"العقل السليم في الجسم"، واحدة
من أسوأ المقولات التي تعلمناها صغارا، وإن كانت مقاصدها حسنة، للتشجيع على
التغذية الصحية، وممارسة الرياضة، والعيش وفق نمط صحي، بيد أنها مقولة جارحة
بالنسبة لمن ليس جسمهم سليما، ومن ناحية ثانية تعمل على تعزيز نظرة نمطية سلبية
تجاه من يشكون علة دائمة في أبدانهم، أي الأشخاص ذوي الإعاقة، بوصفهم غير مكتملي
البدن، ولا يتمتعون بصحة كاملة، وبالتالي فإن قدراتهم العقلية قد لا تكون مكتملة!
(وطبعا هذا غير صحيح).
بشكل عام يولد أغلب الناس دون إعاقة، وتلك
نعمة من الله أنعم بها علينا، بيد أنه حرمها لفئة معينة من الناس (لحكمة يعلمها
وحده)، فالبعض قد يولد بمشكلة خَلقية، أي أنه يرث إعاقة معينة من أحد والديه، أو
أنه بعد ذلك يُصاب بمرض عضال، أو يتعرض لحادثة معينة وبالتالي يصبح معاقا.. وفي
جميع الأحوال لم يكن مسؤولا عن إعاقته.
كيف يعيش الأشخاص ذوي الإعاقة؟ كيف
يتدبرون أنفسهم؟ بماذا يحسون؟ كم يتألمون؟ هل تأقلموا مع أوضاعهم؟ أم يظلوا يعانون
طوال حياتهم؟ وما هي أشكال ودرجات تلك المعاناة؟ كيف ينظرون للآخرين، وللمجتمع؟
تلك الأسئلة وعلى صعوبتها، سنحاول الإجابة عليها في مقالات قادمة من خلال الأشخاص
ذوي الإعاقة أنفسهم.. فهم ليسو بحاجة لمن ينوب عنهم، أو يتحدث باسمهم.. فضلا على
أن الإجابات ستكون متنوعة ومتباينة نظرا لتعدد حالات الإعاقة، وتباين وجهات النظر
واختلاف الأحاسيس والمشاعر والمعاناة من إنسان لآخر..
سنترك هذه الأسئلة مؤقتا، لنركز هذه المرة
على نظرة المجتمع تجاه هذه الفئة، وكيف نتصرف معهم، ونستعرض جانبا من المظالم التي
يتعرضون إليها.
سنبدأ بطريقة مناداتهم أو الإشارة إليهم،
أي المصطلحات السلبية التي نوصمهم بها: معاق، مجنون، أطرش، أعمى، أخرس، مكرسح،
مشلول، منغولي.. هذه مصطلحات سلبية، لا يجوز استخدامها، لأنها مهينة وجارحة أولاً،
ولأنها تنطوي على عنصرية، وتصنيف، وأحكام مسبقة، ونمطية تفكير.. التسمية الصحيحة
"الأشخاص ذوي الإعاقة"، ويمكن أن نقول إعاقة بصرية، إعاقة سمعية، إعاقة
حركية.. وهكذا.. وحتى مصطلح "ذوي الاحتياجات الخاصة" غير مقبول.. فكل
شخص في الدنيا له احتياجات خاصة، قد تكون مادية أو معنوية، أو أدوات معينة..
وهنالك بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس
في تعاملهم مع الأشخاص ذوي الإعاقة، وهي في أغلبها أخطاء غير مقصودة، وأحيانا تكون
بحسن نية، لكنها تترك أثرا سلبيا على الشخص ذو الإعاقة، وربما تضره نفسيا وجسديا،
فمثلا، في خلط فاضح بين أنواع الإعاقات نتحدث مع شخص يعاني إعاقة بصرية بصوت
مرتفع. أو نتحدث مع شخص يعاني من إعاقة في النطق بلغة الإشارات علما بأنه يسمع
بشكل عادي. أو عندما نتحدث مع شخص يعاني إعاقة سمعية نوجه كلامنا ونظرنا نحو
المترجم (مترجم بلغة الإشارة) ولا نتطلع تجاه الشخص نفسه.
وكذلك حينما نريد مساعدة شخص يعاني إعاقة
بصرية في عبور الشارع نشد يده، بدلا من مد يدنا والطلب منه أن يشبك يده بها. أو نتقدم
لمساعدة شخص على كرسي متحرك ونحن لا نعرف كيفية ذلك، وبالتالي قد نعرضه للخطر، أو
نقدم له المساعدة وهو لا يحتاجها، ويستطيع تدبر نفسه.. ما يعني عدم المبالغة في
عرض المساعدة، بحيث نُشعر الشخص بأنه عاجز كليا.
وعند التعامل مع شخص يعاني إعاقة في النمو
(يظهر أصغر من سنه الحقيقي)، فنتعامل معه وكأنه طفل صغير، وهذا يجرحه ويشعره
بالنقص. أو إذا رأينا شخصا يعاني من أي إعاقة نتفرج عليه باندهاش وذهول وكأنه كائن
فضائي، هذا يربكه ويزعجه. أو نربت على كتفه أو نمسح رأسه بحنية مبالغ فيها، هذا
يشعره بالضعف، لأن مشاعر الشفقة أكثر ما يزعج الشخص ذو الإعاقة، وحتى حين نتحدث
معه يجب أن نتحدث بشكل اعتيادي، وبندية، ودون تعاطف مصطنع، لأنه يحب أن يشعر بنفسه
كإنسان طبيعي. أي عند تعاملك مع شخص يعاني إعاقة صافحه كما تصافح أي شخص آخر، ولا
تشعره أنه غريب ومختلف، ولا تنظر إليه بتعجب، ولا تبالغ في إظهار تعاطفك.
وهنالك أشخاص ذوي إعاقة يمارسون بعض أنواع
الرياضة، وقد يتفوقون بها، فإذا ما لعبنا معهم أو دخلنا وإياهم في منافسة لا يجب
أن نشعرهم بالدونية، فنتهاون معهم، لأن هذا يولد لديهم مشاعر قاتلة ومحبطة. وهناك
الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة أظهور تميزا فائقا، أو عبقرية من نوع ما، وبعضهم
صاغ نظريات علمية، أو أصدر كتبا، أو أحرز نجاحا كبيرا.. في تعاملنا معهم ننظر إلى
قدراتهم ومواهبهم وتميزهم ونتاجهم فقط دون النظر إلى نوع الإعاقة، ولا يجب أن نقول
فلان معاق، ومع ذلك أنظروا كم هو ناجح ومتميز.. أنظر إلى نجاحه فقط.
وربما أكثر معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة في
المدرسة، فإذا كان في الصف طالبا يعاني إعاقة فإنه غالبا سيتعرض للتنمر والسخرية
من زملائه، وهذا سببه سوء التربية، وثقافة المجتمع السلبية والمتخلفة، وقد يقع
المعلم في خطأ عند محاولته لحل المشكلة، فبدلا من التعامل معه بشكل طبيعي، يطلب من
التلاميذ عدم السخرية منه لأن السخرية حرام، ولأنه معاق، فيبدأ الطلبة بالشفقة
عليه، بدلا من احترامه. والشفقة تكون عادة نحو الشخص الأقل شأنا، وبالتالي يتولد
شعور بالضآلة عند الشخص ذو الإعاقة.
وهذه المشكلة نفسها يتعرض لها الأطفال ذوو
الإعاقة في البيت، حيث يتعامل معهم الأهل بتمييز سلبي، وبتركيز على أنه معاق..
أغلب تلك الممارسات السلبية والأخطاء غير
مقصودة، سببها الجهل، أو عدم معرفة الأساليب الصحيحة.. سنتحدث لاحقا عن الأخطاء
المقصودة، وعن جرائم مروعة بحق هؤلاء الناس، وعن قصص يندى لها الجبين.. سنتفاجأ
عندما نسمع قصصا عن تحرش جنسي بفتيات ذوات إعاقة بصرية، أو حركية، وقصصا عن
استغلال لأشخاص يعانون من إعاقات ذهنية أو جسدية مختلفة، والإتجار بهم، أو
معاملتهم بطريقة قاسية ولا إنسانية..
وبذلك قد نكشف عن وجه آخر لمجتمعنا.. أظن
أنه وجه مخيف ومرعب، يكشف عن مدى الانحدار الأخلاقي عند البعض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق