مع تصاعد مكانة ودور تركيا في الإقليم، وتزامن ذلك مع
ظهور عدد من المسلسلات التركية (التاريخية) التي تذكّر بأمجاد العثمانيين يحتدم
الخلاف من جديد حول توصيف الدولة العثمانية؛ هل كانت خلافة إسلامية، أم هي مجرد إمبراطورية
كولونيالية، أم كانت نوعا آخر من الاستعمار؟
البعض يراها شكلا من الاحتلال والاستعمار، وهؤلاء يستندون
في رأيهم إلى نتاج أربعة قرون حكمت فيها تركيا معظم البلدان العربية؛ فحين غادرتها
مهزومة خلّفت وراءها بلدانا غارقة في الأمية والتخلف والفقر، وكأنَّ الزمن مرّ من
جانبها، فطوال تلك الحقبة لم تؤسس الدولة نظاما تعليميا، ولا صحيا، ولم تبنِ جامعة
واحدة، أو مستشفى، ولم تشهد البلاد في عهدها تطورا علميا، أو فنيا، أو أدبيا، أو
معماريا.. وكل ما خلفته بضع قلاع وجسور وسكة حديد (نفذتها شركة ألمانية)، وقد كان
كل تركيزها منصبا على الجهد الحربي والتوسع وجباية الضرائب..
وآخرون يرونها "خلافة إسلامية"، كان على رأسها
خليفة مسلم، وبالتالي كان ينبغي الحفاظ عليها، وطاعة واحترام الخليفة.. وهؤلاء
يستندون في رأيهم إلى كونها كانت تطبق حدود الإسلام وتشريعاته، وتحمي وحدة أراضي
المسلمين، وتدافع عن المسلمين في كل مكان أمكنها ذلك.. وأنها بعد أن انهارت تمزقت
الأمة الإسلامية إلى أزيد من خمسين دولة، وصار المسلمون من بعدها في الدرك الأسفل
مقارنة ببقية شعوب الأرض.
لا يهدف هذا المقال إلى حسم هذا الخلاف (ولا أدعي قدرتي
على ذلك)، إنما هي محاولة لسرد بعض الوقائع التاريخية والشهادات العينية، والتفكير
بلغة العقل والمنطق..
دخلت الجيوش العثمانية المنطقة العربية سنة 1516، وخرجت
منها سنة 1916، وسيطرت خلال هذه الحقبة على مساحات شاسعة من الوطن العربي.. الآن، لنرى
هل حافظت الدولة العثمانية على وحدة الأراضي العربية والإسلامية، وهل حقا حمت
المسلمين؟
في العام 1798 اجتاحت
جيوش نابليون مصر والشام، واحتلت مصر لثلاث سنوات.
وفي نفس العام فرضت بريطانيا معاهدة على مسقط، وضعت
سلطنة عُمان تحت النفوذ البريطاني.
وفي العام 1807 اجتاحت جيوش بريطانيا مصر (حملة فريزر)
والتي انتهت بالمقاومة الشعبية.
وفي العام 1820 وقّع شيوخ البحرين وقطر وأبو ظبي ودبي
والشارقة معاهدات خضوع وضعت بلادهم تحت النفوذ البريطاني.
في العام 1830 احتلت فرنسا الجزائر، واستعمرتها مدة 132
سنة، حتى اندحرت وخرجت منها بالثورة الشعبية المسلحة عام 1962.
وفي العام 1839 احتلت بريطانيا عدن ثم بقية اليمن، وبقيت
فيها حتى العام 1967.
في العام 1881 احتلت
فرنسا تونس، وظلت فيها حتى العام 1956.
ومرة ثانية تجتاح الجيوش البريطانية مصر في العام 1882،
لتظل فيها حتى العام 1923. وتحتل السودان عام 1898 وتبقى فيها حتى العام 1956.
وفي العام 1844 القوات الفرنسية تهزم المغرب في معركة
إيسلي، وتحتلها حتى العام 1956. وكانت إسبانيا قد احتلت الصحراء المغربية عام
1876، وظلت فيها حتى العام 1975.
وفي العام 1899 وقعت الكويت معاهدة خضوع للحماية
البريطانية. وفي العام 1905 احتلت فرنسا موريتانيا، وبقيت فيها حتى العام 1960.
كل هذه الاحتلالات حدثت في عهد الدولة العثمانية.. أي أنَّ
الدولة العثمانية في آخر قرن من عهدها ضيعت كل من موريتانيا والمغرب والجزائر
وتونس ومصر والسودان واليمن ودول الخليج العربي..
مع التذكير بأنّ عددا كبيرا من البلاد الإسلامية لم تخضع
أصلا للحكم العثماني..
ماذا بشأن فلسطين؟
في مقالين سابقين، كنتُ قد تحدثت بشيء من التفصيل عن
مصير فلسطين في فترة حكم السلطان عبد الحميد (الذي رفض التنازل عن شبر من فلسطين)،
وهي الفترة التي ترافقت مع تأسيس وصعود الحركة الصهيونية، وفي الخلاصة:
تضاعف عدد
اليهود في فلسطين ثلاث مرات، من أربعة وعشرين ألفا العام 1882 إلى ثمانين ألفا
العام 1908، وازداد عدد المستعمرات الصهيونية من مستعمرة واحدة (بتاح تكفا) العام
1878، حتى 33 مستعمرة، إلى جانب (68) مستعمرة زراعية وتجارية في العام 1908، كما
تواصلت الاستثمارات اليهودية في فلسطين وازدادت كمّا ونوعا، وتواصلت عمليات تسريب
ملكية الأراضي لليهود، حتى تجاوزت الأربعمائة ألف دونم في نفس العام. وهذه المنجزات والأرقام كانت في
غاية الأهمية بالنسبة للمشروع الصهيوني، وقد شكلت أساسه المادي. وقد جرت على مرأى ومسمع
الخليفة..
فيما يتعلق بواقع الأمة العربية (والإسلامية) المتردي والمتخلف،
ومسؤولية الدولة العثمانية عنه؛ في حقيقة الأمر، هذا التخلف والتردي والتشتت حاصل قبل
مجيء الدولة العثمانية بزمن طويل جدا، وبالتالي ليست هي من أوجدته، ولكنه في عهدها
تكرس وتعمق، فبينما كانت أوروبا ومعها العالم الجديد تنهض من سباتها، وتجترح عصر النهضة
والثورة الصناعية والفتوحات العلمية والاكتشافات الجغرافية (تحقق ذلك بعقلية وأدوات
إمبريالية) كانت البلدان العربية غارقة في الأمية والفقر والمجاعات..
اليوم، يكون قد مضى قرابة القرن على سقوط الدولة العثمانية؛
والأمة العربية تزداد تشرذما وتخلفا وضعفا، وبالتالي يتحمل العرب أنفسهم المسؤولية
عن إخفاقهم في استثمار فرصة التحرر من القبضة العثمانية، والشروع بمرحلة الانعتاق والتقدم،
دون أن نغفل تأثير العوامل الخارجية (الاستعمار)، ولا نبالغ فيه، وتأثير العامل التاريخي
(فترة الحكم العثماني)، التي خلقت فجوة حضارية هائلة بين العرب وبقية العالم المتحضر،
وهذه الفجوة في اتساع دائم، لأننا لم نضع أرجلنا على سكة التطور بعد.. أو ما زلنا مترددين
ومنقسمين في اختيار أي قطار سنركب، وفي كيفية ركوبه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق