"تحرير الشرق" هو آخر كتاب للدكتور إياد برغوثي، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يقع في 159 صفحة. يحمل الكتاب فكرة جديدة ومثيرة؛ وهي تحرير الشرق.. ويقصد بالشرق المنطقة الممتدة من المغرب حتى أفغانستان، ويقصد بالتحرير، خلق حالة من الوعي بترابط مصير ومصالح أبناء هذه المنطقة، وصولا إلى صياغة هوية "واعية" تجمع مكونات شعوب الشرق، وتصهرها في إطار مشروع ثقافي مشترك.
ينطلق الكاتب من فكرة أن
منطقة الشرق تعرضت لغزو استعماري، مثلت إسرائيل قلبه ورأس حربته، في حين مثلت فلسطين
النقيض المركزي لهذا المشروع.. وللوصول إلى هذه الفكرة تدرج الكاتب عبر عشرة فصول
تمهد لفكرته النهائية، وتشرحها بطريقة متسلسلة.. فبدأ بالحديث عن المشروع
الإمبريالي في المنطقة العربية، والدور الوظيفي للصهيونية في إطاره، وأداته الرئيسة
إسرائيل، التي تطمح بأن تكون أكثر فاعلية وأكثر استقلالا وأكثر تأثيرا داخل
المشروع الأكبر. مشيرا إلى أنَّ الغرب بإنشائه إسرائيل مارس قمة إمبريالتيه ضد
الفلسطينيين، لكنه أيضا مارس قمة "لاساميته" ضد اليهود، وإن بطريقة بدت
لصالحهم. موضحا بأن الصهيونية تموضعت ومنذ بداياتها مع الإمبريالية الغربية ليس
فقط في السياق السياسي والعملياتي، بل وأيضا الحضاري والثقافي، في مقابل الشرق كله،
فتباهت الصهيونية بانتمائها للمنظومة الغربية، واحتقارها لثقافة الشرق
"المتوحش"، و"المتخلف".
كما أكد على الطبيعة
العنصرية للمشروع الصهيوني (والإمبريالي بالطبع)، بل إن العنصرية كانت مطلبا أساسيا
لنجاحه واستمراريته، الأمر الذي استدعى بالضرورة إقصاء وتغييب الفلسطينيين.. وفي
السياق ذاته كانت "اللاسامية" ضرورة حيوية للصهيونية، ليس فقط لاستقطاب
وتحفيز الهجرة اليهودية، بل لأنها مبرر قيام الصهيونية.
ثم ينتقل الكاتب إلى موضوع
فلسطين، وتحولها من قضية إلى كيان، في هذا الفصل لا يخرج الكاتب كثيرا عن الخطاب
التقليدي المعارض لأوسلو، والذي يحمّل القيادة الفلسطينية المسؤولية كاملة عن هذه
الاتفاقية، التي لم تكن في الحقيقة سوى إطار مرجعي وإعلان مبادئ لاتفاقية مؤقتة،
دون مرور الكاتب على الظروف الموضوعية (الإقليمية والدولية) التي صنعت ممرا
إجباريا كان على المنظمة إما أن تسلكه، أو تجد نفسها معزولة، لتصبح مثل مجاهدي خلق،
أو الحزب الكردستاني، أو البوليساريو.. يدافعون عن قضايا عادلة لكن لا أحد يكترث
لهم.. مع اتفاقي مع الكاتب على تقييمه للنتائج الكارثية التي أدت إليها أوسلو،
لكنها من وجهة نظري لم تكن قدرا محتوما، بقدر ما كانت نتاج لأخطاء ذاتية في النهج
والممارسة.
ثم يخلص الكاتب إلى أن موجة
التطبيع العربي الرسمي كانت بسبب وبعد قيام الفلسطينيين بالتطبيع مع إسرائيل، ومن
وجهة نظري هذا غير دقيق، فالتطبيع يختلف عن المفاوضات، ومن جهة أخرى كانت مصر أول
من افتتح معاهدات السلام (والتطبيع) مع إسرائيل في 1977، أي في سنوات ذروة
المقاومة الفلسطينية والتصعيد العسكري ضد إسرائيل.. كما أن أغلبية الأنظمة العربية
مارست في الخفاء (وأحيانا في العلن) قبل ذلك سياسات عدوانية ضد القضية الفلسطينية
كانت أخطر من التطبيع، بل إنها هي التي خلقت الظروف السياسية المجافية التي أجبرت
الفلسطينيين للذهاب إلى مدريد، ومن ثم إلى أوسلو.
ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث
عن الدولة الوطنية، مع اتفاقي الكامل معه على تقييمه للأضرار الكارثية التي تسببت
بها الدولة القطرية ومشروع التجزئة، وأن الدولة القطرية ستظل مأزومة ببسبب طبيعتها
وبحكم تركيبتها، ونشأتها.. إلا أن خلافي معه على تحميل اتفاقية سايكس بيكو كل
المسؤولية بأكثر مما تحتمل، فهذا الخطاب التقليدي يتعامل مع سايكس بيكو وكأن
المنطقة العربية كانت قبله دولة واحدة، ثم جرى تقسيمها.. وفي هذا مغالطة تاريخية..
كما أن مشكلتنا الحقيقية الآن ليست في الحدود المصطنعة، بل في الاستبداد والتخلف
والقبلية.. إلخ، وهي مشاكل موجودة قبل سايكس بيكو بقرون.
ثم يتناول الكاتب مواضيع
مهمة أخرى في السياق ذاته، مثل الربيع العربي أسبابه وتداعياته، وداعش، وحركات
الإسلام السياسي.. وصولا إلى حديثه عن دور المثقفين والنخب، ودورهم في بناء
إمبراطورية ثقافية، وصياغة الهوية الواعية، التي ستكون مظلة الإمبراطورية الشرقية
الثقافية، وقد كان موفقا في طرحه، ومقنعا إلى حد كبير، ومشوقا في أسلوبه..
استبعد الكاتب كل من
السعودية ومصر وتركيا كدول قوية ومرشحة لقيادة مشروع إمبراطورية الشرق، لأسباب
وجيهة، وصحيحة، وأبقى على إيران! مع أنه أشار إلى أن مصر الناصرية كانت قد خلقت
حالة نهوض وكبرياء قومي غير مسبوقة، ولم تتكرر، وكادت أن تنجح في خلق حالة جديدة..
إلا أنه لم يذكر أسباب إخفاقها وتراجعها، وهي تحييد دور الجماهير، وتغييب عنصر
الإنسان، والحكم بنهج الفرد المستبد (حتى لو كان نزيها).. وهذه أسباب متوفرة في
إيران، يُضاف إليها تغييب المجتمع والحياة المدنية، والحكم الأوتوقراطي
الأوليغارشي.. مما يفقدها إمكانية لعب هذا الدور النبيل.. فضلا عن سياساتها الطائفية
والعدائية في المنطقة العربية.. مع اتفاقي مع الكاتب على أهمية الانفتاح على إيران
والتحالف معها في مواجهة الإمبريالية وإسرائيل..
نأتي إلى خلاصة الكتاب في
الخاتمة، والفكرة الجوهرية التي اعتبرها الكاتب "طوباوبة"، وخيالية..
بالنسبة لي وإن بدت كذلك، إلا أن قيمتها في طرحها، وفي أسبقيتها، ورياديتها، فالكاتب
هنا يطلق شرارة البدء، ويؤسس لحالة وعي لفكرة جديدة ومثيرة، وهي إمبراطورية
الشرق.. وطالما بدأت الأفكار العظيمة بإرهاصات بسيطة، وأفكار مثالية، ولكن بدون
هذه الأفكار، لن يكون ممكنا صياغة وعي جمعي، ولن يكون ممكنا ظهور جماعة أو دولة تحمل
هذه الأفكار وتطبقها.. لنتذكر أن الصهيونية بدأت بفكرة، ومقال، وكتاب.. واحتاجت
خمسين سنة كاملة (من الدعم البريطاني الكامل) حتى غدت حقيقة..
وكما أشار الكاتب: الكتاب
ليس دعوة للتخلص من الحالة المزرية التي نعيشها، فالكتاب لم يتضمن آليات عمل وبرامج..
بل هو دعوة لإدراك أهمية التخلص.. وهو ليس دعوة للتحرر والوحدة، بل دعوة لإدراك
أهمية التحرر والوحدة، وإدراك مخاطر عدم تحقيقها.. وهو ليس دعوة للتغيير بقدر ما
هو دعوة لفهم ضرورة التغيير..
الكتاب غني بالمعلومات،
وكأنه وثيقة متكاملة وصفت أحداث القرن لماضي، بتحليل سياسي ناضج.. وقد تذكر
الأجيال القادمة إذا ما نجحت في النهوض والتحرر أن إياد برغوثي بكتابه هذا كان قد
أطلق صافرة البدء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق