أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 24، 2024

رسالة من معلم غزاوي


قبل الحرب، كنا في مثل هذا الوقت مع نهاية كل أيار، وبعد معاناة الامتحانات، وترقب الشهادات بقلق، ننتظركما وأنتما عائدان إلى لبيت ركضا ومن عيونكما يقفز الفرح، لنبدأ بعدها عطلة الصيف والبحر، والتي ما أن توشك أن تنقضي حتى نشتري لكما دفاتر وأقلاما جديدة وعلب ألوان وحقائب وأشياء أخرى كثيرة.. نسفك بعدها عاماً جديداً.. وهكذا سنة بعد سنة، حملنا العمر معاً.. بالكثير من التعب والشغف والأمل.. كنتما طفلان جميلان، تكبران على مهل، نعبئ جيوبكما بالسكاكر والشيبس، فتملآن قلوبنا بالبهجة، في أعياد ميلادكما نهديكما ألعابا ودببا رمادية.. فتصبغان حياتنا بالألوان..

في شباط الماضي، كان يُفترض أن تعودا لمدرستكما بعد انقضاء عطلة الشتاء، ولكن، لم تكن هناك مدارس، ولا عطل، ولا طلبة، ولا معلمين، كانت قذيفة حاقدة تتربص بكما، أنهت حياتكما في لحظة واحدة، ومعكما أربعة من طلبة الصف العاشر "أ" و "ب".. كنتما عائدين من طابورين؛ ناصر وقف لساعتين في طابور الخبز، وأحمد انتظر ثلاث ساعات لشحن الهاتف، أما الأربعة الآخرون فلا أعرف في أي طابور كانوا..

كان ناصر قبل الحرب في الصف التاسع، شغوف ببرمجة الكمبيوتر، وأحمد في السادس، يحب كرة القدم، ويحلمان بمستقبل واعد.. انتهى مستقبلهما قبل أن يبدأ.. وتركانا نتجرع الآلام والأحزان.

نحن الآن نقيم في مدرسة النصيرات، مدرستكما، هناك في الطابق الثاني، وتحديدا في غرفة صف ناصر، وقد رجوت رجل الأمن الذي كان يفصل بهراوته بين الرجال والنساء، رجوته أن يسمح لي بالمبيت مع أمكما ليلة واحدة في تلك الغرفة، أردنا أن نرى خربشاتك على السبورة، أو أثرٍ لقصاصة خطتها أناملك.. 

منذ ثمانية أشهر، مع مغيب الشمس كل مساء، أذوب في لجة الليل البهيم، أصفن في حالنا، وأتساءل بمرارة: كيف حدث كل ذلك؟ وبهذه السرعة؟ وكيف تغير حالنا وانقلب كل شيء رأسا على عقب، فيتكشف لي كم هي ضئيلة حيواتنا، وكم هي واهنة أرواحنا، وكم هي رخيصة دماؤنا..

نسيت أن أخبركما أننا نزحنا من النصيرات ونحن الآن في رفح، في خيمة على بعد ميل من البحر، تعرضنا لوابلٍ من النيران قبل ساعة، والآن أتأمل غيمة وحيدة في السماء فأتذكر كم كانت أحلامنا بسيطة، ومجنونة.. سيتجدد القصف بعد ساعة،  لم أعد أرى سوى الخوف، ولا أحس إلا بالخيبة والخذلان، يهدني التعب، أنسى أنني جائع وعطش، وأني لم أستحم منذ أسبوعين، تطاردني هواجس شتى، لدرجة أني لم أعد أشعر بشيء،  وأهرب من كل شيء، حتى من ذكرياتنا ومن ظلالنا.. حين كنتما بيننا، وتكبران سنة بعد أخرى بدموعنا وعرقنا وأيامنا المسفوحة التي تقربنا من نهاياتنا.. كنا نقول عزاؤنا الوحيد أننا نرى أعمارنا تتمدد في أعماركما.. فماذا سنقول اليوم؟

اليوم، نقتات على الذكريات.. وعلى الصور.. ومعها ندرك أنه ليس هنالك ما هو أسرع من الموت.. ولا أقسى منه.

خلال أسبوع سينتهي العام الدراسي في الضفة، وفي الأردن وسائر دول المنطقة، أما في غزة فالعام الدراسي لم يبدأ بعد، وربما لن يبدأ أبدا.. في غزة توقف الزمن، أو لنقل عاد بنا إلى الوراء قرونا، ودفعة واحدة.. المهم أننا بتنا خارج مجرى الزمن.. صرنا مجرد حسابات في أروقة إيران وقطر وتركيا ومصر وإسرائيل وأمريكا..

وبصفتي أبٌ فقد ولديه، ومعلم خسر مدرسته، ومربٍ شاهد عاما كاملا بلا صفوف ولا حصص ولا طابور الصباح ولا إذاعة مدرسية.. أستطيع القول بكل حسرة وألم أنها أفدح خسارة يُمنى بها الشعب الفلسطيني في تاريحه المعاصر.

بعد أشهر قليلة سيبدأ عام دراسي جديد، ومن صاروا بعمر السادسة لن يسجلهم أهاليهم في الأول إبتدائي، ومن يفترض أنهم أنهوا التوجيهي لن يلتحقوا في أية جامعة؛ فلم يعد في القطاع روضة، ولا مدرسة، ولا جامعة..  

والخسارة لا تقتصر على فقدِ عام دراسي، بل خسارة الطفولة نفسها..الطفولة التي هي أصلا في غزة "شيء" مختلف.. شيء عصي على الفهم؛ فأطفال غزة شهدوا قبل أن يصِلوا سن الشباب: انتفاضة شعبية مسلحة، وحرب أهلية مصغرة، وخمسة حروب إسرائيلية من الحجم المتوسط، وهذه الحرب المجنونة وغير المسبوقة بعنفها ودمويتها..

هؤلاء الأطفال شبُّوا وليس في مخيلاتهم سوى ذكريات القصف الذي باغتهم مع انقطاع الكهرباء، واختبارات الخوف، وعجز الآباء عن حمايتهم، ومشاهد الدبابات والغزاة.

وقبل الطفولة، الحياة أساسا في غزة تختلف عن أي مكان آخر في العالم؛ الأطفال لم يغادروا سابقا حدود القطاع، ومنذ بداية الحرب وهم يهيمون على وجوههم في ما يشبه الشوارع، وبعضهم حفاة، يصحون باكرا، بلا سبب، وفي عيونهم بريق غريب، تتجول نظراتهم بين أكوام الخراب والردم، يتنفسون هواءً مخلوطاً بالغبار، وحين ينامون يعصف بآذانهم أنين الخوف، وبقايا أصوات الزنانات، في النهار يركضون وراء حلم شارد، فينتشرون كالفراشات في ساحات ضيقة تنبعث منها رائحة الموت، ووسط كل هذا الدمار يلتقطون لأنفسهم "سيلفي" وهم يضحكون. وإذا تحدثوا لأي قناة تلفزيونية يتكلمون بالفصحى، ويرددون الشعارات الكبيرة، يسخرون من الموت، ويتوعدون إسرائيل.

يطاردهم الموت من كل صوب وحدب، ومع ذلك، يحبون الحياة، رغم أنهم لم يروا منها ما يسرّ، ومتمسّكون بتلابيبها وببؤسها.. على أمل أن تضحك لهم ذات يوم.

أرقب بتحسر وغضب كيف جرّدت إسرائيل أطفال غزة من طفولتهم، وكيف كبّرتهم الحروب بقفزات زمنية أسرع من أقرانهم، وكيف سلبتهم أحلى سنين عمرهم..

قبل الحرب كان جل همهم ومنتهى أحلامهم ألا تنقطع الكهرباء، وألا يتأخر راتب الوالد، وألا يدلف عليهم السقف.. وأن ينهوا عامهم الدراسي دون أن ينقص من صفهم أحدا، ودون أن يذوي تلميذ قبل أوانه.. اليوم حتى تلك الأماني البسيطة صارت مستحيلا..

أطفال غزة عجنتهم الحياة بقسوة، واختبروا أشكالا عنيفة للموت، ودافعوا عن طفولتهم بكل بطولة، دون مساعدة من أحد، لكنهم خسروها.. أزيد من 15 ألف طفل قُصفت أعمارهم، وآلاف من معلميهم استشهدوا، وعشرات الآلاف منهم تيتموا، وكل مدارسهم وجامعاتهم إما دُمرت أو تحولت إلى مراكز إيواء..

يتساءل العالم ببلاهة: لمَ أطفال غزة بائسون؟  ولم تبدو على وجوههم ملامح القسوة؟ لكن أطفال غزة حين يجيبون على هذه الأسئلة يوماً ما، سيفاجئون العالم، وسيصرخون بوجهه، وبوجه كل من انتهك طفولتهم، وسيدهشوننا بعبقريتهم وشجاعتهم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق