أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 18، 2020

في خريف العمر

 

يقولون: "العمر مجرد رقم"، و"الشباب، شباب القلب والروح"، و"الحياة تبدأ بعد الستين".. إذا أردت التحقق من صحة تلك المقولات افتح قلب جدك، أو جدتك، وفتش في ثناياه.. من المستحيل أن تعثر على إجابة موحدة، فكل مسن حالة خاصة ومنفردة.. وكل مسن قصة بذاتها..

في بلادٍ كثيرة يتقدم العمر بصاحبه، ويتجاوز السبعين وهو بصحة جيدة وحيوية وإقبال على الحياة.. وفي بلاد أخرى يبدأ الكهل قبل الستين يعاني أمراض القلب والسكري والعجز، ويصبح بحاجة ماسة لعون الآخرين، بل ويعتمد عليهم كليا.. بعض المسنين في قمة عطائهم (خاصة الفكري والإنساني)، وبعضهم أصبح عالة على مجتمعه..

لست هنا بصدد تقديم نصائح صحية لتمديد الشباب، أو لاستقبال الشيخوخة بصحة وحيوية.. بل للتحدث عن جوانب أخرى تعانيها فئة المسنين، ولا ننتبه إليها..

أنت الآن في ريعان الشباب، تصعد الدرج بخفة، وتركض برشاقة، وتعمل بلا استراحة.. غدا، أو بعد غد، إن نجاك الله من فيروس كورونا، أو من حادث سير، سيتقدم بك العمر، وحتما ستغدو كهلا، ثم شيخا، ثم طاعنا في السن (أطال الله في أعماركم).. حينها ستشعر بما يحس به المسنون من حولك، والذين غالبا ما تنظر إليهم بشفقة، أو تتجاهل مشاعرهم، ولا تتفهم احتياجاتهم..

في البداية ستنكر التغيرات التي بدأت تطرأ على حياتك، وتتفاعل في جسدك؛ فجسدك ما زال يحتفظ بذكريات الشباب، ويتجاهل تقدمك بالسن.. وتلك التغيرات تجري ببطء، كدبيب النمل، بعد فترة، وربما بشكل مفاجئ، ستملأ التجاعيد وجهك، ويترهل جلدك، ويبيض شعرك، أو يتساقط، سيضعف بصرك، وربما سمعك أيضا، سيرهقك المشي، وربما لن تقدر عليه، سيرافقك كيس الأدوية أينما حللت، وستتعبك مواقيتها، قد يزعجك شكلك في المرآة قبل أن تعتاد عليه..

حينها ستتذكر أمك التي قضت آخر سنينها طريحة الفراش، تئن وحيدة في الليل، تسكب دموعها بصمت، ستندم كثيرا على كل لحظة فاتت، على تقصيرك معها، وتجاهلك نداءها قبيل الفجر لتعدل نومتها على الجانب الثاني.. ستتذكر أباك، وكيف تحمل أوجاعه دون أن يبوح بها، ستتمنى لو يُعاد بك العمر لتسهر معه على فيلم كوميدي، أو تصاحبه في رحلة.. كان بوسعك أن تفعل كل ذلك، وأكثر.. لكن الدنيا جرفتك في سيلها العظيم..

أنت الآن وحدك، تواجه آلامك بمفردك، تسهر الليل الطويل، وأنت تعلم أنك لا تنتظر شيئا جديدا في الصباح، تمضي نهارك بين جدران البيت، بيتٌ سافر أبناؤه، وتوزعوا في ربوع الأرض، بيتٌ يسكنه الفراغ والصمت الثقيل، تنتظر مكالمة من هاتف موغل في الصمت، ترقبُ آخر الطريق على أمل أن يعبره مسافر طال غيابه.. يهبط عليك المساء ثقيلا، وقد مر النهار بطوله، دون حدث يُذكر..

معظم أقرانك ودعوا الدنيا، وتركوك وحدك، تقتات على ذكرياتهم، هل تحزن على فراقهم، أم تبتسم لأنك محظوظ، وما زلت على قيد الحياة..

ستأتي ابنتك لزيارتك في نهاية الأسبوع، تنظف لك البيت، وتعيد إليه الحياة من جديد، أحفادك سيملئون الفضاء صخبا وضجيجا، يبتسم قلبك ووجهك، تشكرها على الزيارة، ثم تودعها بدموع خفية، بانتظار الزيارة القادمة..

في خريف العمر ستقف قبالة منظر طبيعي، وتتأمل حولك بحكمة الشيوخ، سيشتعل قلبك بالحنين، ويفيض عقلك بالذكريات، ستشعر أنها ذكريات موغلة في البعد، وأنها تخص شخصا آخر، قد تشعر أن الحياة كانت مجرد خديعة، لكنك بشكل أو بآخر نجوت من ألاعيبها، ستدرك أن معظم معاركك التي خضتها متعصبا متشنجا كانت تافهة، ولم تكن تستحق كل ذلك العناء، وأنك أهدرت وقتك الثمين في أشياء سخيفة.. وأخذت الأمور على محمل الجد بأكثر مما تحتمل.

قد تستسلم لنهايتك الوشيكة، أو تقرر أن العمر هدية الخالق، وأنك متمسك بتلابيبه، وأن الشيخوخة فرصة ذهبية، وأنك الآن حـر.. ستدرك حينها أنك لأول مرة في حياتك، قد صرت نتاج كل تلك السنين، في قمة النضج، الشخص الذي لطالما أردت أن تكونه.

ستتذكر أن لك عائلة محبة، وأصدقاء أوفياء، وحياة كاملة بوسعك أن تعيشها.. لن يوبخك أحد لأنك لم ترتب سريرك، لن يلومك أحد لأنك سهرت حتى ساعة متأخرة، لن تضطر للاستيقاظ مبكرا والتوجه للعمل لتقابل مديرا عابسا، وموظفين حمقى..

 ستصبح أكثر رفقاً مع عالمك الداخلي، وأقل لوماً لنفسك، وأكثر حنانا على جسدك.. ستدرك أن جمال الشكل لم يعد مهما، لكنك ستظل أنيقا، وستغدو صديقا لنفسك.. ستعتاد الهدوء، وستغفر لنفسك خطاياها، وستنسى كل ذكرياتك الأليمة، والسلبيات التي طالما أحاطت بك، ستفكر كيف تصنع يومك فقط، ستطرب من جديد على أم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز، ستحب قهوة الصباح، ومشهد الشروق، سترى العصافير كأنك تراها لأول مرة..

ربما تتجاهل نصائح طبيبك، وتدخن سيجارتك باطمئنان، وتأكل بشهية، وترقص مع شريك حياتك، أو مع نفسك، وقد ترغب بالبكاء على حب ضائع، وذكريات جميلة، وتفاصيل كثيرة غابت عنك، وفرص فوتها..

ستتذكر كل انكسارات قلبك، وهزائمك، وأحزانك، لكن قلبك المكسور، وهزائمك الصغيرة هي التي ستمنحك الدفء والقوة، وستجعلك أكثر رحمة ورقة، وأكثر فهماً للحياة.. الشخص الذي لم ينكسر، ولم يبكِ آناء الليل، ولم يعترف بضعفه مرة، شخصٌ متجبر، قاسي، ولن يعرف أبداً في هذا العمر فرحة الشعور بالنقصان.

ليس بمقدور أي مسن أن يجري هذا التحول العميق، والإيجابي، فالمسألة لا تعتمد فقط على الإرادة، بل تحتاج قوة روحية وثقافة وتجربة إنسانية، وهذه ليست دائما متوفرة.. في بلادنا الكثير من المسنين يغادرون هذا العالم دون أن يفهموا الحرية العظيمة التي تأتي مع الشيخوخة، بما في ذلك الحق بارتكاب الأخطاء. لا يشعرون أنهم محظوظون لأنهم عاشوا طويلاً، بل تقتلهم مبكرا مشاعر العجز، وأنهم باتوا مزعجين ومتطلبين، تقتلهم الوحدة والمشاعر السلبية، والإهمال..

لن تعيش للأبد، لكن بينما ما زلت بيننا، لا تهدر وقتك في الرثاء، والتفكير بما يجب أن يكون، والقلق بشأن ما سيكون.

أما أنت عزيزي الشاب، تذكر أن الشيخوخة مرحلة عمرية حتمية، وأن المسنين يستحقون حبنا وعطفنا وتفهمنا، فبادر بزيارتهم قبل فوات الأوان، ابتسم لهم، وأغدق عليهم بمشاعرك..

"وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبّياني صَغيرا".. قرآن كريم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق