أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 27، 2024

تفاعلات الشرق والغرب مع حرب الإبادة


مع تواطؤ الدول الكبرى مع جرائم الاحتلال، وصمت العالم عليها، وشعور أهل غزة بالخذلان، وسط هذا الظلام الدامس ظهرت بقع مضيئة، أحيت فينا الأمل من جديد، تمثلت في جر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، ومطالبة مدعي عام محكمة الجنايات الدولية باعتقال قادة إسرائيل، واعتراف العديد من الدول الأوروبية بدولة فلسطين، وانتفاضة طلبة الجامعات الأمريكية والأوروبية للمطالبة بمعاقبة إسرائيل وإيقاف العدوان، والمظاهرات الشعبية الحاشدة في مختلف مدن وعواصم العالم تنديدا بالمجازر والإرهاب الإسرائيلي وتضامنا مع شعب فلسطين، وتحول قضية فلسطين إلى أيقونة نضالية ضد قوى الشر والطغيان، حتى غدت رمزا للأخلاق والقيم الإنسانية.. مقابل عزلة إسرائيل ونبذها.

صحيح أننا جميعا في بلدان الشرق سعدنا بهذه المنجزات، وأيدناها بشكل مطلق، لكننا لم نساهم في تحقيقها، فكل ما سبق ذكره حدث في بلدان الغرب (لا بأس من إضافة جنوب إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية)، بينما في بلدان المشرق كان الأمر مختلفا.

لو قمنا بتحليل نفسي وسيسيولوجي لمجتمعات الشرق، وأقصد كل من هم خارج غزة، لمعرفة كيفية تفاعلهم مع حرب الإبادة، وكيف فهموها، وكيف ينظرون إليها، ومن أية زاوية سنجد الآتي:

يعتقد الأغلبية أن هدف إسرائيل الحقيقي هو القضاء على حماس، أما الضحايا المدنيين والتدمير والتهجير والنزوح فهي مجرد أعراض جانبية للحرب.

لا مانع عندهم من استمرار العدوان لأمد مفتوح، ولا بأس من استشهاد 50 ألف غزاوي، أو حتى مليون، وتدمير القطاع وتسويته بالأرض.. فالنصر لا يتحقق إلا بالتضحية (الجزائر، فيتنام..). وانتصار المقاومة، أو حتى مجرد بقاؤها أهم وأولى من حياة الشعب!

ويعتقدون أن ما يجري في غزة عبارة عن حرب حقيقية بين قوتين مع الإقرار بالفرق الهائل بينهما؛ إلا أن "المقاومة" تتصدى للعدوان بكفاءة، وتوقع خسائر فادحة في صفوف العدو، وأن هذه المقاومة قادرة على الصمود، بل وعلى تحقيق الانتصار العسكري.

يتابعون فقط صور تدمير الدبابات وصور المقاومين، والمقاطع المنتقاة لمواطنين يعبرون عن صمودهم واستعدادهم للتضحية، أو لأطفال يضحكون ويلهون.. ولا يرون صور الدمار والخراب والمجازر والبؤس وأكوام الردم والنفايات والطوابير وخيام الذل.. بل إن مثل هذه الصور تزعجهم، ويعترضون على نشرها لأنها تضعف الروح المعنويه، ولا تظهر جوانب البطولة. ويعتقدون أن فيها الكثير من المبالغات، ولا تعكس واقع الحال في غزة.

يحبون سماع الروايات التي تناسب تصوراتهم المسبقة، وتتفق مع آرائهم، ويعيشون معها حالة من الخدر اللذيذ، ويضيفون عليها بعض القصص والأوهام والشعارات الدينيه، وتلك الروايات تعبّر بالضرورة عن أمانيهم ورغباتهم الدفينة حتى لو كانت ملفقة، ويتجنبون سماع الحقيقة حتى لو خرجت من أفواه مليوني إنسان ممن يعيشون أهوال الحرب في غزة، لأن الحقيقة مرة.

يعتقدون بأنهم أوصياء على غزة وأهلها، وأنهم الأحرص عليها، ويمارسون الإرهاب الفكري (دون أن ينتبهوا لذلك) ضد أي وجهة نظر مختلفة عما يعتقدون، ولا ترى ما يرون، بل ويعتبرونها هدما للمعنويات، وطابور خامس، وعمالة وخيانة وانهزام وجبن.

يبنون آمالا كبيرة على تصدع إسرائيل وزوالها القريب وهزيمتها التاريخية استنادا إلى ما تروج له الجزيرة عن خلافات عميقة بين الإسرائيليين، داخل الحكومة، وفي المجتمع، والجيش. ويفرحون لأي تصريح من مسؤول إسرائيلي أو غربي في هذا السياق، دون فهم حقيقي لطبيعة تلك الخلافات، ومدى تأثيرها على مستقبل إسرائيل.

يعتقدون أن مظاهر الطلبة والمسيرات الشعبية الحاشدة هي تأييد للمقاومة، وهي بمثابة استفتاء على صحة خيار المقاومة، كما هي حال مظاهرات الأردن مثلا.

في واقع الأمر هم مستفيدون من لغه الشعارات والخطابات، ويفضلون البقاء في عالم الوهم الذي يعيشونه، والذي تروج له الجزيره والدويري بأن أهل غزة مستعدون للتضحية ومتقبلون للموت، ومتحملين كل هذا البؤس عن طيب خاطر، لأنهم أبطال خارقون، وأعصابهم فولاذية وقلوبهم من حديد، وأن انهيار إسرائيل قاب قوسين أو أدنى، وأن المظاهرات العالمية ستغير النظام الدولي.. هذه الصورة تريح ضمائرهم، وتعفيهم من مسؤولية المشاركة الحقيقية، وفعل شيء ملموس (غير الهتافات وتداول الصور) وتجعلهم يعيشون لحظات انتظار النصر المؤكد. وبالتالي سيكرهون من يهز قناعاتهم، ويخرجهم من أوهامهم.

بمقارنة سريعة بين ما ذكرته في مقدمة المقال بشأن تفاعل المجتمعات الغربية ونخبها مع العدوان، وبين تفاعل المجتمعات الشرقية، سيكون السؤال اللازم: أيهما أفضل للقضية الفلسطينية؟ أيهما متضامن أكثر مع أهل غزة؟ أيهما أكثر ضررا على إسرائيل؟ أيهما ينهي الحرب؟ أيهما أكثر إنسانية وأخلاقية؟ وأكثر وعيا ونضوجا؟ وأيهما أقرب للحقيقة؟

الحقيقة أنه مع كل يوم جديد من العدوان سيُقتل على الأقل مائة مدني من أهل غزة،  وسيُصاب بجراح متفاوتة وصدمات نفسية مئات آخرون. ومربعات سكنية كاملة سوف تسوى بالأرض، وستفقد مئات العائلات مساكنها، وسيُجبر الآلاف على النزوح مرة أخرى، وسيعيش مليوني إنسان في ظروف التشرد والجوع والخوف، وستفتك بهم الأمراض والأوبئة والحشرات وحر الصيف القائظ، وسيعانون من السماسرة وتجار الحرب والمستغلين والعصابات والسرقات، وسيفقد المجتمع مزيدا من وحدته وترابطه وأخلاقه وقيمه.. كل هذا مقابل تفجير بضعة دبابات ومقتل بضعة جنود (على أهمية ذلك)، ولحظة نشوة أثناء سماع خطبة إنشائية وخبر عاجل عن كمين محكم.. ومقابل استمرار تدفق التبرعات لحساب جمعيات نصابة في الضفة والأردن وأمريكا وأوروبا، اغتنت وتكسبت على حساب غزة، وعمقت من حجم الكارثة.

والحقيقة أن التركيز على المقاومة، وتضخيم قدراتها وكأنها جيش حقيقي، أطال في أمد الحرب، ومنح الاحتلال مزيدا من الذرائع والفرص لإكمال مخططاته، وفوّت الكثير من فرص إدانة إسرائيل كقوة غاشمة تقتل المدنيين، وكان ذلك من أهم أسباب تعميق الكارثة.

ومع استمرار الحرب تغدو الكوارث عادية أكثر فأكثر، ويعتاد العالم عليها، حتى تجاوز عدد الضحايا 150 ألف بين شهيد ومصاب ومفقود، وهذا العدد مرجح لزيادات صادمة، لكنها لن تكون صادمة.

هؤلاء المنفصلون عن الواقع، يعيشون في ظل أنظمة استبدادية، ومجتمعات ينخرها الفساد والفقر والبؤس والفوضى والقمع السلطوي، وهم عاجزون عن تغيير واقعهم، أو حتى التعبير عنه، هذا الواقع البائس ورثهم الهزيمة جيلا بعد جيل، واعتقدوا أن حرب غزة ستعيد لهم توازنهم وتعوض خساراتهم وهزائمهم، وأنَّ صور المقاومين تغطي على ضعفهم، وأن أوهام الجزيرة وتحريضات وخطابات الإسلام السياسي خير عزاء لهم، وحتى لو كانت على حساب تدمير غزة كلها، ومقتل أهلها جميعا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق