدريب على ألعاب الحرب، وسأشترك مع فتية آخرين بمحاولات التسلل إلى لبنان للإنضمام للفدائية (نجح إثنان منهم في الوصول فعلا، بينما أنا أخفقت).. في حين أيقظتْ فيَّ مشاهد الدمار وصور الضحايا في الحرب الأهلية مشاعر الإشمئزاز والسخط على الحروب.. أما زيارة السادات فستجعلني أنشدُّ لعالم السياسة، ومحاولة فهم ما يحدث..

في تلك الأثناء سأنشغل مع شقيقي التوأم "محمود" باهتمامات جديدة: قص أي صورة منشورة في الجرائد عن المواجهات الفلسطينية، وصور الفدائيين، ولم نكن نميز حينها بين "أبو عمار" و"جورج حبش".. والاستماع لإذاعة الثورة الفلسطينية التي كانت تبث بداية من القاهرة، ثم من بغداد، وتسجيل أغاني العاصفة على كاسيتات، كنا ندخر أثمانها من مصروفنا اليومي الذي لم يكن يتعدى بضعة قروش..

بداية الثمانينات، كانت بداية ما سيُعرف بالصحوة الإسلامية، التي تأثرت بالثورة الإيرانية والحرب الأفغانية، سأنضم لجماعة الإخوان المسلمين، وسأشارك بفعالية ونشاط كافة أنشطتها على مدى ثلاث سنوات.. ستتنازعني حينها مشاعر مضطربة، بين نزعة التدين الفطري، وتوجهات الإخوان الأيديولوجية.. بين حاجاتي كطفل في اللعب والانطلاق، وبين القيود التي كانت تفرضها عليّ الجماعة.. وبين نزوعي "الوطني"/"الفلسطيني"، وبين توجهات الإخوان التي تتجاوز الوطنية، ولا تقر بها.. بين صورة "الفدائي البطل" التي كانت بمخيلتي، وصورة "الفدائي العلماني الكافر والخائن" التي كان الإخوان يرسمونها لنا بدقة..

سأقرأ كتبا دينية كثيرة في تلك المرحلة، وسأعمل على تلخيصها، وإعادة صياغتها بطريقتي.. مدفوعا بهاجس محاولة الفهم والاقتناع، وإقناع الآخرين الذين كان مطلوبا مني تنظيمهم للجماعة.. كنت أخشى أن يطلع أحدٌ على ما كتبت، رغم قناعتي "المطلقة" بها آنذاك، لكني كنت أخجل من سذاجة الأسلوب وركاكة الكلمات، مقارنة بالكتب التي كنت أطالعها بنهم وإعجاب..

ومع انتقالي لمرحلة المراهقة والفتوة، سيتأجج الصراع النفسي والفكري في دواخلي.. كتابات "سيد قطب" تصف المجتمع بالكافر والجاهلي، بينما كنت أراه أهلي وجيراني وأصدقائي الطيبين.. أمير المنطقة يلزمنا زيارة القبور والتفكر بالموت والشهادة.. بينما كنت شغوفا بكرة القدم، وركوب الدراجات.. تعليمات الجماعة تقتضي التمرد على الأهل (وهم بنظره فسقة، أو جهلة على أقل تقدير)، بينما كنت أحبهم، وهم أساسا متدينين.. في الدروس الدينية أقنعونا بأن الأغاني حرام.. وفي تلك المرحلة كنت بدأت أتعلق بأم كلثوم، حتى إني حفظت كل أغانيها: الكلمات، ومؤلفها وملحنها.. الشيخ يأمرنا بغض البصر، ويقنعنا بأن المرأة فتنة وغواية.. أما أنا، فكنت مع أصدقائي نحرص على الوقوف يوميا على سور مدرسة البنات الثانوية، وننتظر خروجهن، وقد خضت بالفعل عدة تجارب حب أولية، بكل ما صاحب تلك الفترة من أدوات: خفقان القلب غير المفهوم، الرسائل الورقية المعطرة، كاسيتات "عبد الحليم حافظ"، الغزل البريئ والجميل..

سيستمر هذا التأزم النفسي ثلاث سنوات أخرى، ستنتهي بدخولي الجامعة.. ليبدأ تأزم من نوع جديد.. في سنوات الثمانينات كانت الأحداث الفلسطينية هي الأبرز على الساحة، وكانت مادة الحديث المفضلة لطلبة الجامعات.. هناك في جامعة بغداد، سألتقي للمرة الأولى بشبان عرب من كل الجنسيات، ومن مختلف التيارات، وفي السكن الداخلي، سنمضي سهرات طويلة في نقاشات حامية الوطيس، بين البعثيين وأنصار جبهة التحرير العربية من جهة، والفتحويين من جهة أخرى، وبين الإسلامويين والعلمانيين.. كنت حينها ذلك الشاب الصغير القادم من الأردن، ومثل أغلب من تخرج من مدارسها، أحمل بقايا أفكار إخوانية، ومتعايش مع عقدة الخوف من المخابرات.. ورغم عشرات الكتب التي كنت قد قرأتها، وحسبت نفسي مثقفا، اكتشفت أني جاهل في كثير من المواضيع المطروحة للنقاش، ومع ذلك، وبدافع حماس الشباب، كنت أقحم نفسي في النقاشات، وكثيرا ما كنت أبدأ بفكرةٍ ما وأخرج بأخرى مغايرة، دون أن أعترف لخصمي بذلك، وأحيانا كنتُ أرقب صامتا نقاشا بين تيارين، منتظرا من يقدم حججا دامغة، لأنحاز إليه، وأتبنى مقولته في المرة المقبلة.. كان هذا يراكم في عقلي خبرات ثقافية معينة، لكنه يزيد من حيرتي.. إذ لم أجد حينها من يشبع فضولي في المعرفة.. بيد أن ذلك كله سيساهم في إنضاجي، وتخلصي التدريحي من عقدتي الإخوان والمخابرات..

وهكذا وجدتُ نفسي مضطرا لقراءة المزيد من الكتب.. ربما لأجد مادة أجاري الآخرين بها في جدالاتهم، وربما بحثا عن الحقيقة.. بيد أني بقيت عاجزا عن التحول إلى ذلك المحاور المقنع، الذي يسكت الآخرين بمجرد أن يبدأ الكلام، بل إني كنت أخرج مشوشا ومهزوما من الجولات الحوارية التي سرعان ما تتحول إلى جدال بيزنطي، وصراخ، ومزاودات.. وكان هذا يدفعني للكتابة، والتعبير عن وجهة نظري على صفحة بيضاء، لا يعكر صفوها أحد، ولا يقطاعني فيها أحد.. لكن قلة المعلومات كانت تقتضي مزيدا من القراءات، ومزيدا من الكتب.. حينها كنتُ أكتب لنفسي فقط، ولا أحاول نشر شيء، مُـركّزا على الموضوع والأفكار دون أي اهتمام بالأسلوب واللغة.. وحتى الرسائل التي كنت أرسلها لأهلي وأصدقائي، كانت عادية جدا، تبدأ بتلك الديباجة التقليدية، ثم بسرد الأحداث بأسلوب إنشائي مباشر، وتنتهي ببوح مشاعر الأشواق والحنين بنفس الكلمات المعهودة..

كانت كتب "خالد الحسن"، مصدرنا الأول، ومعيننا الذي لا ينضب.. في تلك المرحلة كانت كل مطالعاتي تتمحور حول السياسة وقضايا الصراع.. في العصارى جدالات لا تنتهي في حديقة اتحاد الطلبة في الوزيرية، وفي السهرة ما تيسر من كتب، وقبل النوم مقالات "حسن البطل" في "فلسطين الثورة".. وقد بدأت أتخلى عن عادة تلخيص الكتب، تحت ضغط الوقت الذي صار بالكاد يكفي لقراءة الوفير منها، ولحاجتي للمزيد.. سيما وأن عوالم جديدة من القراءات ستتفتّح أمامي.. قصائد محمود درويش، روايات عبد الرحمن منيف، الفلسفات اليسارية والقومية والإسلامية..

في السجن، ثمة مكتبة ضخمة، ووقت طويل.. في الصباح أطالع الجرائد، بما حوته من مقالات وتقارير، وفي بقية النهار أنشغل بالكتب، كنتُ أقرأ أزيد من ست ساعات يوميا.. ثم مع تطور الأحداث صار ضروريا أن أكتب.. تقارير إخبارية، المشاركة في النشرة السياسية التي أصدرنا منها عدة أعداد، وأيضا رسائل للأصدقاء وللمجموعات التي كنت مسؤولا عنها.. تعلمتُ طريقة صنع "الكبسولة"، وطرق تهريبها خارج السجن.. لكن أسلوب كتابتي في البداية ظل كما هو.. إلى أن اطلع الصديق "يونس الرجوب" ذات يوم على رسالة كنت أهم بكتابتها.. لم تعجبه، وبدأ يصحح، ويضع ملاحظاته، إلى أن خرجنا برسالة مختلفة كليا، في الأسلوب والتعابير واللغة.. رسالة فيها رقة أكثر، وإنشاء أقل، فيها تشبيهات وصور متخيلة، وتنبض بالحركة.. ولأول مرة أستخدم تعبيرات من نوع مختلف، فيها الغزل، والتغني بالجمال، والعصافير والكواكب والفراشات... مسك "يونس" الرسالة بإعجاب، وقال: هكذا يكون الثائر العاشق..  

كان للعمل التنظيمي دورا هاما في إنضاج تجربتي الكتابية؛ في السجن كتبتُ في النشرة الثورية التي أسميناها "صمود"، والمجلة التي كنا نصدرها من حين لآخر، وقد أسميناها "سنابل".. بعد ذلك صرت أشارك في صياغة البيانات السياسية والتقارير التنظيمية، إضافة للمنشورات الإرشادية التي كنا نعدها في دورات إعداد الكادر..

عاملٌ آخر سيسهم في صقل التجربة؛ عملي الوظيفي؛ فقد كنتُ من المؤسسين الأوائل لوزارة التموين (التي ستصبح وزارة الاقتصاد)، في تلك المرحلة، كانت السلطة تبني لبنات المؤسسات تقريبا من الصفر، بدأت أشارك في صياغة مسودات القوانين، والأنظمة، واللوائح التنظيمية، وخطط العمل، والنشرات الإرشادية للمواطنين، والمذكرات التفسيرية في المواضيع المختلفة.. إلى تنبه أحد الوزراء بعد سنوات، إلى أسلوبي في صياغة الكتب والمذكرات، فصار يعتمد علي في أغلب المواضيع التي تحتاج شروحات وكتابة.. بما فيها خطاباته في المناسبات الرسمية..

الكتابة بدافع خارجي تظل مقيدة، وتقليدية، حتى لو كانت سليمة من حيث المبنى واللغة، أما الكتابة الإبداعية فتحتاج دافعا داخليا، تحتاج أرق وقلق وخوف، تحتاج إلى ذلك الشغف الذي يبقيك مشغولا بفكرة ما، أو مشهد معين، لدرجة الإلحاح، قد لا تجد التعبيرات المناسبة في تلك اللحظة، أو تعجز عن الإمساك ببداية مميزة، ما عليك سوى الانتظار، ستأتيك وأنت في مقعدك في "الباص"، تنظر من الشباك إلى الأشجار وهي تركض مسرعة للوراء، أو تنسل إلى منامك، وتيقظك من عز نومك.. وتقول لك ها أنذا حاضرة... لكنها تشترط أن يكون بداخلك جمالا يمكنك من خلاله تحويل ما تراه إلى منتج أدبي. الكتابة الإبداعية ليست مجرد موهبة، أو إلهام؛ إنها المحطة الأخيرة لرحلة طويلة ومضنية من التأمل والتفكر، والتفاعل الحي مع المحيط.. هي محاولات الإجابة على الأسئلة المحيرة، هي إشباع الفضول، والقدرة على الإندهاش أمام أبسط الأشياء.. تبدأ بالكلمات المرتجفة والمرتبكة، وتنمو مع الصراعات الداخلية، وتنضج بالتجارب، ولا يمكنك أن تصبح كاتبا قبل أن تكون قارئا.. 

في سنوات الطفولة، عملت في بيع الجرائد، كنت أجول الشوارع صباحا، حتى أبيع ما بين 30~50 نسخة، أثناء ذلك أقرأ أبرز العناوين، وتدريجيا صرت أقرأ بعض المقالات.. كنت أظن أن كتّاب المقالات رجالا خارقون، وأن مهتهم صعبة، لكنها قابلة للتنفيذ، وصار حلمي من وقتها أن يكون لي عامودا صحافيا خاصا بي، ينتظره القراء بشغف.. أما كتّاب الروايات ومؤلفو الكتب فكنت أحسبهم عباقرة، وأنه ليس بوسعي دخول هذا العالم..

أول مادة نشرتها، كانت في مجلة سورية للأطفال، اسمها "أسامة" كنت في الثاني الابتدائي، وشجعني على ذلك شقيقي "زياد"، يكبرني بسبع سنوات، وطالما صحّح لي، ودقق كتبي، وأعطاني إرشادات مهمة.. قبل أن أمتلك حاسوبا، وقبل وصول اختراع الإنترنت، بدأت أكتب بعض المقالات، بخط اليد، وبالكاد أُطلع بعض أصدقائي عليها، كنت أقلد كتّاب الرأي في الصحافتين الأردنية واللبنانية، مع محاولات خجولة لشق أسلوب خاص بي.. بعد عودتي للوطن، تدافعت الأحداث، وتشابكت المشاهد على نحو معقد، صارت تستفزني أكثر، وصار لزاما أن أسكتها بالكتابة، بدأت أكتب مقالات في مواضيع الساعة، وقد صار عندي حاسوبا، فصرت أطبعها، وأوزع بضعا منها على أصدقائي، وعلى بعض المسؤولين والمهتمين.. أو أرسلها عبر الإيميل.. وطالما حلمت بنشرها في أية جريدة أو موقع إلكتروني.. راسلت كل الصحف المحلية دون طائل، طلبت مساعدة أصدقاء ومتنفذين للتوسط لي عند رؤساء التحرير.. كانت أول جريدة مطبوعة أنشر فيها بصورة منتظمة هي "صوت النساء"، وهي جريدة شهرية كتبتُ فيها لأكثر من عشر سنوات دون توقف.. خلالها، نشرتُ بصورة متقطعة في صحيفة القدس، ثم في الصفحة الثقافية للحياة الجديدة، ثم بصورة منتظمة في جريدة الحدث لمدة عام.. إلى أن اتصل بي الصديق "أكرم مسلم"، وطلب مني إرسال خمس مقالات لعرضها على "أكرم هنية"، رئيس تحرير الأيام، ليرى إذا كان بوسعه ضمي لأسرة كتّاب الأيام.. وما حصل بعد ذلك أنه نشرها كلها، مباشرة في صفحة "المقالات"، ثم خصّص يومين في الأسبوع لعامودي، الذي صرت أكتب فيه ما يحلو لي.. وقد قيل لي أن هذه سابقة، لم يفعلها رئيس التحرير من قبل..

كنت قد بدأت أنشر في المنتديات مع أول ظهورها على مواقع الإنترنت، ثم صار لي مدونتي الخاصة التي أستخدمها كأرشيف إحتياطي.. ومثلما كانت أمنيتي أن أكتب في "الأيام"، كان طموحي أن أنشر في "الحوار المتمدن"، قبل أن يصبح متاحا لمن أراد، وكانت فرحتي غامرة بأول مقال أنشره هناك، واختياري في زاوية المقالات المختارة.. وزيادة أعداد زوار صفحتي، الذين تجاوزوا المليونين..

في نهاية التسعينات، عكفتُ على مدى أشهر متواصلة على تأليف كتاب، في موضوع طالما شغل فكري، وأرهقني بالأسئلة، محاولة فهم المجتمع العربي، وطبيعة العقلية العربية.. أسميته بداية "نقد العقل العربي"، ثم تواضعتُ قليلا حين أدركت صعوبة ذلك، فصار عنوانه: "محاولة في نقد المجتمع العربي"، كتبتُ مئات الصفحات، مستعينا بعشرات المراجع.. أكوام من الورق بخط اليد، صار همّي طباعتها، وعلى مدى أسابيع من الطباعة، كنت أكتشف بعض الأخطاء، فأعدلها، ولما أنتهيت، راسلت بعض دور النشر دون استجابة، حزنت، فقد كنت أحسب أن هذا الكتاب سيغير من المشهد العربي، سينتقل بوعي المجتمع إلى مرحلة متقدمة، وأن واجبي الوطني يقتضي مني العمل على نشره وتوزيعه.. ومع الوقت أدركت أنه مجرد كتاب من بين مئات الكتب التي بالتأكيد أفضل وأقوى منه.. ركنته جانبا، وصرت بين الحين والآخر أعيد قراءته، أعدل بعض التعبيرات، أزيد جملة هنا، وأحذف جملة من هناك.. ألغي فصلا كاملا، وأضيف فصلا جديدا، أعيد تبويب الفصول كلها.. وفي كل مرة أكتشف أن شيئاً ما ينقصه.. مضى حوالي عشرين عاما على إعداد هذا الكتاب، وما زلت للآن أعيد قراءته، وأعدل فيه، وأنتظر اكتمال الفكرة، ونضوجها، باختصار: ما زلت خائفا من عرضه على الملأ.. ما زلت غير واثق من صحة ودقة ما فيه.. هو من الناحية التقنية جاهز للطباعة والنشر، لكن مطالعاتي المستمرة، وتبدل آرائي الدائم ما زالت تحول دون أخذ هذه الخطوة المتهورة..

ومثل هذا الكتاب، بحوزتي خمسة كتب أخرى، تبحث في مواضيع نشأة الكون والوجود والحياة والطبيعة، وعن فكر وممارسة قوى الإسلام السياسي، وفي مجالات أخرى تؤرقني.. هي أيضا تقنيا جاهزة للنشر والتوزيع، لكني متردد، وأنتظر الوقت المناسب، فما زلت أراجعها باستمرار، وفي كل مرة أكتشف نواقص معينة، وأنها بحاجة لمزيد من الإنضاج والتروي.. وحده كتاب "فلسطين في الأسر" من نجا من قائمة الانتظار الطويل.. إذ أني كتبت مقدمة الكتاب، ومادته الأساسية قبل ثلاثة وعشرين عاما من نشره، حينها طبعته لي خلود على الآلة الكاتبة، ونحن في فترة الخطوبة، وبعدها عدلت عليه مرات ومرات، إلى أن رضيت عنه نسبيا.. لكني تجرأت على إصدار تسعة كتب أخرى، خمسة منها تأليفي منفردا، وأربعة بالاشتراك مع باحثين آخرين.. بيد أني بعد كتابي الأول، الذي كان مليئا بالأخطاء اللغوية والنحوية، صرت أعرض مخطوطة الكتاب قبل نشرها على عدد من النقاد والمدققين والأدباء، فآخذ بنصائحم، وتوجياهتهم وانتقاداتهم..

تأليف الكتاب تجربة مدهشة، تشبه ولادة طفل.. قد يستغرق الكتاب الواحد سنين طويلة من البحث والكتابة والحذف والإضافة، وبعد أن يكتمل يظل على قائمة الانتظار، مع حلم شبه دائم بطباعته، أتخيله بخوف بين يدي قارئ معارض يشتمني، أو بفرح وحبور مع قارئ معجب به.. في كل مرة أصدرت فيها كتابا، شعرت بنفس الفرح، وبنفس القلق.. مع رغبة جامحة بأن أهديه لكل شخص أعرفه، أو لا أعرفه.. لكني لا أفعل ذلك، تطبيقا لنصيحة مفادها أن من يحصل على الكتاب هدية لا يقرأه..

أحتفظ بأرشيف ورقي لكل ما نشرته في الصحافة المطبوعة (يتجاوز ال600 مقال)، وأرشيف إلكتروني لكل ما كتبت.. أراجعه من حين لآخر، فأجد ما كتبته قبل سنوات بعيدة ساذجا، وأحيانا سطحيا؛ عبارات مطروقة، أحكام نهائية، جمل إنشائية، شعارات، وتكرار لاستخدام المضاف والمضاف إليه.. أشعر بسعادة خفية أمام هذه الاكتشافات، خاصة مع رصد التطور والتغيير في الأسلوب، مع تناقص تدريجي لتلك الأخطاء مقارنة بالكتابات الأحدث.. ما ساعدني في هذا انتقادات "خلود" الدائمة لي، ونصائح أصدقاء أعزاء.. "نجاة عبد الصمد"، التي تقرأ مخطوطاتي سطرا سطرا بعين الناقد، "زياد خداش" الذي علمني كيف أقتل أحبائي، أي كيف أتخلص من الجمل الجميلة، التي لا تأتي في موضعها.. "فارس سباعنة" الذي ساعدني بالتخلص من العبارات الدرويشية، "عماد الأصفر" الذي علمني كيف أبث الحياة والحركة في مقالاتي..

حين نشرت أول دراسة بحثية، وكانت في مجلة "فلسطينيات"، التي توقفت منذ سنوات، شعرت بسعادة غامرة، سعادة ودهشة البدايات.. أخبرني "سميح شبيب" أن العدد صدر، ولي مكافأة مالية (350$).. وللمرة الأولى أتقاضى أجرا على كتابتي، سيشجعني ذلك على النشر في مجلات أخرى.. كان "أحمد عزم" رئيس تحرير مجلة آفاق المستقبل الإماراتية، طلب مني إجراء مقابلة مع رئيس الوزراء سلام فياض، بعدها، صرت أكتب بصورة منتظمة، وفي كل مرة يعيد لي صديقي أحمد رئيس التحرير موضوعي مع تعليقات وتصويبات تشرح لي الفرق بين المقال والدراسة، بين الجريدة والمجلة، كيف أكون موضوعيا، بعاطفة أقل وعقلانية أكثر، كيف لا أنحاز لطرف، وكيف أتحكم بمشاعري فأكتب دون تصنيفات ولا أحكام، ولا اتهامات دون دليل.. بعدها نشرت في مجلات عربية وفلسطينية أخرى، حتى تجازوت الستون دراسة بحثية في مجالات مختلفة..    

أمتع الأوقات التي يمكن أن يعيشها المرء أثناء قراءته رواية، يسافر معها، ويعيش تفاصيلها ويسكن مدنها، ويتحاور مع شخوصها.. كانت "روبسون كروزو"، و"حي بن يقظان" أول روايتين أقرأهما، حين كنت تلميذا في الإبتدائي، سأقرأ بعدهما عشرات الروايات.. في روايات كثيرة، كنت أضيف من عندي أحداثا كان يجب أن تحصل، وأقترح أبطالا إضافيين، أو نهاية مختلفة.. خاصة عندما ألمس نقصا غامضا في بناء الرواية.. وطالما تمنيت أن أكتب روايتي.. أن أفرغ حمولتي العاطفية والوجدانية على صفحات كتاب.. لكني ما زلت أعتقد أن كتابة الرواية، مثل الشعر، تحتاج موهبة، وملكات خاصة لا أملكها، وتحتاج صبر وجَلد لا أقوى عليهما.. فالرواية ليست سردا ملحميا لأحداث متتابعة، والشعر ليس جملا مصفوفة تحت بعضها، ولا عبارات جميلة تنتهي بقافية.. لذلك، لا أظن أني سأطرق هذين البابين يوما ما..   

الحب، هو المحرض الأول للكتابة.. هذا رأيي، وهذا ما حدث معي.. الحب، ينبوع من المشاعر المجنونة تغمر القلب، ثم تفيض خارجا، وبالتالي، لا بد من سكبها على الورق.. كانت "خلود"، ومنذ بدايات قصتنا، ملهمتي ومحرضتي على الكتابة.. في كل مناسبة خاصة أو عامة، أكتب لها، أنقل مشاعري حرفيا، أبث أشواقي، أصور نيران الحنين المضطرمة في صدري حين تغيب، وجنان العشق حين تجيء.. أكتب لها ما يليق بحبنا الكبير.. وجدت ضالتي بالنثر.. فأعددت كتابا خاصا سيحمل عنوان "حين يخضرّ الكلام".. وسأنتظر الوقت المناسب لنشره..

وعلى مدى عقودي الخمسة التي مرت، خضت تجارب عديدة ومتنوعة، سُجنت، وسافرت، وخالطت أناسا كثيرين، رأيت الكثير من شواهد الظلم، والمعاناة.. لشعبنا، ولكل بني البشر، في شتى بقاع المعمورة.. كانت تلك المشاهد تولد فيَّ مشاعر السخط والإحساس بالعجز.. فرغبت أن أكتبها، أن أدون شهادتي عنها، وعن ليالينا الحزينة، عن قلقنا المشروع، عن سنواتنا العجاف، عن الخوف الساكن فينا، والصرخات التي تدوي في أعماقنا وندفنها في تجاويف الصدر قبل أن يسمعها أحد، عن شهقات الحب المحرم، وارتعاشات القلوب المقموعة، عن الناس المهمشين، والمنسيين، الذين يزورهم إلا الريح الزمهرير.. الذين لا يحفل بهم أحد، ولا ينهض لهم أحد في الحافلات المزدحمة.. الذين يقفون طويلا في طوابير المستشفيات والدوائر الحكومية، لأنهم فقراء.. والذين يموتون في الحروب والزلازل ويدفنون في قبور جماعية.. للأسرى القابعين في زنازين العتمة، للأطفال الذين شربوا الخوف وأكلوا القهر في صراعاتنا الغبية، للنساء اللواتي قُتلن ظلما، وعشن ظلما.. للمسنّين الذين يمضون الليالي الطويلة وهم ينتظرون أحدا يطرق عليهم باب الوحدة، أو حتى رنة هاتف.. لكل هؤلاء كتبت ثلاث مجموعات قصص قصيرة، فقط لكي أقول لهم: ما أجملكم..

اخترت القصة القصيرة، لأني رغبت أن أقول على لسان شخوصها ما أرغب قوله للناس أجمعين، لأن القصة القصيرة مكّنتني أن أغوص في عالمي الجواني، لأخرج ما فيه، لأن المقالة، والدراسة البحثية لا تحتملان في كثير من الأحيان كل ما يعتمل في دواخلي.. 

بالرغم من كل ما سبق، ما زلت غير واثق أني صرت كاتبا.. في اللقاءات التلفزيونية والإذاعية يسألني المذيع، بم نعرف عليك؟ الكاتب، الباحث، الأديب، القاص، المحلل السياسي... وبكل صدق، أخجل، وأرفض كل هذه التصنيفات.. وأمام الإلحاح أوافق على مضض على تسمية كاتب، أو باحث.. في حفلات توقيع الكتب التي أصدرتها، كنت أتوقع خروج شخص غاضب من بين الجمهور، ليقول لي: إنزل عن المنصة أيها المدعي..

أنا أكتب لأن شيئا ما يحرضني من داخلي على الكتابة.. لأني مؤمن بقدرة الكلمة على التغيير، وتجربتي في عالم الكتابة ما زالت غضة، ولا أظن أنها ستكتمل.. ما يريحني أنني لم أكتب يوما شيئا يخالف قناعاتي.. وما يقلقني أنَّ في جوفي الكثير لم أكتبه بعد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق