أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 29، 2024

الكوميديا السوداء في فيلم فوي فوي فوي

 

"فوي فوي فوي" عنوان فيلم مصري رشحته نقابة المهن السينمائية المصرية لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم دولي لهذا العام، من بطولة محمد فراج، ونيللي كريم، وبيومي فؤاد، وإخراج عمر هلال، والقصة الأصلية للفيلم مأخوذة عن تحقيق استقصائي أجراها الصحفي محمود شوقي.

و"فوي" كلمة إسبانية تعني "أنا قادم"، ويستخدمها لاعبو كرة الجرس المكفوفين عند التوجه نحو الكرة لتلافي الاصطدام بزميل أو بلاعب من الفريق المنافس.

يطرح الفيلم ثلاث قضايا خطيرة في آن معاً، ولكن بقالب كوميدي، الأولى: الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي البائس للمجتمعات العربية، والثانية: الهجرة غير الشرعية لدول الشمال، والثالثة: كيفية اتخاذ القرار الأخلاقي، ومعاييره.

فبسبب تردي الأحوال الاقتصادية والمعيشية في مصر (وأي مجتمع عربي عموما)، والتي صارت تشكل بيئة طاردة لمواطنيها، وخاصة الشباب، الذين صار جل همهم التفكير بالمغادرة والهجرة إلى أوروبا ظنا منهم أنها ستغير أحوالهم للأحسن، من حيث توفير فرص عمل، وتعليم للأبناء، وخدمات صحية، وبيئة أنظف، ونظام يحترم مواطنيه بعدالة اجتماعية.. بغض النظر عن مدى دقة وصوابية هذا التصور عن الغرب، إلا أن الواقع المزري الذي يعيشه المواطن العربي وما يتلقاه من قمع سلطوي، وإفقار وتهميش، وانعدام للكرامة والحريات.. يدفعه للبحث عن أي خلاص.

في أحداث الفيلم ثلاثة أصدقاء من الطبقة الفقيرة، يعملون في مهن مؤقتة، لا تدر عليهم دخلا كافيا، ولا تؤمّن لهم حياة كريمة، أو مستقبلا واعدا (حارس أمن، ديليفري..)، يخطط حسن للهجرة، فيكتشف أنّ الأمر يحتاج 50 ألف جنيه، وتجاوز نقاط أمنية عديدة، وركوب البحر في زورق مطاطي غير آمن، وتعريض نفسه لمخاطر جسيمة.. فيحجم عن الفكرة في انتظار فكرة أفضل.

يقرأ خبرا عن فريق كرة قدم مصري للمكفوفين سيشارك في بطولة دولية في أوروبا، وعلى الفور تخطر بباله فكرة جهنمية وجريئة، فيقرر الإدعاء بأنه كفيف ويبدأ بالتدرب على حركات المكفوفين، وكيفية ممارستهم هذه الرياضة، إلى أن يذهب إلى الجمعية الخيرية التي تتبنى الفريق، ويطالبهم بضمه إليه، وهكذا كان.

يسافر الفريق إلى دولة إفريقية وبعد أن يوشك على خسارة المباراة بفارق كبير يُدخل المدرب اللاعب حسن فيُحدث فرقا حاسما، ويفوز المنتخب المصري.. لكن الطبيب المرافق للمنتخب سيكتشف أمره بأنه ليس ضريرا، فيقرر فضحه وفصله من المنتخب لأن هذا غير مقبول أخلاقيا ولا قانونيا.. ثم يتردد، بل يقرر الاستمرار في اللعبة والاستفادة من مهارات اللاعب المبصر على أمل كسب البطولة كلها.

ستسمع صحافية شابة بقصة المنتخب وإنجازاته، فتقرر الكتابة عنه ودعمه وتشجيعه، فتزور حسن في بيته، وتنشأ بينهما علاقة حب، وتتعرف بأمه.. لكن أمه سرعان ما تكتشف أن ابنها متورط في قصة نصب واحتيال، فتبوخه وتقرر فضحه، لكنها ستفضل مصلحة ابنها فتمشي مع اللعبة.

ثم ستكتشف الصحافية أن حسن مبصر، وأنه مدع، فتغضب وتقرر فضحه في الإعلام، لكنها ستوازن بين مبررات حسن وظروفه المأساوية وبين ضميرها الصحافي فتقرر السكوت.

ثم سيكتشف مدرب الفريق أن حسن مبصر، فيطلب منه رشوة كبيرة مقابل السكوت عنه والمضي في اللعبة، ومن هنا يعرض عليه حسن إشراك صديقيه في المنتحب، فيوافق مقابل مبلغ 150 ألف جنيه، وحين إعطائه المبلغ يقوم الطبيب بتصوير المشهد، ثم يبتزه بين الفضيحة أو الاستمرار في اللعبة بعد أن تورط فيها الجميع، خاصة بعد أن يعترف المدرب أنه يعلم أن ثلاثة لاعبين آخرين هم في الحقيقة مبصرون، وقد أخذ من كل لاعب منهم مبلغا كبيرا كرشوة.

ثم سيطلب ابن الطبيب، وهو فتى يعاني من إعاقة حركية تلزمه الكرسي المدولب، سيطلب من والده السفر إلى أوروبا وعدم الرجوع، وأنه يعلم بحقيقة الأمر، وأنه يفضّل أن يؤمّن والده له ولعائلته مستقبلا أفضل وأكثر أمانا.

سيسافر المنتخب إلى بولندا حيث تقام البطولة الدولية، ثم نكتشف أن جميع الفريق مبصرون ومشتركون في اللعبة باستثناء لاعب واحد، فيقررون لعب المباراة الأولى إكراما لهذا اللاعب الكفيف الذي يبني آمالا عريضة على البطولة، ثم يتبين أنه حتى هذا اللاعب هو أيضا مبصر، وأن الشرطة على وشك اكتشاف اللعبة، فيقررون الهروب جماعيا.

المثير في القصة أنها حقيقية، وقد حدثت بالفعل عام 2015، حين سافر فريق من الرياضيين المصريين المكفوفين إلى بولندا للمشاركة في بطولة لكرة الجرس، وهي رياضة مصممة خصيصًا للمعاقين بصريًا. لكن مع وصول الفريق إلى بولندا، يختفي الجميع دون لعب أية مباراة.

وقد تناولت الصحافة المصرية والعربية تلك الواقعة، حين سافرت بعثة نادي الإيمان للمكفوفين إلى بولندا للمشاركة في البطولة الدولية لكرة الجرس عام 2015، إلا أن أفراد البعثة هربوا في بولندا دون المشاركة في أي مباراة، وتبين لاحقا أنهم مبصرون ولم يؤدوا الخدمة العسكرية في مصر، وكشفت التحقيقات تورط رئيس النادي ومسؤولين في اتحاد رياضات المكفوفين في القضية، حيث دفع كل لاعب مبلغ 50,000 جنيه مصري نظير الحصول على تأشيرة الدولة الأوروبية، وأنهم استخدموا البطولة الدولية كوسيلة للوصول إلى أوروبا.

وفي واقع الأمر حياة "حسن" المهمشة والبائسة وأحلامه المنكسرة، وعيشه في حي فقير، بحياة رتيبة ومملة وصعبة، وحتى تفاصيل الحياة اليومية لأصدقائه ومشاعرهم بالضيق والاختناق والاكتئاب وقلة الحيلة، وانعدام الفرص، والخوف من المستقبل.. تشبه حياة ملايين المواطنين ممن يعيشون في ظل أنظمة فاسدة وقمعية وبيئات اجتماعية متخلفة في أغلب البلدان العربية، والعالم الثالث.. هذا دون الحديث عن الحروب والتهجير القسري..

هذا الواقع الضاغط والبائس لكل من والدة حسن، والصحافية البارعة، والطبيب الذي يحاول مساعدة ابنه الذي يعاني من إعاقة، وحتى ابنه، والمدرب وبقية أعضاء الفريق.. وضعهم أمام امتحان لاتخاذ القرار الأخلاقي.. فمن وجهة نظرهم انحازوا لمصالحهم، فبرروا لأنفسهم ذلك بسبب الظروف القاسية (أو تفهّموا تلك الظروف والمبررات)، وأنه لا خيار أمامهم سوى مواصلة اللعب والنصب والكذب..

من السهل على أي شخص "مرتاح" ولو نسبيا الحكم على فساد هؤلاء الأشخاص.. لكن الفساد الحقيقي في البيئات الاجتماعية والنظم السياسية التي يعيشون في كنفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق