عرّف
الصديق ساهر موسى التفكير المزدوج بأنه الإيمان بفكرتين متناقضتين وتصديقهما معاً، دون الإحساس بأي تعارض بين هاتين
الفكرتين.
من عاش
تجربة الأنظمة الشمولية، سواء العربية، أم الدول الاشتراكية، أو أي دولة ابتليت
بحكم الحزب الواحد، والزعيم المطلق.. سيتذكر كيف كان الإعلام المركزي للدولة يخلق
الوعي الجمعي، وكيف يصبح بعد ذلك سهلا عليه خلق الوعي الفردي، وتنميط أفكار
المواطنين وتنميط شخصياتهم وأساليب حياتهم.. طبعا بهدف التحكم بهم.
وفي ذات
السياق، وضمن مستوى آخر، فإن التربية الاجتماعية القائمة على الإخضاع والتقليد
والإتباع (ثقافة القطيع) تفعل نفس فعل الأنظمة الشمولية، وأحيانا تكون سطوتها أكبر
من سطوة الأجهزة الأمنية لأعتى الأنظمة الاستبدادية، وهذا نلمسه أكثر في الجوانب
المتعلقة بالقيم والمفاهيم الدينية والاجتماعية المحافظة. وهنا يكون رجال الدين
البديل المكافئ لرجال الأمن والإعلام في النظم الشمولية.
مع تطور
الحياة وتعقدها، وفي عصر الإعلام والقوة الجماهيرية لم تعد النظم الاستبدادية والحركات
الفاشية قادرة على تحقيق أهدافها (إخضاع الجماهير وإسكاتهم) دون الاستمرار في
تضليل أعضائها وأتباعها أولاً، وإخضاعهم لدعاية متلاحقة ومتواصلة..
العقل
الواعي لتلك النظم الاستبدادية والفاشية يدرك أن دعايته الأيديولوجية والسياسية
محض هراء وتضليل وادعاءات.. لكنها وهي تدرك أن "التضليل الخارجي" المسلط
على الجماهير لا يمكن أن ينجح في إقناعهم لفترة طويلة، هنا يصبح من الضروري تحويله
إلى "تضليل ذاتي".. بحيث تتركز جهود الحزب وماكينته الإعلامية على إعادة
صياغة عقلية ونفسية قياداتها وأفرادها، و"تدريبهم" على ذلك، إلى حد وقوعهم
تحت سيطرة "التفكير المزدوج"، ثم الانتقال إلى الجماهير.
وقد طورت
الحركات الشمولية وسائل "ناعمه" وشبه خفيه لتضليل الوعي وتجنيد وضمان
ولاء الأتباع، بتقنيات حديثة وصلت إلى أبعاد يصبح معها من الصعب ان لم يكن مستحيلا
على العضو المنتمي للجماعة اكتشاف عناصر التناقض والتضليل في أقوال وأفعال جماعته.
ويلعب التعصب دورا مكملا لتسهيل مهمة الحزب أو الجماعة، لأنه مبني على التصديق
والتسليم والانتماء (العرقي/ الطائفي/ الحزبي).
عند هذا
المستوى من التعصب، أو من الانتماء الأعمى، أو من تشرُّب أفكار الحزب أو الجماعة يصبح
الفرد مستعدا للدفاع عن كل أفكار الحزب، وتصديق ما لا يمكن تصديقه، والاقتناع بكل
ما هو خرافي وغير منطقي.. هنا يكون قد وصل إلى مستوى "العمى الاختياري".
أهم
تجليات ظاهرة "التفكير المزدوج" أن يقول الفرد شيئا بينما يعني شيئا آخر،
دون أن يشعر بأنه يكذب، فالتفكير المزدوج يختلف عن الكذب في أن الكاذب لديه وعي
بكذبته.. أما ضحية التفكير المزدوج فهو مصدق لنفسه، وقد أصبح عاجزا عن التمييز بين
الحقيقة والكذب.. بل وأصبح قادرا على الإيمان بما يقوله وتكذيبه في نفس الوقت.. أو
قد يدافع اليوم عن فكرة ثم ينكرها غدا، ثم يعود إليها مرة أخرى عندما تتغير
الظروف.. وهكذا، دون الإحساس بأي تناقض.
لتوضيح
ذلك نعود إلى "جورج أورويل" في روايته "1984"، لنرى كيف تمكنت
الأجهزة الأمنية من إعادة قولبة عقل "وينستون سميث"، الذي كان مطلوبا
منه إعادة كتابة المقالات القديمة وتغيير الحقائق التاريخية بحيث تتفق مع ما يعلنه
الحزب على الدوام، وصار مطلوبا منه تصديق تلك الأكاذيب، وترديد شعارات الأخ الأكبر،
وهو مقتنع تماما بها، أي أن الأجهزة الأمنية ولجت إلى داخل عقله، وغسلت دماغه،
وبرمجته من جديد.
ضحايا
التفكير المزدوج ليس بالضرورة قيادات وأعضاء الحزب أو المنتمين له، بل هم أي أناس
عاديين تشرّبوا الخطاب السائد، وقولبوا فكرهم استنادا إليه (دون مراجعة ولا تمحيص
ولا نقد). وفي حياتنا اليومية نجد عشرات الأمثلة للتفكير المزدوج؛ سنجد من يؤمن
بالشيء ونقيضه في وقتٍ واحد.
التفكير
المزدوج أن تعرف وألا تعرف، أن تعي الحقيقة كاملة مع اختراع أكاذيب مُحْكمة، أن
تؤمن برأيين في آن وأنت تعرف أنهما لا يجتمعان، أن تُجهض المنطق بالمنطق، أن تدعو للأخلاق
فيما أنت تمارس عكسها، أن تعتقد أنّ الديمقراطية مهمة وضرورية، ولكنها لا تأتي إلا
من خلال وصاية الحزب، وعلى طريقته، أن ترفض عنصرية الغرب، وتمارس عنصرية أشد على
أبناء بلدك، أن تهاجم تاريخ الرق في أمريكا، وتتجاهله في تاريخك، أن تدعو للعقل
وتؤمن بالعلم، فيما تؤمن بالخرافات وحكايات اللامعقول، أن تطالب بسقوط بشار بينما ترفع
صور لصدام، أن ترفض الظلم والقمع في مكان وتتغاضى عنه في مكان آخر.
متاهة التفكير المزدوج هي الدهاء الكامل بأن تفقد الوعي عن
عمد ووعي، ثم تصبح ثانية غير واع بعملية التنويم الذاتي التي مارستها على نفسك. أن
تكتشف بسرعة وذكاء عيوب الآخرين ولا ترى عيوبك، أن تؤمن بالغيبيات بسهولة وبكل يقين في كل ما ينسب لتراثك
ولرموزك الدينية، وعندما يتعلق الأمر بكتب ورموز وطقوس ومعبودات الأديان الأخرى،
فإن الغشاوة التي غلفت عقلك تنزاح بسهولة، ويصبح عقلك يعمل فجأة، وبكل ألمعية.
حسب ما
يقول "ساهر"، ومما قرأه في كتب علم النفس فإن الإنسان يختار قناعاته
ومعتقداته أولاً (أو يصل إليها بالوراثة والتوريث) وبعد ذلك يبرر لنسفه دواعي
وأسباب هذا الاختيار، وليس العكس. بمعنى أن الإنسان لا يوازن بين مختلف وجهات
النظر بحياد وعقلانية، بعد الاطلاع عليها، ومن ثم ينحاز للصواب أو للحق، لأنه واقع
منذ البداية تحت تأثير عوامل كثيرة (أبرزها الجينات والأسرة والمجتمع)، وهذه
العوامل هي اللي تحدد الأفكار والمعتقدات التي يجب أن ينحاز لها أولاً، ثم يعمل
العقل على إيجاد تبريرات لهذا الانحياز لاحقاً.
يقول عالم
النفس "جوناثان هايت": "لم يصمم الإنسان ليستمع لصوت المنطق".
ولو سألت أي شخص يدافع عن أفكاره وعقيدته وطائفته كيف توصلت لهذه القناعات؟ سيجيبك
دون تردد أنه مقتنع بها بعد أن شغّل عقله بالتفكير والبحث.. وهذا محض افتراء وخداع
للذات، هذا هو التفكير المزدوج، فالحقيقة أنه توصل إلى هذه القناعات بعد أن تشربها
بالتلقين عبر الأسرة والمدرسة والشارع والإعلام، إلى أن تكونت وصارت محصنة قبل أن
يقرأ كتابا واحدا، أو يعرف شيئا ما عن الأفكار الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق