كتب الزميل "ساهر موسى" في
منشور على فيسبوك عن مأساة الأديب المصري "رجاء عليش"، وكتب أيضا
"عبد الرحمن نصر" مقالة في الموضوع ذاته على موقع إضاءات، ولأهمية
الموضوع سأنقل مضمون المقالتين هنا:
"رجاء عليش"، أديب مصري، نشر
روايتين (في حدود ما أعرف)، هما: "لا تولد قبيحا"، و"كلهم
أعدائي"، إلا أن الروايتين ظلتا مغمورتين كما كاتبهما، ولم يحفل بهما مجتمع
المثقفين والأدباء، ولم يتحدث عنهما أي ناقد، ولم تثيرا أي ضجة، أو ردود فعل في
المجتمع، رغم أنهما صادمتان، ومن أجمل وأعذب الروايات، وأكثرها جرأة! ويبدو أن حظه
ككاتب كما حظه في الحياة، حيث ظل على الهامش، يعاني التمييز والتنمر، في عيشة
بائسة مثقلة في الهموم والأحزان، أنهاها منتحرًا بواسطة رصاصة في رأسه في العام
1979، ليتخلص من كل معاناته التي سببها له "وجهه القبيح"، على حد تعبيره.
قبل انتحاره ترك رسالة وصلت إلى النائب
العام، كتب فيها: "عشتُ هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالانتقام من أفراد
المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوني أكفر بكل شيء".
وتلك الكلمات المختصرة تعطينا فكرة عامة
عن الحالة النفسية التي وصل إليها "عليش" والتي جعلته يقدم على
الانتحار. وهذه القصة الفاجعة تدعونا لطرح الأسئلة الموجعة: هل يختار الإنسان
بإرادته أن يولد قبيحًا أو وسيمًا؟ وهل بمقدوره أن يختار شكل وجهه، ولون بشرته، أو
حتى اسمه؟ وما هو تعريفنا للجمال؟
في مقدمة مجموعته القصصية، يرثي الكاتب
والدته، التي كانت آخر حصونه الدفاعية في هذا المجتمع الذي أذاقه مختلف صنوف الذل
والإهانة والتحقير. فكتب: "إلى الصدر الحنون
الذي أرحت فوقه رأسي المتعبة المثقلة بأحزان حياتي، إلى القلب الذي أحبني عندما
كرهني العالم، وقدّرني عندما احتقرني الناس، إلى الابتسامة الوحيدة الحنون في
حياتي". وأضاف: "أنا رجل بلا امرأة، بلا حقل للقمح، بلا كرة للعب، بلا
ذكريات مضيئة، بلا طريق للمستقبل.. على قبري سيُكتب: هنا يعيش إنسان مات أثناء
حياته".
وبرغم كونه مقتدر ماليا، وثري بالأفكار، إلا
أنه عاش منبوذًا، وحيدًا، لم يلقَ لا القبول الاجتماعي ولا الأدبي بسبب خارج عن
إرادته، فهو لم يختر أن يكون قبيحًا! كما يصفه الآخرون.
بعد رحيل أمه لم يجد من يعوضه عن حنانها
وتفهمها، فلم يعد يحتمل الحياة، فسارع للحاق بها.
في قصصه يحكي لنا بروحٍ مليئة بالغضب
والاحتقار والنقمة حين يصف حياة المنبوذ في مجتمعنا. فكتب: "كيف أدافع
عن مدينة تكرهني؟ تريد لي العار الدائم، مدينة لا أملك دائرة حنان واحدة فيها،
قطعة صغيرة من الشمس التي تشرق على ناسها.. الشمس لا تصل أبداً إلى غرفتي.. لا يطل
قمرها على حقلي.. يقطف الأطفال الأشقياء زهوري ويطئونها بأقدامهم.. مدينة ليس لي
فيها امرأة واحدة تحبني.. إنسان واحد انتمي إليه.. طفل واحد يحمل اسمي من بعدي.. كيف
أدافع عن مدينة أخاف إلى درجة تجمد الدم في عروقي وأنا أمارس أشيائي البسيطة في شوارعها
التي تطلق أقصى درجات الكراهية والجنون.. الكراهية التي تكاد تقتلعني من جذوري.. لو أن الغزاة قدموا إلى مدينتي الميتة القلب لفتحت لهم الأبواب، ولما رفعت
سلاحًا ضدهم، لأنهم سيحملون الإذلال والعار للناس الذين أكرههم من أعماقي".
يشرح
"عليش" معاناته مع شكله ومع المجتمع: "القبح يستفز
مشاعر الآخرين العنيفة، وكل حاستهم النقدية الساخرة، فيوجهونها بضراوة عنيفة ناحية
الإنسان القبيح قاصدين إهانته وتحطيم معنوياته. إنهم يقفون مندهشين أمام ظاهرة
غريبة لا يفهمونها.. ظاهرة تستفز كل مشاعر الكراهية في داخلهم.. فيصبح القبيح ضحية
لها في نهاية الأمر. ولكن إذا قلنا أن القبح يدمر حياة صاحبه؛
فالغريب أن الإنسان القبيح لا يحس بأي عجز جسماني يمنعه من الاستمتاع الكامل
بالحياة كالآخرين.. إنه فقط يحس بحاجز شفاف وغير مرئي يحول بينه وبين الاندماج في
الحياة.. حاجز من صُنع الآخرين الذين يضمرون له كل الكراهية والشر لمجرد أنه إنسان
مختلف وقبيح".
أغلب قصصه حكايات مأخوذة من واقعه الخاص،
والتي تظهر فيها المعاناة والآلام، أو قصص حالمة عن طموحاته وأحلامه التي لم يتمكن
من تحقيقها في حياته المريرة، كحصوله على زوجة وأطفال وأسرة محبة، أو قصصا تقارن بينه
كشخص "قبيح الوجه" وبين آخر وسيم، ويحكي كيف كانت حياته ستكون خالية من
المشاكل تقريبًا لو كان وجهه وسيما، فيقول: "إحدى ميزات الوسامة الشديدة، أن الناس
ستصدقك بينما أنت تكذب عليهم، أما القبيح، فهو مكروه من كل الناس، ولا أحد يصدقه
حتى لو قال الصدق".
عنوان روايته "لا تولد قبيحا"
هي نصيحة يدرك قائلها إنها غير قابلة للتطبيق، لكنه يقولها لأنه يعرف مصير هذه
الفئة من الناس قليلة الحظ من الجمال، وكأنه يقول: "إياك أن تكون قبيح الروح".
أنهى "رجاء عليش" حياة مليئة بالحزن،
وربما اللحظة الوحيدة والقصيرة التي لامس فيها السعادة حين أطلق الرصاص على نفسه. وبموته
خسرنا إنسانًا متميزا ورائعا، كان كل أمله وقمة طموحه أن يراه الناس في صورته
الإنسانية.
نشَرَ "عليش" كتبه على نفقته
الخاصة، وقبل انتحاره أوصى بكل أمواله وممتلكاته لصالح رعاية المبدعين الشباب ونشر
أعمالهم، وهي وصية لا تَصدر عن مريض نفسي، بل تصدر عن إنسان نبيل، ومع ذلك طعن
أقرباءه بالوصية والموصي طمعًا منهم بالميراث.
مأساة "عليش" هي نتاج
لثقافة المجتمع الذي يضطهد أي شيء مختلف عن صورته النمطية، المجتمع العنصري الذي
لا يتقبل أي اختلاف في الدين، أو الطائفة، أو المظهر الخارجي، سواء في اللبس، أو
تسريحة الشعر، أو في الخِلقة نفسها، حتى لو كانت مجرد مرض جلدي..
يشرح "عليش" معاناة
الإنسان المختلف في مجتمع نمطي لا يتقبل التعددية، ينقل لنا إحساس المظلوم وشعوره
بالذل والمهانة، حيث يتجنبه الناس، ولا يأكلون على مائدته، وإذا تحدثوا معه لا
ينظرون في عيونه، ويمارسون كل أشكال التنمر ضده، يهزؤون به، يستمتعون بتعذيبه..
حينها يشعر "المختلف" بالغربة، وأنه ليس ندا للآخرين، بل يشعر في أعماقه
بالضآلة أمامهم.. وأن الهزيمة هي قدره المحتوم في الحياة..
مأساة "عليش" أنه عاش في
مجتمع قبيح الطبع والروح والمبادئ، مجتمع غير سوي ومشوه.. مجتمع غير متسامح، وكل
حديثه عن العدالة والرحمة والطيبة والمساواة والأخلاق مجرد هراء وادعاءات زائفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق