مثّلت الانتفاضة الشعبية الأولى، وبجدارة، واحدة من بين أهم وأنبل
الظواهر والحركات النضالية في تاريخ الكفاح الفلسطيني.. اليوم، وفي الذكرى الثلاثين
لانطلاقتها، بوسعنا إعادة قراءتها مرة ثانية، لأهميتها أولا، ولأخذ العبر واستخلاص
الدروس ثانيا، من خلال فهم وتحليل أبرز السلبيات والأخطاء التي مورست خلالها..
سيما وأن بعض هذه الأخطاء تكررت في انتفاضة الأقصى، ما يدل على أننا لم ندرس
التجربة بالشكل الأمثل، أو على الأقل، لم نقم بنقدها، والاستفادة منها، لأن الخطاب
الإعلامي عموما، بدلا من ذلك، ظل مقتصرا على الثناء والتغنى ببطولات الانتفاضة دون
التطرق لجوانبها الأخرى.
يمكن القول أن الانتفاضة في سنتيها الأولى الثانية كانت
تقريبا بلا أخطاء، أو كانت أخطاؤها بسيطة ومبررة، بل إنها كانت تجري وفق نسق
تنظيمي جيد، وأداء شعبي فاق التوقعات، وضمن إيقاع وطني متصاعد ومتراكم، كان من
المفترض أن تعطي نتائج أفضل.. إلا أنه بدأت مع الوقت تظهر بعض السلبيات والأخطاء
الفردية والجماعية..
بعض الممارسات في بدايات الانتفاضة كانت مقبولة
ومفهومة، بل وأحيانا مطلوبة، لكنها ستصبح بعد ذلك أخطاء غير مبررة، خاصة مع
تكرارها.. أكثر هذه الأخطاء كانت بسبب اعتقال القيادات الأولى للانتفاضة، التي
كانت تتمتع بالخبرة والحكمة، وبروز قيادات ميدانية جديدة أصغر سنا، وأقل حكمة وخبرة.
ورغم وضوح بعض الأخطاء، إلا أن الخطاب الإعلامي كان
يتجاهلها، لأسباب أيديولوجية وسياسية وتعبوية، وخشية من التعرض للانتقاد، وكان من
أوائل من تحدث عنها بشجاعة وصراحة ومسوؤلية المرحوم فيصل الحسيني، الذي دعا لإعادة
النظر في الكثير من أساليب الانتفاضة.. أبرز تلك الأخطاء، وباختصار شديد:
تعدد القيادات والبرامج:
تشكلت القيادة الوطنية الموحدة منذ بداية الانتفاضة، إلا أنه بعد أشهر قليلة برزت
قيادة ثانية لها، وهي حركة حماس، والتي أخذت تنافس القيادة الموحدة، وتطرح برامج
نضالية مختلفة، ومتعارضة، ولم يقتصر الأمر على الخلاف على الفعاليات، بل أن خطورة
هذه الإزدواجية كانت في المجال السياسي، ومحاولاتها إضعاف تمثيل منظمة التحرير
للشعب الفلسطيني، وأثر ذلك السلبي على الوحدة الوطنية ووحدة موقف الانتفاضة.
الإضرابات:
كانت في الإضرابات في بدايات الانتفاضة مطلوبة لإظهار وحدة الموقف الشعبي وتناغمه
مع موقف القيادة.. بالإضافة لتأثيراتها السلبية (رغم محدوديتها) على الاقتصاد
الإسرائيلي.. ولكن مع كثرتها، ومع الوقت صارت عبئا على الانتفاضة، وإرهاقا لها،
وصارت تستنزف الاقتصاد الفلسطيني، وتلحق الضرر بالحركة التجارية، وتعطل مصالح
الناس.. وكان لا بد من تقنينها، وترشيدها، ومراجعتها، إلا أن هذا لم يحدث، ذلك لأن
التنافس التنظيمي الحزبي كان هو الطاغي، حيث صار الهدف منها محاولة كل تنظيم إظهار
مدى تأثيره على الشارع..
الفوضى الأمنية:
بدءا من السنة الثالثة للانتفاضة، سيبدأ نوع من الفوضى الأمنية والاجتماعية
بالظهور، وستبدأ ظاهرة أخذ القانون باليد، وستطغي النزعات العشائرية والمناطقية
على الروح الوطنية الجامعة، وستنعكس سلبا على فعاليات الانتفاضة، وفي بعض المناطق
ستتجدد الثارات القديمة بين العائلات، ليتخذ البعض "الانتفاضة" غطاء على
نزعاته الانتقامية.. ومع انتشار ظاهرة الملثمين والمطاردين، وغياب أي سلطة قضائية
رسمية، تكررت في بعض المناطق ظواهر العنف، وأحيانا الجرائم ذات الصبغة السياسية،
والتي كانت في جوهرها تناقضات اجتماعية/قبلية/حزبية تمارَس من خلفها أفظع أنواع التعذيب
والقتل التي تخفي من ورائها كما هائلا من الاحتقان والحقد، والجهل أيضا.
التركيز على مكافحة الجواسيس:
أيضا في تلك المرحلة أخذت توجهات بعض القوى الضاربة بالتحول إلى الداخل، بعد أن
كانت مركزة فقط على الخارج؛ أي على مواجهة الاحتلال، ونتيجة للخطاب الإعلامي
الدعائي، توهم البعض أنه يجب على الانتفاضة أن تنتزع نصرا تاريخيا واضحا، هذا
الخطاب التحريضي كان يؤثر سلبا على الشباب الذين يريدون تحقيق مكاسب وطنية سريعة،
ويستعجلون في قطف الثمار، وهؤلاء حين عجزوا عن ذلك، وأدركوا أنهم أمام عدو أقوى،
عدو لا يرحم، ولا يتوانى عن استخدام أقصى درجات البطش.. انكفأ البعض لدواخلهم،
بينما حاول آخرون تعويض هذا الخلل من خلال التوجه إلى عدو أسهل وأضعف، عدو يمكن
هزيمته بضربة، فأقنعوا أنفسهم أن تصفية عملاء الاحتلال أهم وأولى من ضرب الاحتلال
نفسه.. ورغم أهمية كشف الجواسيس ومعاقبتهم، إلا أن هذه المسألة أخذت أبعادا أكثر
من شكلها الظاهر.. حيث تحولت إلى وسيلة لإظهار بطولات فردية، وفرض نفوذ على مناطق
معينة، أو لتصفية حسابات شخصية.. والأخطر من كل ذلك أن ممارستها صارت تعسفية، وبلا
ضوابط، وقد قُتل العشرات من الأبرياء، وهذه الظاهرة كانت من بين أسباب انتهاء
الانتفاضة، والإساءة إليها..
إهمال
التعليم: من الممارسات السلبية إضراب المدارس والجامعات، حيث كان بوسع أي
ملثم أن يغلق أية مدرسة ويطلب من طلبتها النزول للشارع، وإذا أضفنا أيام الإضرابات
لأيام الإغلاق المتعمد من قبل الاحتلال، سنكون أمام أيام قليلة جدا من السنة
الدراسية، لا تكفي لإتمام المنهج، ولا تؤسس لجيل متعلم، فضلا عن ظاهرة الغش التي
كانت تتم بدعم من الملثمين، كما أن روح التمرد لدى الشباب انعكست سلبا على علاقتهم
بالمعلمين، فصار البعض يقلل من احترامهم لهم، كل هذا أدى إلى ضعف وتراجع التعليم،
خاصة لجيل الانتفاضة.
توقف الحياة الطبيعية:
لأسباب عاطفية، ولاعتقادها أن ذلك يعني تصعيد المقاومة الشعبية، ولعجزها عن
المزاوجة بين النضال والحياة المدنية العادية؛ منعت القيادات الميدانية الناس من
إقامة أي مظهر للإحتفال والفرح (وهي أهم الحاجات الإنسانية): منعت الأعراس، حفلات
التخرج، أعياد الميلاد الشخصية، حتى الأعياد الدينية.. وهذا أدى إلى استشراء الكبت
والضغط الاجتماعي والاحتقان، وتوقف دبيب الحياة الطبعية الإنسانية.. الأمر الذي
جعل النضال منعزلا ومنفصلا عن الحياة، بل وأمرا مرهقا.. وهذا كان من بين أسباب استشراء
التطرف فيما بعد..
كما أدت الانتفاضة لتراجع بعض مظاهر الحياة المدنية
(العصرية)، خاصة فيما يتعلق بالنساء، حيث أخذ المجتمع يتشدد أكثر في مفاهيمه
الاجتماعية، وتخلى عن روح الانفتاح التي كانت سائدة، ليبدو أكثر تحفظا وتزمتا،
وهذا ما استغلته القيادات التقليدية (خاصة الدينية) في فرض الأنماط الاجتماعية المتسقة
مع أيديولوجيتها المغلقة.
موضوع الدعم المالي خرج في بعض الأحيان عن دوره
الإيجابي، ليتحول لأداة فساد، ووسيلة إثراء من قبل البعض، خاصة مع غياب الرقابة والمحاسَبة..
وهذا مرتبط بأخطاء وقعت فيها قيادات الخارج.. تحتاج لمقالة منفصلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق