أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2020

يوتوبيا


اليوتوبيا، بكل بساطة هي الجنة، المكان المريح الخالي من المشاكل والهموم، حث لا معاناة ولا تعب.. وأظن أن حلم الإنسان الخالد لم يكن أكثر من العيش في اليوتوبيا..

اليوتوبيا في الديانات السماوية هي الجنة الموعودة في الحياة الأخرى، والتي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت..

في هذا المقال أود الحديث عن يوتوبيا الأرض، خاصة مع الواقع الديستوبي الذي نعيشه بكل ألم وخوف وقلق.. والديستوبيا هي نقيض اليوتوبيا..

من المتوقع أن تختلف اليوتوبيا حسب الأيديولوجيا التي تبشر بها.

المفترض أن تأتي الأديان السماوية باليوتوبيا، على الأرض قبل السماء، وفقا لمضامينها العميقة، ورسالتها الأخلاقية، لكنه أتباع الأديان السماوية حولوها إلى عصبيات طائفية، وبعضهم جعل منها مجرد أطروحة للتنظيم الاجتماعي، أي للتحكم بالشعب، باسم المقدس، وعند آخرين مجرد نصوص فقهية جامدة، خالية من أي بعد فلسفي أو جمالي.. وهكذا أخفقت في تحقيق اليوتوبيا. وتاريخيا، أيّ جغرافيا حكمتها جماعة دينية حولتها إلى ديستوبيا.

اليوتوبيا الشيوعية التي بشر بها ماركس ولينين وإنجلز هي المرحلة الحتمية التي سيصلها البشر بعد سقوط الرأسمالية.. حيث لا حكومات، ولا شرطة، ولا سجون، ولا حدود، ولا حروب.. الكل يعمل تطوعا، بكل جهده، ويأخذ ما يريد بحسب حاجته فقط.. ولا حاجة لنا هنا لتفنيد هذا الوعد الطوباوي.

ولكنها عند "ماو" (وهو شيوعي بالطبع) اليوتوبيا متحققة قبل ذلك بكثير؛ بأن يترك الفلاحون حقولهم لينتقلوا إلى مراكز المدن، وإلى مصانع الحديد لزيادة الإنتاج إلى حد الوفرة.. وعند "بول بوت" (الخمير الحمر، وهم شيوعيون أيضا) هي على العكس، أي بانتقال جميع السكان إلى الأرياف، لتعلم أنماط الإنتاج الزراعية والحياة الاشتراكية.. ونحن نعلم مآلات الثورة الثقافية الماوية، والتجربة البائسة للخمير الحمر.

اليوتوبيا في العالم الرأسمالي مخصصة للأغنياء فقط، وهي متحققة بالفعل، ولكن بالمعايير الرأسمالية النفعية البراغماتية، الخالية من أي بعد روحي وإنساني.. بل المعادية لها إذا لزم الأمر.

اليوتوبيا عند البوذية والهندوسية والشنتوية تتحقق بالتأمل، والتقشف، والانسجام مع الطبيعة، ونكران الذات، إلى حد الخلاص الروحي.. لكن ما بقي منها مجرد تراث فلسفي بالكاد تجده في المعابد والكتب.

مستويات معينة من اليوتوبيا متحققة في الدول التي تتبنى نظام الرفاه الاجتماعي، خاصة الدول الإسكندنافية، وممكن إضافة اليابان، وبعض الأحياء في المدن الكبرى. لكنها يوتوبيا خادعة، ومجتزأة، ومنقوصة، وتتضمن أشكالا ديستوبية عديدة خاصة من ناحية معاناة الإنسان الروحية. ومع ذلك هي حلم بالنسبة للمواطن العربي!

وحسب رواية أحمد توفيق، وعنوانها "يوتوبيا" هي مدينة كل أهلها أثرياء، يعيشون برفاه، يتسوقون لمجرد التسلية والمتعة، ليس فيها عمل، كل شيء فيها مباح، بما في ذلك المخدرات والجنس، حتى صارت مدينة مملة، وفاسدة..

السؤال: هل يعرف أحدكم نظاما فكريا وسياسيا ليس له أعداء؟ هل توجد فلسفة أو أيديولوجية بحد ذاتها لا تعادي أحدا؟

جميع النظم السياسية والفكرية والعقائدية لها أعداء، مهما ادعت التسامح، وهذا جزء أساسي من طبيعتها وتكوينها، وإذا لم يوجد أعداء خارجيون، ستوجِد أعداء من الداخل (منشقين، منحرفين، ضالين، خونة، كفار...)، وبالتالي العداوة والبغضاء والكراهية ستكون حائلا دون الوصول إلى اليوتوبيا الكاملة، أي عالم دون كراهية، ودون حروب، ودون استغلال ولا قهر ولا ظلم..

سؤال ثاني: هل فعلا من الممكن الوصول إلى اليوتوبيا؟

تاريخيا وواقعيا، لم يصل أي مجتمع إلى اليوتوبيا، وظلت مدينة أفلاطون الفاضلة خيالية وبعيدة المنال..

سؤال آخر: إذا أخفقت المجتمعات البشرية في الوصول إلى اليوتوبيا، فهل ممكن للإنسان بمفرده، أو لمجموعة صغيرة من الناس أن تصل إليها؟ وأن تحقق هذا الحلم العصي؟

أظن ذلك ممكنا..

مشكلة الأيديولوجيات والأديان والأنظمة والفلسفات التي وعدت باليوتوبيا أنها اشترطت لتحقيقها أن تكون جماعية، أي لمجتمع كامل بأسره، أو للبشرية جمعاء، وهذا مستحيل، ولذلك ظلت "أفلاطونية"، ومستحيلة.. 

هنا، اليوتوبيا الفردية ستكون مختلفة ومتباينة، بحسب فهم وفلسفة كل شخص، فهي ليست معطى ثابت وجامد ومطلق ومحدد.. هي نسبية، ومتغيرة، ومرنة.. ولكنها في كل الأحوال لا تعني عالما دون عمل، ودون تعب، ودون جهد.. بل تحويل هذا التعب والعمل إلى شيء يبعث على الرضا والسعادة.

تتحقق اليوتوبيا في داخل أي شخص أولاً، ومن ثم تنعكس على عالمه الخارجي.. فاليوتوبيا إذا كانت تعني السعادة، فإن السعادة تنبع من داخل الإنسان بدايةً، وحتى ينالها عليه أن يتخلى عن أنانيته، وأن يتحكم في شهواته، وأن يقضي على بذور الشر في دواخله، وأن يرى سلبياته وأخطائه ويقر بها، وهذا يتطلب العمل المستمر والدؤوب على تنقية الذات من الشوائب المادية، وتنظيفها من أدران الكراهية والعداوة، حتى يصل إلى مستوى من الرقي بحيث يحب كل الناس، ولا يكون لديه شيء يسميه عدوا..

إذا تخطى كل أشكال الكراهية، وأحبَّ الناس دون شروط ولا طلبات، وتعامل معهم دون أحكام، سيعم السلام الداخلي قلبه، وسيتصالح مع نفسه، حينها سيكون بوسعه إطلاق طاقاته الروحية والعقلية؛ فالحب المجرد سيوجهه نحو الطريق الصحيح؛ نحو الجمال بأرقى معانيه، والإنسانية بأسمى مضامينها، وسيعطيه شحنة علوية تمكنه من التوحد مع الطبيعة والانسياب التلقائي معها، وإذا نجح في ذلك سيصل إلى مرحلة الاستنارة.. عندها يستطيع أن يحلق عاليا، وأن يسمو ويرتقي، حتى يتحد مع الله، وينال السعادة الحقيقية والأبدية.

الموضوع ليس سهلا، وليس مستحيلا.. لا يحتاج فلسفة صوفية عميقة ولا تمارين يوغا شاقة؛ يحتاج إلى رفع مستوى الوعي، ورفع منسوب الإنسانية؛ الوعي سيقود إلى فهم أصل الشرور، وإدراك أسباب التعاسة، والتي بدأت بنظام المُلكية؛ أي حين أحاط أول إنسان بيته بسور، وقال هذه الأرض لي.. ثم حين تعزز عنده الانتماء الغريزي، فصار يقول هذه جماعتي، وهؤلاء أعدائي..

نصل إلى اليوتوبيا حينما تصبح الإنسانية هي المعيار والمرجعية؛ حيث لا حدود، لا مُلكية، لا عداوات، لا كراهية، لا فرض بالقوة، لا أحكام مسبقة، ولا تنمر.. بل تعاون، وتآخي، وتسامح، وحب، وعطاء، وحرية..

عندما نصل إلى الإنسانية الحقة سنعيش في اليوتوبيا.. ابدأ بنفسك ولا تحاول فرضها على غيرك.. فالفرض عملية قهرية لا تنسجم مع معايير اليوتوبيا..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق