لدى الجمهور الفلسطيني عامة، وأنصار فتح خاصة تخوف وقلق من أن تؤدي الانتخابات إلى انقسام الحركة، خاصة بعد تداول أخبار عن احتمالية ظهور من ثلاث إلى خمس قوائم انتخابية، كلها من فتح، وما يزيد من التخوف أن الانتخابات السابقة أدت إلى انقسام فلسطيني بين فتح وحماس، فإلى أي مدى يمكن اعتبار هذه التخوفات واقعية؟
في
السياسة كل شيء وارد ومحتمل، ولكن التنبؤ بما هو قادم يجب أن يُبنى على تحليل سليم
ودقيق لمعطيات الواقع. وفي هذا الموضوع تحديدا يتوجب فهم طبيعة حركة فتح، وطبيعة
المرحلة السياسية الحالية، ومن ثم استشراف الاحتمالات الممكنة.
تعرضت
فتح عبر تاريخها لعدد من الانشقاقات، لكنها كانت جميعها مدعومة من قوى خارجية، بل
إن الانشقاق كان مخططا له من تلك الدول، ولم يكن تعبيرا عن تباين وتضارب في
الاتجاهات والتيارات داخل الحركة، وكل ما جرى أن تلك الأنظمة استغلت بعض الخلافات
الداخلية، وركزت على بعض الأخطاء ثم دعمت قيادات من داخل الحركة كانت تدين بالولاء
إلى تلك الأنظمة، ينطبق هذا التحليل على انشقاق "صبري البنا" الذي تحول
إلى بندقية للإيجار، وعلى انشقاق "فتح الانتفاضة"، الذي انتهى عمليا
بعودة أغلبية كوادره إلى الحركة الأم، وانشقاق "أبو الزعيم" الذي ولد
ميتا..
في
حين أن التيارات السياسية والفكرية التي ظلت تتصارع داخل الحركة لم تنفذ ولم تفكر
حتى بأي انشقاق، فمثلا الكتيبة الطلابية، التي ضمت النخبة المثقفة من مفكرين
وأيديولوجيين وخيرة المقاتلين، كانت تعلن رفضها سياسات القيادة، لكنها لم تخرج عن
مظلتها، وكما قال "معين الطاهر" قائد الكتيبة: "كنا نعارض عرفات
علنا، وننتقده عبر مكبرات الصوت التي وضعناها قبالة مكتبه طيلة النهار، وفي الليل
تحرسه بنادقنا".. في تلك الفترة كانت الحركة تموج بالأفكار والتيارات المختلفة؛
من ماركسية وماوية ويسارية وقومية وإسلامية ووطنية، ومن يؤيد التسوية، ومن يرفضها،
ومن يريد الكفاح المسلح، ومن يريد المقاومة الشعبية، ومن يريد التقارب مع الدول
العربية، ومن يرفض ذلك.. ومع ذلك ظل الجميع في خيمة فتح، وكانت القيادة تستوعبهم،
دون إقصاء منها، أو تمرد من أحد..
حسناً،
قد يُقال أن هذا كان يحدث في زمن سابق، حين كانت القيادة تتمتع بروح ديمقراطية،
ولديها القدرة والكاريزما على احتواء كافة تناقضات فتح، واستيعاب المعارضة مهما
بدت قوية، أما اليوم، فلدينا نهج الإقصاء والنبذ، كما أن المرحلة أكثر دقة وصعوبة
وخطورة..
هذذا صحيح، ولكن، وكما كتب الدكتور فضل عاشور، وهو عضو
المجلس الاستشاري لفتح، وممن عايش تجربة لبنان: "صحيح أن فتح ظاهريا لها طبيعة مركزية ومن يقف على
رأسها له القرار النهائى، لكن الأمر ليس بهذه البساطة والتسطيح كما يظن البعض؛ فأهمية
فتح في ديناميكياتها الداخلية وشكل علاقتها بالمجتمع. فى داخل فتح هناك أجواء
صاخبة جدا، ودائما فى حالة حوار معلن أو غير معلن، وعلى كافة مستوياتها، لكن حجم تأثير
أعضائها لا يعتمد بالضرورة على التواجد في هيئاتها القيادية العليا؛ فمن الممكن أن
تؤثر الكوادر الوسطى والقاعدية أكثر من اللجنة المركزية فى لحظة ما، بل ويمكن أن يؤثر
أفرادا من خارج فتح بما لا يقل عن تأثير قياداتها. فالقرارات النهائية ظاهريا يأخذها
من يقف على رأس الحركة، لكنها لا تكون معزولة عن الديناميكيات والآراء والمؤثرات
من داخلها وخارجها، بل تأتي محصلة التوزانات بين هذه المؤثرات والتفاعلات".
بمعنى
أن فتح بوصفها حركة (وليست جبهة، أو حزب) ولا تحمل أيديولوجيا محددة، وتتسم بالمرونة،
وبالنهج البراغماتي، وطبيعة تنظيمها أشبه بالهلامي، بل إن أي فلسطيني يرى نفسه
فتحاويا بصورة أو بأخرى (باستثناء المتحزبين)، وبالتالي أتت الحركة نسخة مطابقة
للشعب، بروحه، وحاجاته، وتطلعاته، وتناقضاته، ومحاسنه ومساوئه، وضمت في صفوفها وأنصارها
كافة الشرائح والطبقات الاجتماعية والتيارات الفكرية، والتوجهات السياسية.. فصارت بوتقة
تضم في داخلها كافة التناقضات الداخلية، لذا من الطبيعي أن تتحول إلى مرجل تغلي
فيه كل تلك التناقضات، خاصة في الأزمات والمنعطفات الكبرى..
اليوم،
وبعد سنوات من الترهل والتكلس، وانسداد الأفق السياسي، وغياب أي منجز حقيقي، وتراجع
شعبيتها، وصلت أزمة الحركة إلى مستوى غير مسبوق، وباتت تتهددها مخاطر الانشقاق.. مع
أن هذا الاحتمال مستبعد، فالكتلة المركزية والنواة الصلبة للحركة ما زالت قوية،
وما زالت تمثل في وعي وضمير الشعب المشروع الوطني، وما زال فكرها، وأساس برنامجها (التحرر
الوطني) يمثل الحل الأمثل للقضية الفلسطينية، رغم كل التراجعات والتنازلات والأخطاء،
وما زال الشعب يراهن على قدرة فتح على التجدد، وتصويب مسارها، ويضع آماله عليها..
ولا يعني هذا بالضرورة أنه يراهن على القيادة الحالية.
لذا،
أنا واحد من كثيرين يرون في الصراعات الداخلية التي تحدث الآن فيما يخص القوائم
الانتخابية حالة طبيعية ومتوقعة، بل ضرورية، يمكن أن ينتج عنها تبلور تيارات جديدة
متحررة من سطوة القيادة، وتحكّمها، ببرنامج جديد، ورؤية جديدة، أكثر ثورية بأدوات
وأساليب نضالية جديدة.. وأرى أنه من الصواب أن تشمل تلك التيارات عدد كبير من
المستقلين الوطنيين وذوى الكفاءة؛ فلا يوجد فروقات واضحة بين أبناء الحركة وأي فلسطيني
آخر..
ما
يهمنا صالح فلسطين أولا، وأن تظل فتح بخير، ومتحدة، وأن ينتخب الشعب الأكفاء
والمخلصين، لعل نجاح الانتخابات يفضي إلى واقع جديد، أفضل، وأن نفتح بابا واسعا
على التغيير، وإنهاء الانقسام، واستعادة مكانة القضية من جديد، وبما يليق بها.
هذا
يتطلب أن يتم تشكيل القوائم الانتخابية بالاتفاق، وفق رؤية واضحة، منفتحة، دون إقصاء،
ولا تهديد بالطرد، ففتح واسعة وتستطيع استيعاب الجميع.. شريطة ألا تكون أي قائمة
نواة لحزب أو انشقاق، أو تتحالف مع أي نظام عربي، وبعد الانتخابات تتحد تلك
القوائم في تكتل برلماني واحد.
هذا
يعطي إمكانية أكبر لضم المستنكفين والحردانين من فتح، ومن لديهم رؤى مختلفة، ومن
يراهنون على التغيير.
وكما
أن فتح تتسم بالمرونة والقدرة على استيعاب الجميع؛ للشعب أيضا خياراته المتعددة،
وفتح ليست قدرا محتوما، وليست فقط اللجنة المركزية، إنها روح الشعب، وتمرده،
وثورته، وتطلعه للحرية.. وهذا يعطي أمل بميلاد فتح جديدة، فتح التي في خاطرنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق