متعة الوهم
من
منا لم يحلم في يقظته؟ قبل استسلامنا للنوم، أو خلال مشينا، أو أثناء جلوسنا لساعات
ونحن نحدق في المدى.. أحلام اليقظة حيلة ابتدعها الدماغ للتغلب على الواقع،
وتجاوزه.. للخروج من الأزمات التي تحيط بنا من كل جانب، للعيش في عوالم جديدة،
نرغب في تجربتها، نختارها وفق أهوائنا وتمنياتنا، نعيش أثناءها في واقع افتراضي
متخيل، بالشروط والملابسات المريحة والمحببة.. ومع استغراقنا في الحلم الوردي،
نختبر أدق التفاصيل، ونرسم سيناريوهات عديدة، نهزم أعداءنا، ونسحقهم، نبني قصورا،
ونزرع حولها البساتين، نتغلب على الصعاب، نجتمع مع أحبة نشتاق إليهم بشدة، نسافر إلى
أقاصي الأرض..
والتخيل
لا يقتصر على الأحلام، فمثلا في ألعاب الفيديو نبني المزرعة السعيدة، ونشيد قلاعا
منيعة، ونحتل جزرا وأراض شاسعة، ونسحق أعداءنا بلا رحمة، نشفي غليلنا، ونخرّج
الغضب المكبوت في دواخلنا، ونعوض كل خساراتنا، ونثأر من كل من قهرنا.. ونصبح
رياضيين بارعين، ومغامرين أبطال..
وحين
نشاهد فيلما، نتابع بشغف تطور الأحداث، نُعجب بحركات البطل الخارقة، نكره شخصية
الشرير، ونفرح بمقتله، نحبس أنفاسنا ونحن نراقب خبير المتفجرات وهو يفكك قنبلة
موقوتة، فينجح في مهمته المستحيلة قبل موعد تفجرها بثانية واحدة، وطالما بكينا على
النهايات المفجعة والمأساوية.. ونحن مدركين أن بطل الفيلم الخارق قام بدوره ممثل
رياضي بديل، والشخص الشرير نفسه سنحبه في فيلم آخر إذا أدى دور الطيب، وكل من
ماتوا في الفيلم هم أحياء عند المنتج يقبضون..
وحين
نقرأ رواية، نتفاعل مع الأحداث والشخصيات، نحزن، ونبتهج، ونتعاطف، وننحاز، وربما
نشهق بكاء.. مع أن كل الشخصيات خيالية، والأحداث جرت على صفحات الرواية فقط.. والتي
بعد الانتهاء منها، سندسها بين الكتب على الرف، لننساها، أو لتعيش في ذاكرتنا أمدا
معينا.
أحيانا
تكون الدعايات التجارية أكثر تأثيرا.. أشاهد دعاية لآلة رياضية تزيل الكرش، فأفرح
بمشهد عضلات المعدة المشدودة لشاب ممشوق القوام.. أتخيل أنني اشتريت الآلة، فخلصتني
من الكرش والترهل.. وأنا حقيقة لا أغادر الكنبة، إلا إلى المطبخ لتناول ما أعددته
للسهرة.. أتابع باهتمام دعاية لمعدات التخييم؛ كشاف قوي، خنجر مسنون، خيمة تتحمل
الرياح، بندقية صيد.. فأتخيل نفسي في غابة مطيرة، أجلس على مدخل الخيمة، وأشوي على
نار هادئة ما قمت بصيده بعد مغامرة خطيرة.. وأنا أعلم يقينا أن نابلس أو أريحا هي أقصى
مكان يمكن لي أن أصله في رحلة آمنة مع الأولاد.
أشاهد
دعاية لآخر إصدارات مرسيدس، لأستكشف آخر المحسنات التي أضافوها للسيارة، أتابع
بشغف التقنيات التكنولوجية الحديثة والمستشعرات الحساسة، ونوع الإطارات، وخامة جلد
المقاعد، وقوة البريك، وحجم المحرك، أريده بقوة 500 حصان.. والأهم معرفة سعر
السيارة، وأنا متيقن أني لن اقدر على شرائها، حتى لو بعت كل ما أملك..
في
كل مرة ما أن ننتهي من لعبة الطرنيب بهزيمة ساحقة للفريق المنافس، حتى أقفز مع
شريكي فرحا، وإذا كان الخصم عنيدا، لا نكتفي بالقفز، بل نبدأ برقصة الانتصار
والشماتة، ثم نبدأ بالاتصال مع أصدقاء غابوا عن السهرة، لنعلمهم بنصرنا المؤزر، وننام
ليلتها فرحين منتشين بفوزنا المستحق.. بينما الحياة من حولنا أذاقتنا عشرات
الهزائم المنكرة..
ذات
مرة، كنت متجها إلى وسط البلد بهدف التسوق، وصلت دوار المنارة، فوجدت القوى
الوطنية تعد العدة لمسيرة جماهيرية غاضبة، وقد نصبتْ سماعات ضخمة، تردد أغاني
العاصفة "طل سلاحي من جراحي"، "طالعلك يا عدوي طالع".. شعرت
بحماسة طاغية، وبدأ الدم يثور في عروقي، ولكني واصلت مسيري حتى وصلت "الحسبة"،
والأغاني الثورية ما زالت تجتاح صدري، وتلهب مشاعري، أحسست بدنو المعركة، وأن
النصر وشيك، وتخيلت نفسي وسط المواجهات، وأنا في حقيقة الأمر أنتقي الحبات الصغيرة
والطازجة من الخيار، وأضعها في الكيس، وأفاصل على سعر البطاطا، وعيني على ثمار
المانجا الشهية..
في
السجن، قبل موعد المحكمة بأسبوع أخبرنا المحامي أن الحكم المتوقع قد يصل إلى سبع
سنوات، طوال الأسبوع وأنا أذرع الزنزانة جيئة وذهابا، أتخيل نفسي على شاطئ رملي نظيف
في جزر المالديف، أراقب بنهم لابسات البكيني، وأسأل النادل بعصبية عن أسباب تأخره
في جلب وجبة المشاوي الساخنة.. ثم أسافر في اليوم التالي إلى كوخي الخشبي، عند أطراف
غابات كندا، أشاهد نفسي وأنا أقطّع كومات الحطب التي ستمدني بدفء لذيذ أثناء
العاصفة الثلجية المرتقبة..
أحلام
اليقظة، ومتعة الوهم مفيدة عندما تكون على المستوى الفردي، أحيانا تمنح الأمل، وتشحذ
الهمم، وقد تكون ضرورية لتجاوز الظروف المحيطة والصعبة.. شريطة ألا تكون بديلا عن
التفكير والتخطيط والعمل والمثابرة.. لكنها عند المستوى الجمعي تصبح مدمرة، وضارة..
الناس عادة يحبون الأوهام، لأنها مريحة، ويتجنبون الحقائق لأنها مُـرة.. يصدقون
الخرافات، لأنها تتناسب مع مستواهم المعرفي، وتعفيهم من مشقة التفكير، ومن تبعات
التوصل إلى نتائج صادمة.. الشعوب لا يجب أن تحلم، بل أن تخطط، وتصوغ البرامج والإستراتيجيات،
وتناضل، وتضحي، وتقترح الحلول والبدائل..
نحن
كأمة عربية نستمتع جدا بالحديث عن ماضينا التليد، وأمجادنا العظيمة، وبطولاتنا
الباسلة، وانتصاراتنا المؤزرة (هذا إذا اتفقنا على وجودها)، وهذا العيش في الماضي،
والاستغراق اللذيذ فيه ينسينا واقعنا الأليم، ويجعلنا مشدودين بأحبال التاريخ وأوتاده،
فنصبح مفارقين للواقع الحقيقي، ومنفصلين عن الحاضر تماما، فلا نستطيع التقدم.. ولا
التخطيط للمستقبل..
وبما
أننا على أبواب الانتخابات، وقد ظهرت القوائم الانتخابية (ولحسن الحظ لا يوجد
ترشيح أشخاص)، ولدى كل قائمة برنامج متكامل، سنقرأ فيه تفاصيل التحرر من الاحتلال،
وتصفية مخلفات أوسلو، وإقامة دولة حرة بمواصفات استثنائية، وتأسيس نظام قضائي في
منتهى العدالة، وسنسمع وعودا بالقضاء على الفساد، والبطالة.. ووعودا أخرى بتصعيد
المقاومة، وزلزلة الأرض من تحت أقدام العدو، والعودة إلى يافا، وربما وعودا بهزيمة
أمريكا والإمبريالية.. وحتى فتح روما.. ومن دون شك، كل شخص منا سيصدق وعود القائمة
التي يحبها أصلا، القائمة التي ينتمي إليها، أو ينحاز لها مسبقا.. مع علمنا جميعا أنها
مجرد وعود، لا تختلف كثيرا عن أحلام اليقظة، نستمتع بها كما نستمتع بمتابعة دعايات
المرسيدس.
ودوما، ستجد تجارا من كل نوع، يبيعونك ما تحبه من أوهام..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق