احتل نابليون مصر ثلاث
سنوات (1798~1801)، وحاول احتلال فلسطين لكن عكا أفشلت مسعاه، كان الفرنسيون يهدفون
إلى قطع طريق بريطانيا إلى الهند ومستعمراتها الشرقية، فتعاونت بريطانيا مع الدولة
العثمانية لاستعادة مصر، وتنصيب محمد علي باشا واليا عليها؛ الذي أدرك حينها مدى ضعف
وهشاشة الدولة العثمانية، فطالب الباب العالي بأن يضم بلاد الشام إلى حكمه، ولكن السلطان
العثماني كان مرتابا من طموحه وتطلعاته فتجاهل طلبه.
أدرك "محمد علي"
أهمية الوحدة العضوية والتاريخية بين مصر وبلاد الشام، فجعل ابنه "إبراهيم
باشا" يعد جيشاً كبيرا ويرسله إلى بلاد الشام، بما عُرف بِ"الحملة
المصرية"، التي بدأت في عام 1831.
من جهته اعتبر السلطان
العثماني محمود الثاني حملة إبراهيم باشا تمردا على الدولة العثمانية، وأمام عناد والي
مصر أفتى السلطان العثماني بأن الأب وابنه قد خانا الدولة وخرجا عن دين الله. وأصدر فرمانا بعزل محمد علي؛ الذي واجه الفتوى والفرمان بالعنف والبطش
الشديد، حتى أنه أعدم بعض مشايخ الأزهر.
بعد أن دعمت بريطانيا محمد
علي بداية عادوت محاربته ومعاونة الدولة العثمانية عليه، خاصة بعد أن استقر له الحكم
في مصر، وأنشأ جيشا وأسطولا قويين وبدأ يرسي دعائم دولة حديثة متطورة يمكن لها أن تستقل
عن العثمانيين، وتكون البديل القوي عن "الرجل المريض".
بدات الحملة المصرية بفرض حصارها
حول عكا، ومرة ثانية رفض "عبد الله باشا الجزار" الاستسلام للحملة. وبعد
ستة أشهر على حصارها سقطت المدينة، فتوسعت الحملة على كامل بلاد الشام وشملت دمشق
وحماة وحمص وحلب، وأطراف تركيا. ما دفع السلطان العثماني إلى
طلب المساعدة من روسيا وبريطانيا وفرنسا، ليتفقوا جميعا على عقد صلح كوتاهية (أيار
1833)، وبموجبه صار محمد علي والياً على مصر والحجاز والسودان وبلاد الشام.
في البداية أعفى محمد علي
وابنه إبراهيم أهالي فلسطين وبلاد الشام من بعض الضرائب، وخفف عنهم بعض الإجراءات
التعسفية، مثل سوء المعاملة والابتزاز في التحصيل، ولكن هذه السياسة اللينة سرعان
ما تغيرت. فأمر الباشا باحتكار تجارة
العديد من البضائع، وفرض التجنيد الإجباري على السكان، ونزع منهم السلاح، وخلال تلك
السنوات استغل إبراهيم باشا أهالي فلسطين في أعمال السخرة وبناء المقرات العسكرية،
وما رافق ذلك من إهانة وإذلال، والأدهى من ذلك أمر بأخذ ضريبة "الفِردة"
من جميع سكان الشام المسلمين، وهي تشبه الجزية المفروضة على أهل الكتاب.
ومع تفاقم الظلم والقهر
اللذين تعرض لهما الفلسطينيون من جنود الباشا بدأت بوادر التمرد والثورة، وقد اتفقت
العشائر على توحيد صفوفهم ورفض قرارات الوالي الجديد.
بدأت انتفاضة شعبية من جبل
نابلس، تزعّمها الشيخ قاسم الأحمد، وانضم إليها آل عبد الهادي في جنين، وآل غوش في
القدس ثم امتدت إلى يافا والخليل ورام الله وحتى الكرك شرقاً. حيث أعلن الجميع
العصيان على إبراهيم باشا بما سمي حينها بثورة الفلاحين، التي واجهها الباشا
بالقمع والتنكيل، لتندلع معارك دامية في سائر فلسطين كسب الثوار بعضها، فيما نجحت القوات
المصرية في هزيمة أكثر المواقع.
حاول الباشا استمالة كبار
شيوخ الثوار، ونجح مع بعضهم بالترغيب والترهيب، حتى أنه تراجع عن التجنيد الإجباري،
لكن الأهالي لم يقتنعوا بهذه "التسهيلات"، وأعلنوا عن استمرار ثورتهم،
وبعد وصول إمدادات إضافية من مصر تمكنت القوات العسكرية من إخضاع نابلس، وإحراق
القرى التي كانت تأوي الثوار.. بيد أن الثورة اشتعلت من جديد في صفد، فتحالف
الأمير بشير الشهابي (أحد أمراء جبل لبنان) مع إبراهيم باشا وتمكنوا من إخماد ثورة
صفد والقضاء عليها.
وفي شهر آب 1834، شنت
قوات الباشا هجومًا على الخليل لسحق آخر جيوب المقاومة، وجرت معارك عنيفة في
الشوارع بين الطرفين، وانتهت بمذبحة مروعة قُتل فيها نحو 500 مدني وثائر،
بينما قُتل من الجيش المصري 260 مجندًا.
وبعد أن تمكن إبراهيم باشا أخيرا من قمع الثورة في أغلب مناطق الضفة
الغربية وتخريب وتدمير ونهب القرى، اضطر الثوار إلى الفرار نحو السلط والكرك فتعقبهم
وقتل العديد منهم.. وآنذاك انضمت غزة إلى الثورة فأمر إبراهيم باشا بتدمير بيوتها وقمع
أهلها بوحشية.
ظل النضال قائما بين
الثوار الفلسطينيين والجنود المصريين حتى تم للباشا ما أراد، فأعاد فرض التجنيد
الإجباري ومصادرة الأسلحة من الأهالي، واعتقل عددا كبيرا منهم، وأعدم بعضهم ونفى آخرين،
واستخدم أقسى العقوبات.
في عام 1841 عُقد مؤتمر لندن بمشاركة الدولة العثمانية وروسية
وبروسيا وبريطانيا والنمسا، للحد من توسعات محمد علي، وتقليص صلاحياته، وهكذا بعد
عشر سنوات قاسية ودامية انتهت الحملة المصرية وخرجت من فلسطين.
ويصف مصطفى مراد الدباغ في
كتابه بلادنا فلسطين انسحاب القوات المصرية التي عادت منهكة ومهانة تعاني الجوع
والعطش، وكانت غزة آخر مدينة تخليها القوات، فاستقبل الأهالي الجيش ببرود ودون أي
تعاطف، وكان تعدادهم نحو 30 ألف جندي.
هذا فصل دامي من تاريخ فلسطين القريب.. في تلك الحقبة
عانى السكان من قسوة وتسلط وتعسف القوات المصرية الغازية، وكانوا قبلها (وبعدها) يعانون
من ظلم الحكم العثماني، ومن الضرائب، والتجنيد الإجباري، ومن سياسات الإفقار
والتجهيل..
لو أن محمد علي استخدم
اللين والحوار والترغيب ولم يلجأ للبطش والتنكيل والنهب، ربما تغير مصير فلسطين والمنطقة
بأسرها.. لكن هذا دأب الطغاة، وذلك نهج الثوار، وتلك سُـنّة التاريخ..
في كل مرحلة كان شعب فلسطين
يقاوم الظلم، ويثور على الظالم والمحتل، ويقدم تضحيات هائلة.. وكان ثقل الثورة
وعنفوانها في كل مرة على كاهل الفلاحين.. ويُضاف إلى الظلم الذي وقع عليهم من
ممارسات الحكام والإقطاعيين والغزاة، الظلم الذي لحق بهم من تزوير التاريخ،
واقتطاع أجزاء منه، لصالح قراءات انتقائية.. فمثلا يُنسب الفضل في صمود عكا في وجه
نابليون إلى أحمد باشا الجزار.. في حين أنه كان جزارا بحق أهل عكا. وهذا فصل آخر
يتوجب نبشه إنصافا للحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق