أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 05، 2021

سلوكيات

 لكل مجتمع ثقافته وعاداته، بعضها سيء، وبعضها جيد، ومن الخطأ التعميم، ولكن هنالك دوما مظاهر وسلوكيات معينة تشكل تيارا عاما، يمارسها أغلب الناس، وبعضها بالكاد تلحظها، وتمثلها أقلية ضئيلة.. الصفات العامة المشتركة يمكنك ملاحظتها في أول خمس دقائق من زيارتك للبلد، وما دون ذلك ستحتاج للإقامة في البلد فترة طويلة والاحتكاك بالناس حتى تتعرف على صفات جديدة لم تكن ظاهرة بوضوح، وستميز حينها بدقة أكبر بين ما هو شائع وعادي ومقبول (بما في ذلك الممارسات الخاطئة والسلبية) وبين ما هو غير شائع، ومدان (على الأقل من الناحية النظرية)..

لنطبق هذه النظرية، ولنجرب الدخول في أي بلد عربي.. في الدقائق الأولى ومن خلال أول مشوار في شوارع البلد ستلحظ العديد من مظاهر الفوضى: "زوامير" السيارات، عدم احترام قوانين المرور، عبور المشاة من أي مكان، الصراخ، التحرش بالفتيات، وقد تشاهد "طوشة"، أو ترى أم تصفع ابنتها الطفلة وتعنفها وتصرخ في وجهها، أو سائق يتوقف في منتصف الطريق ليتبادل الحديث مع صديق مر بالصدفة، أو صاحب محل كدس نصف بضاعته على الرصيف، وإذا مشيت في الحواري والحارات قد تجد مجاري مكشوفة، وأكوام الزبالة مكومة قرب الحاوية، أو قط مدعوس، الناس يلقون نفاياتهم على الرصيف، بما في ذلك أصحاب المركبات الغالية والحديثة، الحمامات العامة (إن وجدت) ستجدها قذرة، وغير صالحة للاستعمال الآدمي، بما في ذلك حمامات المساجد، وعلى مدخل المسجد سترى السيارات مصطفة بشكل فوضوي، وتغلق الطريق، وعند بابه ستجد معرض أحذية ولكنه غير مرتب (بينما داخل المسجد ستجد النظافة والهدوء والمصلين مصطفين بكل نظام!). وقد تُصدم حين تكتشف أن النظامة منعدمة حتى في بعض المستشفيات.

وإذا أتيحت لك فرصة زيارة أحد البيوت، ستجده من الداخل نظيفا مرتبا، ولكنك ستجد محيط البيت على عكس ذلك، حتى لو كان قصرا، فالناس تهتم بنظافتها الشخصية، وداخل منازلها، أما الخارج، حتى لو على بعد متر من المنزل فلا يعنيهم بشيء!

أما إذا كان مضيفك يسكن في شقة ضمن عمارة، فستسمع منه شكاوى التخلف عن دفع مستحقات المصعد، وأجرة تنظيف بيت الدرج، وإلقاء النفايات على سكان الطابق الأرضي، وصوت التلفزيون المرتفع في آخر الليل، والخلاف على موقف السيارة..

وإذا زرت حديقة عامة ستجد كل أنواع النفايات موزعة بين الورود والشجيرات: أعقاب السجائر، كاسات القهوة، عبوات العصير، وأكياس الشيبس، ومخلفات الشواء.. ويافطات مكتوب عليها "النظافة من الإيمان".

وإذا ركبت "تاكسي"، قد يعرض عليك السائق "خدمات سياحية"، أو يسمعك محاضرة في الأخلاق، وعن انقطاع المطر بسبب ملابس النساء، وقد يفتح المسجل بأعلى صوت، وقد يستغلك بالسعر، خاصة إذا كنت أجنبيا أو مغتربا. وهذا ينطبق على أصحاب المحلات، فلكل نوع من الزبائن أسعارا مختلفة..

بعد الاحتكاك بالناس، ستبدأ سلوكيات أخرى بالظهور؛ ستعرف أن الأغلبية لا تقدر قيمة الوقت، ولا تلتزم في المواعيد، ومن الطبيعي أن يهدر الشخص ساعات طويلة في الثرثرة، بما في ذلك داخل أماكن العمل، وأن يسهر ضيفك عندك حتى منتصف الليل، ومن العادي جدا أن تضيع ساعات في انتظار دورك في البنك، لأن مدير البنك يعرف أن الوقت غير مهم بالنسبة لك. ثم ستعرف أنه من النادر جدا أن يلتزم أي "صنايعي" بموعده.. ومن الوارد جدا أن يغشك.

سترى المجاملات التي تخفي من ورائها حروبا خفية، وأن الكلام الظاهر المعسول يخفي معاني مبطنة ومعاكسة، واليمين المغلط دليل على حجم الكذبة، وأي سلعة معروضة بوسعك أن تشتريها بنصف أو ربع السعر المعروض، وكلمة "إن شاء الله" عبارة عن متلازمة للتسويف والتهرب، والكرم الحاتمي من الممكن جدا أن ينقلب إلى اشتباك بالكلاشنات خلال ساعات.

وسترى التعصب المذهبي والديني، والاعتقاد بالخرافات، والأساطير، والطب الشعبي، والتداوي عند الشيخ لطرد الجن، وستسمع الكل ينتقدون الفساد ويشتمون الفاسدين، لكنهم هم أنفسهم يلجؤون للواسطة، وللمحسوبيات، ويخالفون القوانين، ولا يحترمون النظام، ويتهربون من دفع الضرائب، ويتعدون على الملكيات العامة، ولا يتقنون أعمالهم، بل يتعمدون الغش.. وستعرف أن المجتمعات الشرقية الوحيدة في العالم التي ما زالت تقتل النساء على خلفية ما يدعى بالشرف، وأن القوانين والأعراف تدعم ذلك، ليس لأننا الأشرف والأطهر، بل لأن مفهوم الشرف عندنا غبي ومتخلف ومشوه.

ستكتشف أن مجتمعاتنا الأكثر تمسكا بمظاهر وطقوس الدين، لكنه التدين الشكلي والزائف، التدين الذي يأخذ من الدين ما يناسب الأهواء، ويترك منه مضامينه الأخلاقية والإنسانية الحقيقية.

ستكتشف أن الفرد بإمكانه ان يفعل ما يحلو له، حتى لو كان عيبا، أو حراما، أو مخالفا للقوانين.. المهم ألا يراه أحد، المهم كيف يفعله بعيدا عن أعين الناس، وعن الشرطة، وعن أجهزة الرقابة.. ويسمي ذلك شطارة وفهلوة..

ولكنك في المقابل، ستجد الكثير من الظواهر الإيجابية والحسنة؛ ستجد تماسك الأسرة، وطيبة الناس، وبساطتهم، وكرمهم، ستجد النخوة، والتعاضد المجتمعي، والرضا بالقليل، وحميمية العلاقات، ودفء المشاعر.. فلكل مجتمع حسناته وسيئاته.

وأرجو عدم الوقوع في شباك المقارنات بين المجتمعات العربية والإسلامية من ناحية والمجتمعات الغربية من ناحية ثانية، ذلك لأن لكل مجتمع خصوصياته وسماته وسياقاته التاريخية والسيسيولوجية التي صاغت منظومته الثقافية والأخلاقية وحددت أنماطه السلوكية.. فكما لدينا سلبيات للآخرين سلبياتهم الكثيرة.. ولكن هذا لا يبرر شيء.. فإذا كانت المجتمعات الغربية فيها الكثير من النواقص والعيوب، فهذا لا يبرر سلوكياتنا السلبية، ولا يعطينا أية أفضلية.. والأجدر أن نرى عيوبنا، ومثالبنا، وأن نشتغل على إصلاحها..

ومثل هذه المقاربات ليست جلدا للذات، ولا لمحاكمة أحد، أو الحكم على أيديولوجية أو دين، إنما هي محاولة متواضعة لتشخيص مكامن الخطأ، وأسبابه.. ولنرى صورتنا في مرآة الواقع، دون رتوش، لأن تشخيص المرض بصورة دقيقة هو ما يحدد نجاعة الدواء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق