قبل ثلاثين سنة بالتمام والكمال، وفي الشهر الأخير من العام 1991، تفاجأ العالم على خبر اختفاء ثاني أقوى دولة في العالم، الدولة التي لا يعرفها أغلب أبناء الجيل الجديد، رغم أن الخبر كان متوقعا حينها للمراقبين المختصين، إلا أن سرعة حدوثه كانت مفاجأة صادمة.. دولة مساحتها 22 مليون كلم2، بترسانة نووية، وجيش عرمرم، ونظام مركزي متشدد، وبموارد وقدرات تفوق الخيال، تضم خيرة علماء وفلاسفة وأدباء وفناني ورياضيي العالم.. بين يوم وليلة تتفكك وتنهار!
بانهيار الاتحاد السوفيتي ظهر
على الخارطة السياسية على الفور 16 دولة، كانت تلك أولى نتائج الزلزال السياسي
المدمر، أما هزاته الارتدادية فقد شملت معظم أنحاء الكوكب، ويمكن القول أنها شكلت نظاما
عالميا جديدا.. وحدّدت مسارات القرن الواحد والعشرين وملامحه الرئيسة.
وبهذا الانهيار الكارثي
انتهت الحرب الباردة لصالح الخصم اللدود أمريكا، ونشأ نظام القطب الواحد، الذي بدأ
يتغير تدريجيا مع ظهور الاتحاد الأوروبي، وبروز الصين كقوة اقتصادية عملاقة، ونشوء
تكتلات سياسية جديدة في أمريكا الجنوبية، وآسيا، ومن ثم عودة روسيا من جديد (وريثة
الاتحاد) كقوة عالمية.
ومن أبرز توابع الزلزال
السوفيتي تشظي يوغوسلافيا إلى سبع دول، بعد سلسلة حروب أهلية طاحنة، وتفكك تشيكوسلوفاكيا
إلى دولتين، وكذلك الصومال، واقتناع الغرب بانتهاء الدور الوظيفي لنظام الأبارتهيد
في جنوب أفريقيا، ومن قبلها تصفية أنظمة روديسيا وناميبيا. ومن جانب آخر أدى إلى توحيد ألمانيا واليمن. وإلى إيقاف الحرب الأهلية
في لبنان.
كما أدى إلى نشوب سلسلة
حروب بين أذربيجان وأرمينيا، وبين روسيا وجوجيا، وأوكرانيا، وحرباً داخلية في
الشيشان، وتجدد الحروب الأهلية في أفغانستان.. والحرب الأهم التحالف الثلاثيني على
العراق، في حرب الخليج الأولى.
وبانهيار الاتحاد لم تعد
أوروبا مهمة لواشنطن كما كانت في فترة الحرب الباردة بوصفها أرضاً للمجابهة مع
موسكو. والأهم أن أمريكا فقدت أهم مبرر لسياساتها الخارجية العدوانية، لكنها وجدت
ضالتها في إيجاد "بعبع" آخر، أسمته "الإرهاب الإسلامي"، والذي
ستشكل "مكافحته" عماد الإستراتيجية الأمريكية في العقود التالية.
والمفارقة أن النظم والجماعات التي كانت حليفتها في الحرب الباردة، ستصبح هي
العدو.
وبالعودة سنتين إلى
الوراء، أي فترة احتضار الاتحاد، سنجد أن المنظومة الاشتراكية قد بدأت تتهاوى دولة
إثر أخرى، إلى أن اختفى حلف وارسو كليا..
كل تلك الحروب والأحداث وتداعياتها
التي ما زالت مستمرة حتى الآن، لم يكن لها أن تحدث لولا انهيار الاتحاد السوفيتي،
أو أنها كانت ستتخذ مسارات مختلفة كليا.. ليس في عالم السياسة أقدارا محتومة، ولا
مصادفات، ولا مؤامرات على هذا القدر من الحجم والتأثير..
الآن، وقد عرفنا أبرز
نتائج الانهيار، لنتعرف على أبرز أسبابه.
لنبدأ بالعوامل الخارجية،
والتي من أهمها استنزاف القدرات السوفييتية في سباق التسلح مع أمريكا، والذي أدى
إلى اختلال التوازن الدولي لمصلحة أميريكا في مستهل الثمانينيات، مع إطلاقها
"حرب النجوم"، التي أدت لكسر معادلة الردع النووي الذي قامت عليه معادلة
الحرب الباردة، وقد أدى هذا المسار إلى تفرغ الاتحاد للصناعات الحربية، والصناعات
الثقيلة (وقد أحرز تفوقا باهرا)، وتخلفه في مجالات الصناعات الاستهلاكية والتكنولوجية،
فبينما كان العالم الغربي يتحضر لثورة المعلوماتية والاتصالات في عقد الثمانينيات،
كان يقود الاتحاد "بريجنيف" بعقلية نمطية تقليدية. وفي هذا العقد تعاقب ثلاثة
رؤساء للحزب الشيوعي، بنفس العقلية، ثم تورط الاتحاد في المستنقع الأفغاني.. ولو
كان الاتحاد معافى داخليا، لأمكن له ابتلاع الهزيمة، والتفرغ للشأن الداخلي، أو
لحروب أخرى، كما فعلت أمريكا بعد هزيمتها في فيتنام.
أما العوامل الداخلية،
والتي يرجح أغلب الخبراء أنها كانت السبب الرئيس في الانهيار، فحسب بعض هؤلاء كان
الاتحاد يحمل عوامل تفككه وانهياره منذ لحظة ولادته، ويقصدون بذلك طوباوية
الشعارات والأهداف الشيوعية، أو أنَّ تبني الاشتراكية "اللينينية" كان
متسرعا، ولم يسبقه نضوج الرأسمالية، وبلوغها ذروة أزمتها، كما تنبأ ماركس وأنجلس
من قبل.
باعتقادي أن عامل التفكيك
الأقرب إلى الصواب، تمثل في سوء تطبيق النظرية، أي تبني نظام الحزب الواحد، والتفرد
بالسلطة، والتسلط، والاستبداد، ومصادرة الحريات الشخصية، وخنق المبادرات الفردية
الإبداعية، والبيروقراطية الثقيلة (التي تسببت بكارثة تشيرنوبل).
ما فعله لينين وستالين لم
يكن سوى عملية تمدين وتحديث للاتحاد السوفياتي، وتطوير قطاعات الصناعة والتقنية،
ولكن عبر استبدال رأسمالية القطاع الخاص بنموذج "رأسمالية الدولة"، وبالتالي
ظهور قوى إنتاج جديدة في المجتمع السوفييتي استبدلت قيود وتوحش الرأسمالية بقيود
واستبداد نظام الحزب الواحد.
لكن خطايا ستالين الأخطر
والأهم سلسلة المذابح والمجاعات والإعدامات التي حصلت في عهده، والتي راح ضحيتها
الملايين.. فهذه العقلية الأمنية الاستبدادية خلقت أجواء مرضية شملت كل الجسد
السوفيتيي، كان على كل مواطن أن يبرهن على ولائه للحزب وللزعيم الأوحد، وأن يسحق
ويقصي الآخرين، بالتملق والتقارير الكيدية، لكي يترقى في الحزب والسلطة، بل
وأحيانا حتى يعيش! (راجع مقالتي: مأساة عالم نبات، الأيام 22-7-2020).
وفي وصف هذه الحالة كتب الدكتور فضل عاشور (وهو خريج
الاتحاد السوفيتي): "بعد أن قضت آلة العنف الجهنمية على الملايين من أعداء
الحزب والشعب (الوهميين)، حتى لم يعد يُسمع صوت معارض، وقد صمت جميع الناس.. صارت
النار تأكل القامعين أنفسهم، لم يعد أحد مهما علا شأنه إلا ويشعر بالخوف على مصيره،
حتى ساد جنون الشك والارتياب، ولم يعد أحد يثق بالآخر، وبذلك طال العنف أكثر مما
يمكن تحمله، بتكلفة إنسانية باهظة، تجاوزت حجم أحلام الأيديولوجيات الخلاصية.. وبعد
ستالين خفت حدة آلة القمع، ولكن، لم يكن ممكنا إيقافها، حتى من رأس الدولة.. صار
الحزب أقوى من المجتمع، ومؤسسات الأمن أقوى من الجميع، وظل هذا الوضع راكدا
ومسيطرا، ومدمرا.. حتى ظهرت قوة تغيير غير متوقعة، من الشيوعيين أنفسهم، فقد شعروا
بالملل، ومن غياب الجدوى من استمرار قبضتهم الأمنية، والتي شلت أشكال الحياة،
وصارت تكلفتها عالية جدا، ستطالهم، هم وأبنائهم، وأحفادهم، وأصدقائهم.. وهكذا،
انهزموا طوعيا.. بعد أن كانت هزيمتهم على يد قوة خارجية شبه مستحيلة، إنه مكر
التاريخ".
لكن الفعل الأخير والأبرز
تم على يد غورباتشوف، فقد بدأ بسياسة "الغلاسنوسنت"، أي المكاشفة
والمصارحة، والتي تسببت باهتزاز داخلي في القيادة السوفياتية، الأمر الذي شجعه على
تبني "البيريسترويكا"، أي الهدم وإعادة البناء، لكنه هَدَمَ ولم يحاول
حتى البدء بأي بناء، بل مواصلة الهدم، ما أتاح للقوى الاجتماعية الجديدة في
المجتمعات السوفيتية أن تبرز بقوة، بعد فترة قمع وكبت طويلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق