يتناول مسلسل "معاوية"
(من إنتاج "MBC") أخطر
مرحلة في التاريخ الإسلامي، أو ما تُعرف بأحداث "الفتنة الكبرى"، وهي الفترة
التي بدأت بخروج الأمصار على الخليفة عثمان بن عفان وحصاره في المدينة ثم مقتله، وتولي
علي بن أبي طالب الخلافة لخمس سنوات، نشبت خلالها معارك عدة بين المسلمين أنفسهم،
مثل "الجمل" بين أنصار الإمام علي وأنصار السيدة عائشة،
و"صفين"، بين أنصار علي وأنصار معاوية، فضلا عن معارك الخوارج (أبرزها
النهروان)، والتي انتهت بمؤامرة أراد منها الخوارج اغتيال علي ومعاوية في الوقت
ذاته، لكن معاوية اكتشفها وأحبطها، في حين نجحت في قتل الإمام علي، ليتنازل نجله
الحسن عن الخلافة لمعاوية، ثم تولي يزيد بن معاوية الحكم ليقتل الإمام الحسين بن
علي في موقعة كربلاء.
هذا سرد مكثف لفترة
شديدة الاضطراب ومليئة بالغموض، الكتابة عنها مثل السير في حقل ألغام، لذا من الصعب
التسليم بكل ما ورد عن تلك المرحلة من قصص وأحداث، فكتابة التاريخ لم تكن في أي
يوم عملية أكاديمية بريئة خالية من الأغراض الأيديولوجية والبربوغاندا السياسية.
الجدل الحالي حول
المسلسل بسبب الحمولات الرمزية لشخصياته، وخاصة معاوية، والذي حارب الإمام علي بلا
هوادة، وصار رمزا للسنة، وبالتالي الحديث عنه يكتسب حساسية مفرطة، وهناك خشية أن
يغذي النزعات الطائفية، لذا ليس مستغربا أن يُمنع عرض المسلسل في العراق.
لكن الجدل
الأهم في كل الأعمال التاريخية هو حول مدى صدقيتها، ومدى تطابقها مع التاريخ
الحقيقي.. من لديه القدرة على حسم أمر بهذا القدر من الخطورة والحساسية؟ فكل عمل
فني تاريخي وراءه جهة منتجة ستضخ ملايين الدولارات، وبالتأكيد لديها أهدافها
وأجنداتها، وهناك مؤلف وكاتب سيناريو ومخرج.. وهؤلاء أيضا لديهم نزعاتهم الآدمية
وأهواءهم وميولهم وثقافتهم الخاصة. وبالتالي من الخطأ النظر لأي عمل فني من هذا
النوع على أنه مصدر تاريخي موثوق ومعتمد، أو أنه نقَل الرواية الصحيحة، بغض النظر
عن النوايا..
في تلك
الأعمال الفنية نلاحظ الإسقاطات الجاهزة والتحيزات المسبقة باستعمال أدوات معينة
مثل الأزياء، المكياج، اللهجة ونبرة الصوت.. فدوماً تظهر الشخصيات غير الإسلامية في
مظهر غير مريح ومنفر (شيطنة الخصم)، وفي المقابل تظهر الشخصيات التي يُراد تمجيدها
بثياب نظيفة ومكوية، وبنبرة صوت هادئة وواثقة، وبزاوية تصوير معينة، وباختيار حوار
معين بانتقائية.
الإشكالية
الأُخرى في التعامل مع الأعمال الفنية التاريخية تكمن في المرسل والمتلقي على حد
سواء (أي الجهة المنتجة وجمهور المتفرجين)، وهنا إما أن يتم إسباغ كل الصفات
العظيمة والمحمودة على الشخصية أو شيطنتها بصورة مروعة.. ولو أخذنا مسلسل معاوية
مثالا، سنجد الانقسام حول الشخصيات، فمعاوية إما صحابي جليل ومن كتبة الوحي، ولا
يجوز انتقاده.. أو حاكم مستبد وطاغية، وقاتل أهل البيت، ويتوجب لعنه..
وهذه مشكلة
متأصلة في قراءة التاريخ؛ نتعامل مع الشخصيات التاريخية بمنطق الثنائيات المطلقة
والحادة، فإما هو تقي وزاهد ومجاهد وفيه كل الصفات الملائكية.. أو هو منافق وفاسق وجبان،
ولعين والدين.. هنا يتم نزع السمات الآدمية والعادية عن الشخصية، وكأنه بلا أهواء
ولا أخطاء.. أو هو الشر المطلق!
لنعد مرة
ثانية إلى معاوية.. فهو على الأقل شخصية تاريخية حقيقية لا يختلف على وجودها أحد
من المؤرخين، خلافا للكثير من الشخصيات التي ظهرت على مسرح التاريخ الإنساني
الطويل، فبعضهم تم إختلاقه من العدم، وبعضهم تم إسقاط الكثير من المفاهيم عليهم،
أو تم نسب أحداث معينة إليهم، أو المبالغة في عرض سيرهم، والمبالغة في تمجيدهم
ومديحهم، أو شيطنتهم..
ولكن هذا لا
يعني أن كل ما وردنا عن معاوية صحيحا بالمعنى التاريخي، فبينما الرواية الإسلامية
الرسمية تقول أنه ولد في مكة هناك روايات أخرى (بغض النظر عن مدى صحتها ودقتها)
تقول إنه ينحدر من آسيا الوسطى، وآخرون يقولون أنه نشأ في دمشق..
لكن ما هو
مؤكد أن معاوية أول حاكم عربي موثق، له نقوش ونقود ومخطوطات، وهو من أسس لأول دولة
عربية في التاريخ تتمتع بنظام حكم متكامل ومتطور، وهي الدولة الأموية.
تشير بعض المخطوطات
والنقوش والنقود التي عُثر عليها أن معاوية كان مسيحيا نسطوريا، حيث تظهر على بعض
العملات صورة معاوية واسمه ولقبه أمير المؤمنين، كما تظهر في القصور الأموية صلبان،
وآثار معاصر خمر، وصور بالفسيفساء لنساء شبه عرايا.. وفي كتاب تاريخ دمشق لابن
عساكر يذكر أن هناك كنيسة إلى جانب انطرطوس اسمها "كنيسة معاوية".
وبحسب بعض
المؤرخين فإن كلمة "معاوية" لقب عسكري، وأصل الكلمة سريانية تعني البكّاء، وكان لقب
الحاكم الأموي "أمير المؤمنين"، أما لقب "الخليفة" فقد ظهر مع
الدولة العباسية..
تذكر بعض المصادر
أن معاوية استطاع توحيد العرب المناذرة في العراق (أغلبهم مسيحيون
نساطرة) مع العرب الغساسنة في الشام (وأغلبهم مسيحيون يعاقبة) الذين كان عندهم عدو
مشترك هم المسيحيين البيزنطيين. وأنه استغل فرصة ضعف الإمبراطورية البيزنطية
وتراجع نفوذها في المنطقة (بعد سلسلة حروب مع الساسانيين)، ونصّب نفسه حاكما في
العام 641 م، وهو نفس العام الذي توفي فيه الإمبراطور هرقل.
ويلمح بعض المؤرخين
أن معاوية كان الحاكم الفعلي على جزيرة العرب، وأنه دعم أبو بكر في مواجهة الأنصار
في سقيفة بني ساعد، وحاصر المدينة في عهد عمر حين حدثت المجاعة ولم يمدها بقوافل
المساعدات..
أي قارئ لتلك المرحلة سيجد
الكثير من التناقضات، والثغرات، والغرائب.. ذلك لتعدد الروايات، وتضارب
وجهات النظر، قد تكون بعضها مفاجئة وصاعقة، أو ساذجة ولا تستحق الرد.. لكن من المهم
أن نعرفها، وأن نناقشها بجدية.. لأن الموضوع من ناحية تاريخية خطير ومثير، خاصة
لمن يبحثون عن الحقيقة..
خاصة وأن هناك رواية موازية للرواية
الرسمية المعتمدة، صحيح أن روادها مستشرقين، لكن مؤرخين محايدين كبار انضموا إليها،
وأبرز نقاط تلك الرواية: قريش قبيلة سكنت بادية الشام.. الإسلام بدأ من البتراء..
العرب، أو الهاجريون، أو البدو بقيادة النبي محمد تحالفوا مع اليهود لطرد الرومان
من القدس.. معاوية كان مسيحيا، يدفع الجزية لبيزنطة، ثم استقل عنها، والإسلام دخل
تدريجيا الدولة الأموية في العهد المرواني.
قد تبدو تلك الأطروحات غريبة، ومستهجنة، لكن من
يطرحوها يستندون إلى ما اعتبروه أدلة دامغة، ومعظم من ردوا عليهم، لجؤوا لأسلوب
التهجم وتوجيه الاتهامات، وتسفيه تلك الآراء، وهذا خطير، خاصة وأن خصومهم يتحدثون
بأسلوب وأدوات العلم.. وهنا لا أدافع عن تلك الرواية، ولا أتبناها بالكامل بل أطرح
الموضوع هنا، لفتح نقاش عقلاني، يفتش عن الحقيقة، دون تعصبات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق