36
قائمة تقدمت للانتخابات، تضم نحو ألفي مرشح. يقول البعض أن هذا الرقم كبير، ودليل
فوضى وعنوان لأزمة، وتسابق محموم على المناصب والامتيازات.. ومن وجهة نظري، هذه
ظاهرة صحية، والعدد طبيعي جدا، وكنت سأصاب بخيبة أمل لو كان العدد أقل من ذلك..
صحيح
أن المجتمع الفلسطيني لا ينطوي على تعدديات إثنية وطائفية ولغوية، وهو مجتمع غير
طبقي (بالمفهوم الماركسي)، وفوق ذلك يرزخ تحت الاحتلال، وبالتالي من المفترض ألا
تظهر فيه تناقضات رئيسية بين فئاته وشرائحه وطبقاته، وأن يكون تناقضه الرئيس مع
الاحتلال.. لكنه مجتمع طبيعي، وبالتالي من الطبيعي أن تظهر فيه رؤى وتيارات وأحزاب
مختلفة ومتباينة في أطروحاتها، سواء في مواجهة الاحتلال (العدو المركزي)، أم في
شؤون حياته العادية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية..
لذا
من السذاجة أن نقول أننا متفقون وطنيا وليس هناك مشاكل أو اختلافات.. فبنظرة سريعة
على واقعنا، سنجد اختلافات وتناقضات على أكثر من مستوى، تناقضات داخل الحركة
الوطنية نفسها، بما فيها تناقضات داخل اليسار، وتناقضات داخل الحركات الإسلامية..
بدليل وجود عشرات الأحزاب والفصائل والتيارات الفكرية والسياسية.. ومع انطلاقة
الانتخابات أضيف إليها الحراكات الشبابية، وحراكات المستقلين، والعشائر.. والتي
عبرت عنها 36 قائمة.
وهذا
مبرر الديمقراطية، وسبب وجود الانتخابات.. أي ليعرف كل حزب أو فصيل حجمه الحقيقي
في المجتمع، ومدى تأثيره في الحياة السياسية، بحيث يكون الحكم والقرار بيد الشعب،
وبإرادته الحرة الواعية.. فالانتخابات تجري عادة بين جهات مختلفة، فلو كان الجميع
متفقون لانتفت الحاجة للانتخابات. وهذا جوهر العملية الديمقراطية.
إذاً،
من حق كل مواطن أن يعبر عن رأيه، وأن يختار القائمة التي تمثله، وينسجم مع
أطروحاتها، والصندوق هو الذي سيفرز، ويقرر، ويحكم بين المتنافسين.. ومن حق كل شخص
أن يدافع عن جماعته، ويروج لها، وأن ينتقد برامج الغير، ولكن دون المساس بالحياة
الشخصية للمرشحين، ودون تنمر، ومن يبني دعايته بتصيد أخطاء الآخرين، يسيئ لنفسه،
وسيخسر.
صحيح
أن عددا كبيرا من المرشحين يبحثون عن مجد شخصي ومكتسبات وامتيازات.. ولكن من
السذاجة الاعتقاد أن الجميع كذلك، فبالتأكيد هنالك أشخاص مخلصون يريدون التغيير،
ويريدون خدمة مجتمعهم وقضيتهم، وليس لنا إلا أن نحكم على الظاهر دون أن نفتش في
القلوب والنوايا..
الانتخابات
وسيلة ناجعة لتسريع التغيير المجتمعي، ونقله من مرحلة إلى أخرى، من المفترض أن
تكون أكثر تطورا، فهي تُحدث تغييرا في الوعي المجتمعي، وتزلزل بعض القناعات
المتوارثة، والأطروحات التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل الحداثة.. تماما كما تفعل
الحروب، ونضالات المفكرين والطلائعيين.. هذه الانتخابات تحديدا، ستجري وفق نظام
القوائم.. ما يعني أن الأطروحات الفكرية والبرامج السياسية هي المعيار والأساس..
وهذا من شأنه أن يخلخل التركيبة القبلية، ويضعفها.. (أو على الأقل نرجو ذلك) دون أن
نغفل عن وجود قوائم عشائرية، وهذه فرصة لأن نفكر ونتصرف لأول مرة بعقلية حداثية
غير عشائرية..
لكن
الانتخابات ستكشف أن العقلية العشائرية ما زالت تختبئ داخل الحزب، كما لاحظنا حين
صارت تهدد كل بلدة أو منطقة بمقاطعة الانتخابات، أو انتخاب جهة منافسة لأن الحركة
التي ينتمون إليها لم تضم في قائمتها ممثلاً عن تلك البلدة!! كما ستكشف الأنانية
والشخصنة ووهم التفوق للذين سيعادون أحزابهم لأنها لم تختارهم في قائمتها.
والانتخابات
أيضا تكشف زيف بعض الأطروحات التي طالما انطلت على البعض لفترات طويلة.. وأهمها عدم
التمييز والتفريق بين الإسلام بوصفه دين وعقيدة، وبين الإسلام السياسي بوصفه تيارا
سياسيا يوظف الدين لخدمة مصالحه وتوجهاته وللظفر بالسلطة.. أي بصفته الحقيقية،
كممارسات وتجارب واجتهادات بشرية لأناس عاديين، فهموا الدين بطريقتهم الخاصة،
وأرادوا الاستفادة منه بما يخدم توجهاتهم الحزبية، فحولوه من دين إلى أيديولوجيا.
هذا
كان واضحا، حين استغل الكثيرين تصريحات الأخ ناصر القدوة بشأن التناقض مع الإسلام
السياسي! الناس تعرف الفرق الكبير بين الإسلام، والإسلام السياسي.. لكن النخب
الحزبية من التيار الإسلاموي، استغلت التصريح بطريقة غير صادقة، فزعمت أنها تمثل الإسلام،
وأن من ينتقدها إنما ينتقد الإسلام!! لدرجة أن البعض أنكر وجود شيء اسمه الإسلام
السياسي.. فلو كان هذا صحيحا، وطالما أن الإسلام واحد فكيف نفسر التناقضات الرهيبة
بين مختلف التيارات الإسلاموية، والتي تتجاوز العشرات، وتختلف فيما بينها لدرجة
التحارب، وكل حزب منهم يدعي التمثيل الحصري للإسلام الصحيح!
عباس
منصور حليف نتنياهو يمثل تيارا إسلاميا إخوانيا، حزب العدالة الإسلامي المغربي
يؤيد ويبارك التطبيع، وهو أيضا يمثل تيارا إسلاميا إخوانيا.. داعش والقاعدة
وشبيهاتها تمثل تيارات إسلامية، مقابل الصوفيين والتنويريين والمعتدلين
الإسلاميين، حزب النور المؤيد للسيسي، والإخوان المناهضون له يمثلون تيارات
إسلامية، حماس والجهاد وحزب التحرير حركات إسلامية، ولكل منها موقف متناقض من
الانتخابات ومن النظام السياسي الفلسطيني برمته.. وهناك ما لا حصر من التبايانات
والاختلافات والتناقضات داخل الحركات والتيارات الإسلامية.
ومن
السذاجة الاعتقاد أن تيارات الإسلام السياسي على اختلاف تنويعاتها هي بمجملها من
تمثل الإسلام حصرا.. فالأغلبية الساحقة من المسلمين لا ينتمون لأي حزب، وهم
متدينون بالفطرة، وستجد فيهم كل التنويعات الفكرية والسياسية: الليبرالية
والعلمانية واليسارية والوطنية والقومية والمدنية والقبلية، المعتدلة والمتشددة،
والمتدينة بطبيعة الحال..
من
طبيعة البشر الاختلاف والتنوع، ولحسن الحظ فقد أوجدت الحضارة الإنسانية عبر مسلسل
تطورها التاريخي صيغ ونظم تضمن إدارة هذه الاختلافات، بشكل يؤمّن حقوق الجميع
بعدالة نسبية.. ومع ذلك سنشهد إرباكات وأشكال من الفوضى والتخبط، فهذا شيء متوقع
نتيجة غياب الممارسة الديمقراطية لفترة طويلة.. وعندما تنتظم الدورات الانتخابية
سنتعلم أكثر، وسنختار بشكل أوعى، وسنتوقف عن انتخاب جماعة ما نكاية بجماعة أخرى،
أو عقابا لها، كما حدث في الانتخابات السابقة.. فالمجتمعات المتطورة تختار فقط من
تراه مناسبا وتؤمن بأطروحاته وتقتنع ببرنامجه.. لا بمعيار الخصومة والمناكفة
والعاطفة..
وهذا
التنوع والتعدد في القوائم الانتخابية يثري التعددية الفكرية، ويكسر حالة
الاستقطاب المستفحلة بين فصيلين فقط، ويعمق القيم الديمقراطية، وسيعزز قدرة البرلمان
للحد من تغوّل السلطة التنفيذية، ومكافحة الفساد، والإسهام في عملية الإصلاح
المنشودة، وسيمنع أي حزب من التفرد في التشريع وإدارة الحياة السياسية.
وبالتوفيق
لجميع القوائم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق