الرقائق الإلكترونية، أو أشباه الموصلات هي دماغ أي جهاز إلكتروني حديث.. حجمها صغير جدا، بعضها بحجم حبة العدس، وبعضها كرأس الدبوس.. تكلفتها قد لا تتجاوز الدولار الواحد، وتدخل في جميع الصناعات الحديثة دون استثناء، وبدونها سيتحول جهاز متطور سعره مليون دولار إلى منضدة طعام، وأغلى سيارة تصبح كومة حديد، والهاتف النقال يغدو مجرد قطعة بلاستيك..
مع
بدايات هذا العام بدأت أزمة نقص الرقائق الإلكترونية، وهي أزمة متدحرجة ستوصل
العالم الصناعي إلى حافة مجاعة إلكترونية.. وأسبابها عديدة متداخلة، ومن الواضح أن
كوفيد 19 كان له أثرا كبيرا، حيث فرضت أجواء الحظر المنزلي على الناس في مختلف أنحاء
العالم الالتزام في بيوتها، الأمر الذي دفعهم للبحث عن وسائل ترفيه وتسلية، فبلغت أرقام
مبيعات الأجهزة الإلكترونية معدلات فلكية، فاقت قدرة المصنعين على مجاراتها؛ فخلال
العام الماضي 2020 بيع نحو 225 مليون شاشة تلفزيون، و 1.4 مليار هاتف ذكي، وحوالي
17 مليون من أجهزة ألعاب الفيديو..
ومع زيادة الطلب على هذا النوع من الأجهزة، زاد
الطلب على الرقائق الإلكترونية بسنبة 18%.. لكن مصنعي الرقائق لم يعودوا قادرين
على تزويد السوق العالمي باحتياجاته من هذه السلعة، التي غدت أهم سلعة في العالم،
ونقصها ينذر بخسائر اقتصادية هائلة جدا، فعلى سبيل المثال شركة "سامسونج"
وهي واحدة من أكبر منتجي الرقائق والأجهزة الإلكترونية في العالم، تتوقع حدوث أزمة
خطيرة خلال الربع الثاني من العام الحالي بسبب نقص إمدادات الرقائق.
الصين، وهي أكبر مستهلك لأشباه الموصلات في العالم، إنتاجها
المحلي منها قليل جدا، لكنها أخذت احتياطاتها منذ العام الماضي، وهذا بحد ذاته كان
من أسباب الأزمة العالمية.. في الولايات المتحدة اجتمع كبار مسؤولي البيت الأبيض
المعنيين بالاقتصاد والأمن القومي مع كبار المصنعين لتدارس الأزمة، والبحث عن حلول
لمساعدة قطاع صناعة السيارات التي توشك على التوقف بسبب النقص المتزايد في الرقائق
الإلكتروينة، الأمر الذي أجبر كبريات شركات إنتاج السيارات على تقليص إنتاجها. وقد
أجرت حكومات دول أوروبية عديدة اتصالات مع تايوان لحثها على تزويدهم بهذه السلعة..
وحسب
برنامج "المخبر الاقتصادي" والذي أعده أشرف إبراهيم، يبلغ حجم صناعة
الرقائق الإلكترونية في العالم نحو 500 مليار دولار سنويا، وتعتبر تايوان أهم منتج
لها في العالم، بحصة تبلغ نحو 74% من حجم الإنتاج العالمي، وأكبر منتج لها هي شركة
tsmc
التايوانية، ثم تأتي شركة سامسونج الكورية بحصة 18%،
ثم الشركات الأمريكية بحصة 7%.. وصناعة الرقائق تحتاج استثمارات بمليارات
الدولارات، وعشرات السنوات من البحث والتطوير، لذا ليس من السهل على أية دولة
الاستثمار في هذا المجال، وعادة تقوم الشركات الصناعية الكبرى بصناعة الجهاز، أو
الماكينة، أو السيارة.. وتترك الرقائق لأصحابها، فتستوردها منهم حسب الطلب. فمثلا حتى
سامسونج، عملاق الصناعات الإلكترونية تصنّع أنواعا محددة من الرقائق، وتستورد
الباقي من تايوان..
أما
عن أسباب الأزمة، فأهمها جائحة كورونا، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، كما
ذكرنا آنفا.. فهذه الأزمة مثلا تسببت بقلة الطلب على السيارات، فالناس ملتزمة في بيوتها، ما دفع مصانع
السيارات إلى تخفيض إنتاجها، وبالتالي قامت بإيقاف طلبيات الرقائق التي كانت
مبرمجة سابقا.. ولكن في النصف الثاني من 2020 بدأ الطلب على السيارات يرتفع من
جديد، فأعادت المصانع الطلب من مصنعي الرقائق لتزويدهم بها، ولكن بعد فوات الأوان..
فهذه الشركات صارت بالكاد قادرة على تلبية طلبات شركات الهواتف الذكية، والتي
تعتبر أكثر ربحا مقارنة بغيرها، فأعطوها الأولوية، خاصة إذا علمنا أن شركات السيارات تستهلك 3% من إنتاج مصانع
الرقائق بقيمة 37 مليار دولار، بينما شركات
الهواتف الذكية تستهلك 48%، بقيمة أكبر بكثير، فشركة "أبل" لوحدها تشتري
ما قيمته 56 مليار دولار سنويا من الرقائق،
أما سامسونح فتشتري بقيمة 36 مليار دولار سنويا.
السبب
الثاني بدء إنتاج هواتف ذكية من الجيل الخامس، وتقنيات الإنترنت للجيل الخامس تحتاج
عدد أكبر من الرقائق، وبما أن الصين الرائدة في هذه التقنية، فقد قامت أثناء الحرب
التجارية مع أمريكا في عهد ترامب بشراء كميات هائلة من الرقائق وتخزينها، كاحتياطات
إستراتيجية لصالح شركة هاواوي ( بقيمة 380 مليار دولار).
في
ولاية تكساس الأمريكية، تسببت عواصف قوية بقطع التيار الكهربائي، مما تسبب بأعطال
في شركات إنتاج الرقائق الإلكترونية، حتى أنها اصظرت لإغلاقها، وبالتالي تفاقمت أزمة
توفير الرقائق.. وبطبيعة الحال، المصائب لا تأتي فرادى.. فقد تعرضت شركة رينيساس
اليابانية لحريق، تسبب بإيقافها بالكامل، وهذا المصنع متخصص فقط برقائق السيارات،
ويغطي نحو ثلث انتاج العالم.. الكارثة الأخرى حدثت في تايوان، معقل هذه الصناعة،
فقد تعرضت لموجة جفاف غير مسبوقة، وبما أن صناعة الرقائق تتطلب كميات وفيرة من
المياه، اضطرت الشركات لتخفيض إنتاجها.
مع
تفاقم هذه الأزمة، ستُجبر شركات الهواتف الذكية وألعاب الفيديو على تخفيض إنتاجها،
وتأخير المواعيد التي كانت معدة لطرح إصداراتها الجديدة والأحدث في الأسواق.. أما
شركات السيارات فمصيبتها أكبر، وقد بدأت بالفعل كبريات الشركات بإغلاق مصامع فرعية
في العديد من الدول، وإيقاف خطوط إنتاج، وتأخير تسليم دفعات.. وتقدر خسائرها حتى الآن
بنحو 60 مليار دولار.. وللعلم، السيارة العادية الحديثة تحتوي على نحو ألف رقاقة إلكترونية،
بينما السيارة الكهربائية تحتاج نحو ثلاثة آلاف رقاقة.
المشكلة،
أن هذه الأزمة ستؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، وبالتالي زيادة الأسعار.. والمستهلك
دوما هو من يتحمل تبعات أي أزمة، بينما أصحاب رؤوس الأموال ينزعجون فقط من تأخر أرباحهم،
أو انخفاضها عن المستوى المأمول..
على
أية حال، هذه مجرد أزمة، وبتعدي، لكنها تعطينا فكرة عن طبيعة أزمات المستقبل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق