يركز الزميل
"ساهر موسى" في منشوراته على موضوعات تكوين الشخصية، أي كيفية تشكل
القناعات الدينية والسياسية، وكيف يكوّن الإنسان شخصيته الفكرية، وكيف يبني آراءه،
وعلى أي أساس يصدر أحكامه، ولماذا هو دائما مطمئن إلى صحة خياراته، وواثق بأنه على
طريق الصواب، ويعتنق العقيدة النقية، وأنه مع الجماعة الخيرة الصالحة..
ولأن
الصديق "ساهر" مختص في علم النفس، فإنني أثق بخلاصة آرائه، وأتابع منشوراته، سيما إذا
كانت في هذا المجال، وقد سبق لي أن كتبتُ مقالات ذات صلة عن وهم حرية الإنسان، وعن
نظرية الفقاعة، وعن ثقافة القطيع.. وهذا المقال استكمال لذات الموضوع.
يقول
"ساهر" إن في داخل كل إنسان صوت غريب، دائم الحضور والإلحاح، مهمته أن
يبرر له أفعاله، وأن يقنعه أنه دوما على صواب، وأن يقول له عندما يغلط: أنت صح،
ولا داعي للقلق.. وهذا الصوت اسمه "تبرير الذات"، أو "الضمير
المرتشي".
لهذا
الصوت الجواني قدرة فائقة على الحضور والتشكل، وله هيمنة على العقل، فحتى حينما
يقع الفرد في الخطأ البيّن، والذي يتعارض ويتناقض مع المنظومة الدينية والأخلاقية
والسلوكية التي نشأ عليها (ولو نظريا) فإن هذا الصوت يظل يلح عليه ويعيد ويزيد
ويبرر لصاحبه ويقنعه أنه ليس مخطئاً، أو على الأقل يجد له مائة عذر.. والمدهش أن
الفرد يقتنع في النهاية، بل وتترسخ قناعاته مع الوقت والتكرار بأن كل ما يفعله
صواب.
لفهم
أسباب ذلك، علينا أن نتذكر بأن العقل في العادة يميل لتجنب أي سلوك يصرف فيه طاقة،
بما في ذلك التفكير، أو تأنيب الضمير، فمثل هذه السلوكيات تستنزف طاقة الجسم،
وترهقه، والعقل مبرمج جينيا على تجنب التفكير المتعب، لتوفير الطاقة، بل إن العقل
يكافئ صاحبه "المريح" بإفراز هرمون الدوبامين، وهو هرمون يبعث على
الاسترخاء والسعادة.
وعندما
يمارس الشخص ما يتعارض مع المبادئ الأخلاقية والدينية التي تربى عليها، أي حينما
يخطئ سيشعر حينها إنه على أعتاب "الإدراك غير المنسجم"، بمعنى آخر
ستضطرب العلاقة بين نفسه وعقله، ولأنه غير قادر على تغيير مبادئه حتى تتماشى مع
تصرفاته، ولا هو قادر على تحسين تصرفاته حتى تتماشى مع مبادئه.. حينها سيحاول أن يعيد
تفسير مبادئه بشكل ملتوي، حتى تتطابق مع تصرفاته، وحتى يتصالح مع الخطأ.. وحينها
سيقول له ذلك الصوت الجواني: أطمئن، أنت على صواب.
وفي هذه
الحالة يسيطر عليه "الضمير المرتشي"؛ فبعد أن أوجده من أجل تبرير تصرفاته،
وحتى لا يظل عقله منشغلا في محاسبته وتأنيبه على أفعاله، تصبح مهمة الضمير المرتشي
إقناع صاحبه عدم رؤية أي خطأ، وعدم الاعتراف بأي ذنب، وأنه لا حاجة لمراجعة نفسه
وأفكاره وتصرفاته، وأنه يمثل الصواب المطلق، وفي حالة وقوع خطأ معين فإنه سيحمّل مسؤوليته
للظروف، أو للأشخاص الآخرين، أو للحكومة، أو لأعداء يتبرصون به ويحيكون ضده
المؤامرات.
فعندما يحاول
أي شخص أن يحل معضلة "الإدراك غير المنسجم"، تجده يلتف على السبب
الحقيقي، ويبحث عن عذر لنفسه وعن أسباب يثبت من خلالها أنه صح. لذلك، وحسب رأي
"ساهر" إذا شعرت أنك تحاول تبرير كل موقف تمر فيه، وأن تجد لنفسك العذر
دائما، أو أن تدافع عن نفسك قبل أن تسمع وجهه نظر من هم حولك.. وإذا شعرت أنّ من
هم حوالك غير قادرين على فهم عبقريتك، ولا متقبلين لخفة دمك، وغير مدركين لروعه
تفكيرك.. وإذا شعرت أنه مضى وقت طويل وأنت على صواب ولم تقترف خطأ، وأنك لم تزعج
أحدا.. إذا حدث معك بعض أو جميع ما سبق فهذا يعني أنك واقع تحت تأثير "تبرير
الذات"، وأنك صاحب
"ضمير مرتشي".
عالم
الاجتماع المشهور "علي الوردي" يقول إن الإنسان حينما يمارس الخطأ يجد
نفسه في وضع متناقض، وفي حالة صراع نفسي بين ما تربى عليه من قيم وشعارات ومحرمات
وأخلاق.. وبين رغباته وأهوائه وميوله، وبين ما يريده هو وما تريده القبيلة
والمجتمع.. وهذا الوضع لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، فهو تأزم لا بد أن ينتهي إلى حل
عاجلاً أم آجلاً؛ أي أنه سيؤدي إلى التطرف والغلو، أو إلى ازدواجية الشخصية، كي
تستريح النفس من عذابات الضمير ونداءات العقل، والحل الأكثر رواجاً في المجتمع
العربي كان ازدواج الشخصية؛ أي انقسام الشخصية إلى شخصيتين؛ الأولى علنية (طاهرة،
أخلاقية)، والثانية سرية (يمارس فيها كل ما يحلو له).
ويبين "الوردي" أن هذه الازدواجية
جعلت مشكلة التدين عند البعض هيّنة، فهؤلاء استراحوا من التأزم النفسي، ومن القلق الاجتماعي،
حيث يظن أولئك أنه يجوز لهم فعل ما يشاؤون، كذب، تزوير، غش، اعتداء.. فهم أمام
المجتمع متدينون، محافظون.. ولكي يرضوا الله يعطوا جزءًا من وقتهم للاستغفار
والبكاء والخشوع، وبعد انقضاء الصلاة يعودون إلى طبيعتهم ومعاصيهم، تطبيقا لمقولة
(بعد صلاة العشاء افعل ما تشاء) وبعضهم يعطون جزءًا مما نهبوا إلى العبّاد والزهاد
لينوبوا عنهم بالاستغفار والتوبة، ولا ينسون أن يتبرعوا لبناء المساجد، فهم يعتقدون
أنه إذا بنى الظالم مسجداً بنى له الله قصراً في الجنة.
في هذه
الحالة، هذا الشكل من التدين لا يردع الإنسان عن عمل كل ما يشتهيه إلا بمقدار ضئيل،
فتعاليم الدين والنصوص الفقهية يفسرها الإنسان حسب ما تشتهي نفسه، وبوسعه أن يجد
لنفسه العذر، وأن يبرر الخطأ مهما كان فادحا.. أما الضمير فهو فقط يمنع صاحبه من
الاستمتاع بفعلته أو بجريمته، ولكنه لم ولن يردعه عنها..
بيّنا
العلاقة بين الإدراك غير المنسجم (الضمير المرتشي)، وبين ازدواجية الشخصية
(النفاق)، في مقال استكمالي سنبين علاقة ما سبق بالتفكير المزدوج؛ أي الإيمان بفكرتين
متناقضتين وتصديقهما معا، دون الإحساس بأي تعارض بين هاتين الفكرتين، أو بقول آخر
ممارسة الكذب والنفاق عن قناعة، ودون إحساس بالذنب، أو شعور بأن ما يفعله خطأ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق