في
مديرية صحة رام الله، وأثناء انتظاري للحصول على نتيجة فحص الكورونا، كان يقف
قبالتي مواطن خمسيني، يبدو من هيأته فقر الحال، طلب من الموظف الحصول على نتيجة
فحص ابنته (وهي طالبة مدرسية)، لأنه يريد تقريع المديرة لأنها طلبت من ابنته
مغادرة المدرسة والالتزام في البيت، الأمر الذي سبب لها إحراجاً! فرد عليه الموظف
بأنها أجرت الفحص في مديرية صحة القدس، وبالتالي عليك التوجه إلى هناك، لأن
النتيجة عندهم، غضب المواطن، وبدأ يرفع صوته محتدا: من أين لي أجرة المواصلات؟ فرد
عليه الموظف بأنني لا أستطيع فعل شيء لك.. ثم أخبره بأنك أيضا مصاب بالكورونا،
فقال أعرف أني مصاب، ثم رفع الكمامة عن فمه، وبدأ يسعل متعمدا، وكأنه يريد تفريغ
غضبه على من حوله. ثم أخبره الموظف بأن ابنته سواء مصابة أم سليمة عليها أن تلتزم
الحجر المنزلي، فرد عليه المواطن محتجا بأن بيته ضيق، وليس عنده مجال للحجر
والتباعد.. وبعد جدال طويل وعصبي بدأ المواطن يشتم أبو مازن واشتية، ومي الكيلة (بالطبع
الكيلة كان نصيبها من الشتائم جنسي)، إلى أن جاء موظف الأمن وأخرجه بهدوء ودون أن
يلمسه، حتى أوصله الباب..
كنت
أشاهد الموقف وأنا بين مشاعر متضاربة، لكني أشفقت على المواطن، ولم أوجه إليه أي
لوم، وتفهمت دوافع غضبه وحنقه؛ فهو مواطن بسيط، بيته صغير، وربما أنه متعطل عن
العمل، ولا يملك أجرة المواصلات، فوق هذا مبتلى بالكورونا، ومن الطبيعي أن يشعر
بالقلق والذعر، وأن يتصرف بعصبية.. ومع ذلك تصرفاته لم تكن سليمة، فهو يريد نقل
العدوى لغيره من باب الانتقام من فقره ومن مرضه، ويريد نتيجة الفحص من غير مصدرها،
الذي لو توجه إليه لحصل عليها بسهولة.
وفي
يوم آخر، وفي نفس المكان، تكدس عشرات المرضى أمام الموظفة الإدارية، فأخبرتهم أن
اليوم إضراب للموظفين الإداريين، وأنها مع ذلك لم تلتزم بالإضراب في محاولة
لمساعدتهم، إلا أنهم صبَّوا جام غضبهم عليها.. بعد ذلك جاء موظف إداري (رجل، عريض
المنكبين)، وبدأ يتحدث بعصبية وصوت جهوري ويخبرهم أنه مضرب عن العمل إلى أن تستجيب
الحكومة لمطالبهم.. فالتزم الجميع بالهدوء، ولم يقل له أحد: "من الأهم
مطالبكم الإدارية، أم صحة الناس؟ لماذا لم تؤجلوا الإضرابات حتى تنتهي الكورونا؟
وأيضا،
أتفهم دوافع المراجعين في عصبيتهم وشكواهم، فهم وجدوا تلك الموظفة المسكينة أمامهم،
فحمّلوها كامل المسؤوليات، أتفهم أن بعضهم مريض حقا، وتعِب، وبعضهم جاء من مناطق
بعيدة، وبعضهم بالكاد تدبر أجرة المواصلات، أو اضطر للغياب من عمله.. لكني استغربت
صمتهم أمام الموظف "العصبي"..
شعبنا
معتاد على الانتقاد والشكوى، ولا يعجبه العجب، ننتقد أي شيء، أي شخص، ننتقد بسهولة،
ودون تفكير للحظة.. أحيانا نكون مخطئين ومتسرعين وظلمة، وأحيانا نكون مصيبين
ومحقين.. الشكوى جزء من طبيعة الإنسان، وبالذات في المجتمعات المأزومة، والمتأخرة،
ونحن فوق ذلك تحت الاحتلال، ويمارَس علينا ظلم تاريخي بأبشع الصور.. وبالطبع حتى في
أرقى المجتمعات، وأكثرها تقدما ورخاءً ستجد الانتقاد والشكوى..
فيما
يتعلق بقضية توزيع اللقحات، اتفق تماما مع معظم الانتقادات، التي سلطت الضوء على
غياب العدالة، وانعدام الشفافية، والمساءلة، وعلى نظرة النخب الحاكمة الفوقية تجاه
الشعب.. ولكن حتى لو حصلت السلطة على جرعة لقاح واحدة، سنشكوا من غياب العدالة،
وسنتساءل أين ذهبت تلك الجرعة؟ وسيعتبر كل مواطن نفسه الأحق بها.. والغريب أن من
كانوا يشككون باللقاحات، ويقولون إنها مؤامرة.. اليوم صاروا يطالبون بها!
وطبعا
لا أحد يعجبه إجراءات الحكومة؛ البعض يطالبها بالإغلاق الشامل، وعدم استثناء المطاعم
والمقاهي والمساجد.. والبعض يطالبها بعكس ذلك، وفي الحالتين ينتقدون الحكومة،
ويتهكمون على قراراتها! البعض يطالب بالتشديد على الرقابة ومعاقبة المخالفين، ولكن
إذا خالفه شرطي على عدم ارتداء الكمامة سيصب اللعنات على الشرطة والحكومة، ويتهمها
بالتآمر على الشعب المسكين!
الانتقاد
بحد ذاته ليس خطأ، بل هو جيد، ومطلوب، وضروري، والمجتمع الذي لا ينتقد مجتمع مقموع
وخانع وجبان.. وليست المشكلة في انتقادات العامّة، الناس البسطاء الطيبين الذين
يريدون من الحكومة توفير كافة الخدمات، ويتوقعون منها أفضل أداء، وهذا حق طبيعي.. والذي
لا يرى عشرات الأخطاء في السلطة إما أعمى، أو غبي، أو متملق ومنتفع.. وإذا رآها
ولم ينتقد فهو شيطان أخرس.. المشكلة في بعض النخب المثقفة، وبعض التيارات السياسية
التي تنتقد لأجل الانتقاد، والاستعراض الشعبوي، أو لتصيد الأخطاء في سياق
المناكفات الحزبية والصراعات السياسية، هؤلاء سينتقدون السلطة الوطنية حتى لو حررت
فلسطين، وفي اليوم التالي أعادت فتح الأندلس، وفي اليوم الثالث أطلقت قمرا صناعيا إلى
المريخ.. سينتقدوها لأنهم يناصبونها العداء السياسي والأيديولوجي.
المشكلة
أنهم غير أمينين في نقدهم، فهم ينزعون العبارات من سياقها، ويحرفون الكلم عن
مواضعه، يركزون على ما يتوافق مع أفكارهم، ويتجاهلون ما يتعارض معها، أي يقولون
نصف الحقيقة، وهذا نوع من التدليس، لا يهمهم لو أدى ذلك إلى بث روح اليأس والإحباط..
ما يهمهم التعبير عن كراهيتهم، وتحريض الجماهير على خصومهم..
هل
تذكرون أزمة تقرير جولدستون (2009)، أثناء العدوان على غزة؟ حينها اعتقدنا أن
التقرير سيحرر فلسطين، وأن المحكمة الدولية ستبدأ باعتقال القادة الإسرائيليين، آنذاك
أقامت "الجزيرة" الدنيا على مدى أشهر متواصلة وهي تشهّر بالسلطة وتتهمها
بالخيانة لأن مندوب المنظمة وافق على تأجيل عرض التقرير مدة معينة.. ولما أتى
الموعد وعرض التقرير على المنظمة الدولية لم تأتِ على ذكر الخبر، ونسينا الموضوع..
لم يكن التقرير هو القضية، القضية كانت التشهير بالسلطة وتعهيرها، ونحن أكلنا
الطعم مسرورين.
الانتقاد
سهل، ويريح النفس، لأنه يعفي الشخص من مسؤولياته الوطنية والمجتمعية.. المواطن يظن
أن الأخطاء تأتي فقط من المسؤولين والقادة السياسيين، يبرئ نفسه دوما.. وإذا كان
في موقع العمل والمسؤولية واقترف خطأ ما، أو قصر في عمله، أو أساء التقدير، سيبرر
لنفسه بكل سهولة، وبضمير مرتاح..
الحكومات
غالبا مقصرة وتقترف الأخطاء، لكن الشعب ليس دائما على صواب.. ولكن دائما الرقابة
والنقد مطلوبتين، وبين النقد البناء والهدام شعرة، والنقد الذاتي أصعب أنواع النقد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق