يقول المدافعون
عن حماس، والمؤيدون لقرارها بخوض الحرب أنَّ إسرائيل لا تحتاج الى ذرائع، وأنها
كانت ستدمر غزة حتى بدون هجمات 7 أكتوبر، ويسندون تلك المقولة بأن إسرائيل تهاجم
الضفة وتدمر مخيماتها التي لا توجد فيها حماس، ولم تنفذ هجمات 7 أكتوبر! فهل حقاً
تحتاج إسرائيل إلى ذريعة؟
الإجابة نعم،
وتاريخيا كل الجرائم والممارسات والسياسات التي اتخذتها إسرائيل كانت بناء على
ذريعة، أحيانا تكون الذريعة واهية فتقوم بتضخيمها إعلاميا، وأحيانا تقوم هي
باختلاق الذريعة من خلال افتعال حدث معين، وعندما تختلق الذريعة فهذا يعني أنها
تحتاج إليها..
على مدى تاريخها الحافل
بالجرائم كانت ردات فعل إسرائيل أكبر من الحدث نفسه، لكنها كانت تحرص على أن تبدو
متناسبة مع الذريعة (أي توظيف الحدث وتضخيمه إعلاميا)، وحاولت أن تظل آلة بطشها منضبطة وفقا
لسياسة الحكومة، وإلى حد ما حاولت مراعاة القانون، والأخذ بالحسبان وجود صحافة
ورقابة ورأي عام محلي وعالمي، مع إعطاء "الأمن" الأولوية على حساب كل
شيء..
ولم تصل
في بطشها وتوحشها ولا مرة كما هو الحال الآن في عدوانها على غزة، رغم توفر ذرائع
معينة، كما حصل في نكسة حزيران مثلا، حيث كانت الجيوش العربية شبه مفككة والأنظمة
مهزومة، وكانت فرصتها لممارسة التهجير، وارتكاب مذابح.. وفي الانتفاضة الثانية ورغم
طابعها العسكري ومع سلسلة العمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر وسقوط اعداد كبيرة من
الإسرائيليين (ومنهم مدنيين) مارست القمع بوحشية، لكن يمكن ملاحظة الفرق الكبير في
تعاملها مع الانتفاضة الأولى ذات الطابع السلمي.. وفي حروبها الأربعة السابقة على
غزة التي خاضتها بحجة الصواريخ ظل مستوى إجرامها محدودا مقارنة بما تفعله اليوم..
وفي جميع محطات النضال الفلسطيني ظلت ردات فعل جيش الاحتلال في حدود المتوقع، وضمن
القدرة على التحمل (وهذا لا يقلل من خطورتها، ولا يعني أنها ليست جرائم حرب).
اليوم،
كل شيء تغير، ولم تعد هناك أية محددات ولا محاذير ولا ضوابط على سلوك الجيش، وقد
أُطلقت يديه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه.. خاصة بعد أن قام
إعلام الاحتلال بضح دعاية مضخمة عن هجمات السابع من أكتوبر، وعن قوة حماس
وصواريخها وجيشها وأنفاقها... إلخ.
وحتى نفهم
لماذا تحتاج إسرائيل للذريعة دائماً، علينا أن نفهم طبيعتها وتركيبتها والعقلية
التي تفكر بها، وكيفية اتخاذها القرار، والمحددات العامة لسياساتها سواء الخارجية،
أو في تعاملها مع الفلسطينيين وقضايا الصراع..
على المستوى
الداخلي تحتاج إسرائيل في كل مرة تنوي إتخاذ قرار كبير إلى ذريعة كشرط للحصول على
موافقة وتأييد كافة مراكز صنع القرار في الدولة؛ أي أعضاء الحكومة، وقادة الجيش
والأجهزة الأمنية، فهم ليسوا دائما على قلب رجل واحد، ويحملون الفكرة نفسها،
ولديهم وجهات نظر متعددة ومصالح متباينة وأحيانا متناقضة، وكلما كانت الذريعة أقوى
تحصل على الإجماع، كما تحتاج الحكومة موافقة الأغلبية في الكنيست.. كما أن الذريعة
مهمة لإقناع الجمهور الإسرائيلي، ومهمة لصورة إسرائيل أمام نفسها حاضرا ومستقبلا، فالذريعة
حتى لو كانت مزيفة ومختلقة تظل مهمة لإراحة ضمير الجنود وأهاليهم ولتبرير
ممارساتهم الإجرامية، واستمرار التوهم بتفوق إسرائيل أخلاقيا وقيميا. كما تحتاج
الذريعة لبناء موقف قانوني وتجهيز التبريرات في مواجهة أية محاكمة دولية محتملة.
على المستوى
الخارجي تحتاج إسرائيل للذريعة لإقناع حليفتها الأهم (الولايات المتحدة) لتبني القرار
المتخذ، أو السياسية المتبعة بدءا من البيت الأبيض، مرورا بالكونغروس وانتهاءا
بكافة مراكز صنع القرار (الخارجية، البنتاغون، المخابرات، النخب الاقتصادية،
الإعلام..)، وتحتاج أيضا إقناع اللوبي اليهودي وجماعات المسيحية الصهيونية وتزويدهم
بمبررات.. كما تحتاج الذريعة لإقناع حلفائها الدوليين وقادة الدول المؤيدة
لإسرائيل الذين بدورهم يحتاجون الذريعة لإقناع شعوبهم وأحزابهم ووسائل إعلامهم.. وعلى
المستوى الإستراتيجي تحتاج إسرائيل للذريعة في مخاطبة الإعلام وللحفاظ على صورتها
التي تقدمها للعالم، ولكسب الرأي العام العالمي.
وقد وفرت هجمات السابع
من أكتوبر الفرصة لإسرائيل لتقديم نفسها أمام العالم بصورة الضحية المغدورة التي تتعرض لخطر وجودي،
وتتعرض لهجوم "إرهابي" منظم فظيع وخطير، يستهدف سكانها المدنيين.. ومن
أجل هذا ولتضخيم الحدث إعلاميا أعدت فيلما تسجيليا تضمن مشاهد وصفتها بالمروعة،
وقد عرضته بشكل شخصي على الرؤساء والزعماء وأعضاء الكونغروس وممثلي الدول في مجلس
الأمن والعديد من السفراء والمؤثرين العالميين..
وبعد سنة ونصف على بدء العدوان تبين جليّا أن ردة فعل
إسرائيل أكبر وأعنف بكثير من ذريعة 7 أكتوبر، وأنها كانت تنتظر الفرصة لتنفيذ
مخططات قديمة وجاهزة (الهندسة الديمغرافية، والقتل والإبادة، وتهيئة الظروف
للتهجير القسري والطوعي، وغلق كل أفق سياسي قد يؤدي إلى دولة فلسطينية، وصولا إلى
تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع).. وهذه أهداف إستراتيجية كبيرة جداً وتحتاج
إلى ذريعة قوية جداً.
ولم تكن إسرائيل بقادرة على تنفيذ كل ذلك لولا الفرصة
الثمينة التي وفرتها هجمات 7 أكتوبر؛ فهجوم بهذا الحجم، وبتلك النتائج، مع حكومة إسرائيلية
هي الأكثر تطرفا ويمينية، ومع تسخير ماكينة إعلامية لتبرير ما ستفعله، ولضمان
تأييد أميركا المطلق، وموافقة بقية الأطراف الدولية المؤثرة، عملت إسرائيل على
استغلال هذه الفرصة لأقصى مدى ممكن، ولم تكتف بتدمير قطاع غزة وقتل وجرح نحو مائتي
ألف إنسان، وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة، مما سيجبر نسبة عاليه من سكانه على الرحيل.
وبعد أن فتحت أبواب الجحيم، وقامت الحرب، وازداد القتل
والتدمير، واعتاد العالم على المشهد، وصارت أخبار المذابح مألوفة، صارت الفرصة
سانحة أكثر للانتقال بحربها إلى الضفة الغربية، وصار بوسعها تنفيذ ما كانت عاجزة
عنه سابقا، بهدوء ودون ضجيج، فقد أخذت موافقة ضمنية من العالم على فعل كل ما
تريد.. ما يعني أن كل اعتداءاتها وسياساتها الآن داخل فلسطين وخارجها مبنية على
ذريعة السابع من أكتوبر.
ثمة فرق كبير
بين أن تشن إسرائيل اعتداءاتها بدون ذريعة، وأن تشنها ومعها ذريعة وحجة، وقد
حولتها إلى شرعية سياسية وقانونية، وحظيت بتأييد المجتمع الدولي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق