أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 11، 2025

المليار الذهبي


طرح عالم رياضي أسمه "مالثوس" سنة 1830 نظرية مرعبة حول الانفجار السكاني، وخلاصتها أن عدد سكان العالم يتضاعف لوغاريتميا، بزيادة أسرع من وتيرة إمدادات الغذاء للسكان، وأنَّ العالم ما لم يبادر إلى التنبّه إلى هذه المسألة، ويلجأ إلى تنظيم النسل، فإن الحروب والكوارث والمجاعات ستكون الخيار الحتمي للبشرية.

وخلال ال 500 سنة الأخيرة تضاعف عدد سكان الأرض 14 مرة، لكن إنتاجهم الكلي تضاعف 240 مرة، وتضاعف استهلاكهم للطاقة 115 ضعف.. وما يزيد من خطورة الموقف أن الرأسمالية مورست وما زالت تُمارس بأبشع الأشكال، وقد أسست نظاما طبقيا ظالما، لدرجة باتت تهدد سكان العالم بأن يصلوا لمرحلة لا تعود فيها موارد الأرض كافية لتلبية احتياجاتهم "المتزايدة".. وعوضا عن التفكير بإيجاد حلول منهجية تضمن التوزيع العادل للموارد، وجد البعض الحل بإنقاص عدد سكان الكوكب حتى تظل الموارد كافية، الأمر الذي عُبّر عنه بنظرية المليار الذهبي.

وتزعم نظرية "المليار الذهبي"، بأن هناك قوى وأشخاص (طبعا من الطبقات فاحشة الثراء) يسعون بالفعل إلى إنقاص عدد سكان العالم بصورة كبيرة، حتى يتمتعون مع البقيّة الباقية برفاهية الحياة.. وتحدد النظرية التعداد الكلي للسكان المنوي الوصول إليه بمليار نسمة فقط.

وهي نظرية لا تختلف عن نظرية "الأرض المسطحة"، و"حراس القطب الجنوبي".. وغير ذلك من هراء نظريات المؤامرات.. ليس لأن القضاء على سبعة مليارات نسمة يحتاج حربا نووية، أو برامج تستغرق مئات السنين، وهو أمر متعذر ومستحيل، ولن يستفيد منه أحد من الجيل الحالي والقادم من أصحاب الثروات الطائلة.  

ومع ذلك، وبمعزل عن نظريات المؤامرة، بدأنا نشهد بالفعل عصر تناقص السكان، ربما للمرة الأولى منذ تفشّي مرض الطاعون في القرن الرابع عشر، والذي أدَّى إلى تناقص عدد سكان العالم بنحو الربع تقريبا. لكن الأسباب هذه المرة مختلفة؛ أبرزها الخيارات التي اتّخذها البشر، مثل تقليل عدد أفراد الأسرة، والامتناع عن الزواج، وبالتالي تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة أعداد الوفيات على أعداد المواليد الجدد.

على كوكبنا ثمة مناطق ستتراجع فيها أعداد السكان بشكلٍ مخيف، في مقدّمتها القارة الأوروبية، وروسيا واليابان وكوريا، وكندا، حيث لم تفلح كافّة التسهيلات التي وفّرتْها تلك الدول لمواطنيها في الدفع نحو زيادة عدد سكانها.. وسينخفض تعداد السكان بدرجة أقل في أغلب بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (بسبب الوعي، ولأسباب اقتصادية)، بينما يزداد عدد سكان الولايات المتحدة مثلا (ربما بسبب تدفق الهجرة)، والصين بدرجة منضبطة.. لكن الزيادات غير المنضبطة من نصيب الهند وباكستان وبنغلاديش وأندونيسيا، وبعض الدول الإفريقية (أثيوبيا، نيجيريا، مصر..).

تشير دراسات الأمم المتحدة أنّ معدلات الخصوبة العالمية انخفضت منذ الانفجار السكاني في ستينات القرن العشرين. حيث بقيت على مدى جيلين بمستويات الإنجاب المتوسطة، ثم بدأت الانخفاض بشكل ملحوظ، ويفيد برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ أن سكان شرق آسيا (الصين واليابان وكوريا وتايوان) يتقلَّصون. وبما أن سكان العالم بالمجمل صاروا أكثر ثراءً وصحّةً وتعليمًا وتحضرًا، يتوقع الخبراء توالي انخفاض معدلات المواليد. وأن يستقر عدد سكان الكوكب إلى ما دون العشرة مليارات نسمة مع نهاية القرن.

لكن هذا التراجع السكاني العالمي ليس جيدا بالضرورة، خاصة للأثرياء، وتداعياته ستكون عكس نظرية المليار الذهبي، أي ضد مصلحة كبار أثرياء العالم؛ فانخفاض عدد السكان من شأنه أن يقلب الإيقاعات الاجتماعية والاقتصادية المألوفة رأسًا على عقب. فمن ناحية ستنخفض أعداد العمّال والمدخِّرين ودافعي الضرائب والمستأجرين ومشتري البيوت المستهلكين والناخبين.. وهؤلاء يشكلون السوق اللازم لأصحاب الصناعات العملاقة وفاحشي الثراء، ومن دونهم يصبح الإنتاج عالة ودون أي فائدة ويسود الكساد.. ومن ناحية ثانية حتى تزدهر أعمال "كبار الأثرياء والمنتجين" فإنهم يحتاجون رجال أعمال رياديين، وسماسرة أذكياء، ومبتكرين ومخترعين وعباقرة وعلماء ومفكرين وأصحاب نظريات وهؤلاء نسبة توفرهم ضئيلة جدا ونحتاج مليارات البشر للحصول عليهم بما يكفي لتشغيل ماكينات الإنتاج العالمي.

بالإضافة إلى ذلك، سوف يؤدّي تراجع السكان والانحدار السكاني المطوَّل إلى شيخوخة البلد الشاملة، وبالتالي إلى إعاقة النمو الاقتصادي والضغط على أنظمة الرعاية الاجتماعيّة في البلدان الغنية، ممّا يهدد إمكانية استمرار الرخاء في تلك البلدان.

الاقتصاد الحديث يوفر حلا لهذه المعضلة..

يقول نوح هراري في كتابه العاقل: لفترات طويلة من التاريخ ، وبسبب شح الموارد ولأن الاقتصاد كان بدائيا كان الصراع بين المجموعات البشرية عنيفا وبمعادلة صفرية لا تقبل الشراكة، فإذا اغتنى أحدهم فلأنه نهب الآخرين أو استغلهم، وإذا تطورت مملكة فلأنها سحقت وضمت جيرانها ونهبت مواردهم..

ويضيف: حوصرت البشرية لعصور متوالية في بوتقة الجمود الاقتصادي، وظلت الاقتصادات محدودة، والأعمال غير مزدهرة.. حتى ظهر نظام اقتصادي جديد قائم على الثقة بالمستقبل؛ هذا النظام جعل الناس تتداول سلعا متخيلة لا وجود لها في الحاضر، بنوع خاص من المال سموه "إئتمان"، أي بناء الحاضر على نفقة المستقبل، بثقة كبيرة بأن المستقبل سيوفر مزيدا من الموارد والأرباح والفرص.

مع إن نظام الإئتمان (أي الدين) كان معروفا منذ القدم، إلا أنه لم تكن لدى الناس آنذاك ثقة بالمستقبل، وكان الاقتصاد عبارة عن كعكة محدودة يجري تقاسمها بين من يملكون المال، فإذا أثرى شخص ما سيكون ذلك على حساب الآخرين، وإذا ازدهرت مدينة، مقابلها ستفقر مدينة آخرى.. ولأن الكعكة بنفس الحجم فقد كان هامش الإئتمان ضيقا جدا، وبأمد قصير لا يتجاوز السنة، لذا لم يتطور الاقتصاد. لكن النظام المصرفي الجديد سيحل هذه المعضلة، وسيحرر الاقتصاد من الجمود، فلم تعد الكعكة محدودة، وصار بالإمكان للأعمال والمشاريع المتنافسة أن تزدهر..هذا كان الحل في آخر 300 سنة تقريبا، ماذا بشأن المستقبل؟

مهما بلغ تعداد سكان العالم، بالعدالة والعلم والتعايش السلمي نستطيع الاستمرار والازدهار.. المهم أن نحيا معا بسلام، دون حروب، وأن نحترم البيئة، ونقدّر الكوكب الذي تحمّل غباءنا كثيرا..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق