كثيرا ما نسمع عبارة (الأسرة في المجتمعات العربية
المحافظة "متماسكة"، عكس الأسرة "المفككة" في المجتمعات
الغربية المنحلة).. وهذه المقولة تكاد تشكل حجر الزاوية في خطاب العشائر والقوى
التقليدية، الرافضة لأي تغيير أو تطوير في منظومة المجتمع القيمية.. فإلى أي مدى
هذه المقولة صحيحة؟ وما مشروعية الاستنتاجات والأحكام التي بنيت على هذه المقولة؟
من وجهة نظري، هذه المقولة خاطئة للأسباب الثلاثة التالية:
أولا: خطأ منهجي في التعميم؛ ففي الواقع لا يوجد شيء
اسمه "المجتمعات الغربية"، أو بمعنى أدق، ما نسميه "المجتمعات
الغربية" ونقصد به كل ما هو خارج نطاق مجتمعاتنا نحن، إنما هي مجتمعات متعددة
ومتنوعة، ولا يوجد سمات مشتركة تكفي لصهرها جميعها تحت مصطلح واحد؛ فالمجتمعات في
شرق آسيا، تختلف عن مجتمعات وسطها، ومجتمعات شرق أوروبا تختلف عن غربها، والمجتمعات
الإفريقية تختلف عن الأسترالية، وأمريكا الشمالية تختلف عن الجنوبية.. وحتى داخل الإقليم
الواحد، وداخل الدولة نفسها تختلف المجتمعات عن بعضها، تختلف بين المدينة والريف، كما
تختلف من زمن لآخر. وهذا ينطبق بالضرورة على المجتمعات العربية، التي هي أيضا
متنوعة ومتباينة.
ثانيا: المقولة تنطلق من افتراض خاطئ، مفاده أن الأسرة
في الغرب مفككة، وغير مترابطة، وهنا حتى لو افترضنا أن الغرب المقصود هو الدول
الرأسمالية والصناعية، فإن هذه المقولة تظل ناقصة، وغير دقيقة، والصورة النمطية
التي نعرفها عن تلك المجتمعات مأخوذة من السينما، أو من تصورات مبنية على أحكام
رغائبية، أو من شهادات سريعة نابعة من عقلية انتقائية.. صحيح أن نظام الأسرة هناك
يختلف عن هنا في جوانب عديدة، مثل: سلطة الأب، الحرية، الفردانية، النظرة للجنس،
شكل العلاقات، وطريقة التعبير عن العواطف، القوانين الناظمة.. ولا أحاول هنا
التقييم، أو المفاضلة، أو إصدار حكم أيهما الأصح، وأيهما أخلاقي أكثر؛ فالمسائل
نسبية، ولكل مجتمع قيمه وأنماط حياته التي ارتضاها لنفسه، ومفاهيمه الخاصة عن
الأخلاق؛ وهذه الاختلافات لا تعني "التفكك"، إلا إذا اعتقدنا أن
"الترابط" هو فقط ضمن الشكل الوحيد الذي نعرفه.. وهذا حكم غير علمي،
وغير موضوعي.
وخلافا لما يظن البعض، في تلك المجتمعات، وفي كل مجتمع
إنساني، لدى الأسرة علاقات حميمة ووشائج وعواطف ومودة وتعاون.. كل زوجين يعملان
على بناء الأسرة، وعلى حمايتها، الأب يكد بكل جهده، والأم تفيض بحنانها، والخالة والعمة
تحبان أطفال الأسرة، وكذلك الأعمام والأجداد والجدات..
طبعا، هذا كله بصورة عامة، وبالتأكيد تتفاوت الأمور،
وتختلف، وتظهر الحالات غير النموذجية، والمشاكل، والظواهر السلبية، والخلافات،
والطلاق، وأحيانا الجرائم..
ثالثا: الافتراض بأن الأسرة عندنا متماسكة، ومترابطة،
وأن مجتمعاتنا مجتمعات فضيلة.. هو أيضا افتراض خاطئ، فمجتمعاتنا مثل كل المجتمعات
الإنسانية فيها الخير والشر، وفيها الصالح والطالح، وكما لدينا قيم وأخلاق وأعراف
ناظمة.. للمجتمعات الأخرى قيم وأخلاق وأعراف.. وكلها تدعو للخير وتسعى للمثالية..
لكن النفس البشرية هي ذاتها، هنا وهناك، وفي كل مكان، تخرق القانون كلما تمكنت من
ذلك، وتخالف الأعراف والقيم إذا تعارضت مع مصالحها الشخصية، وتنزع للأنانية،
وتخطئ، وتبرر لنفسها الخطأ..
ومن ناحية أخرى، الوقائع والأحداث والإحصاءات تؤكد خطأ
هذه المقولة، أي تكرار الحالات غير النموذجية، ووقوع المشاكل والنزاعات، والخلافات
العائلية، وارتفاع نسب الطلاق، وتشرد الأولاد، وممارسات العنف الأسري، وارتكاب
الجرائم.. بل إن بعض أنواع الجرائم لا تجدها إلا في مجتمعاتنا
"الفاضلة"، مثل القتل على خلفية ما يدعى بالشرف، أو قتل الآباء لأبنائهم
نتيجة الضرب المبرح، بحجة أن الأولاد والزوجة ملك للرجل، وهو ولي الدم، ويحق له
التصرف بهم حسب ما يشاء، والقوانين تحميه، والأعراف المجتمعية تبيح له ذلك، بينما
في المجتمعات "المنحلة" القتل جريمة مهما كانت مسوغاتها، والقوانين تحمي
الأطفال من بطش الآباء، وتحمي النساء من ظلم الذكور..
ليس المقصود جلد الذات، ولا ذم مجتمعاتنا، ولا مديح
الآخرين.. ما أحاول قوله، تفنيد تلك المقولة التي بنيت عليها أحكاما خطيرة، واستخدمت
عصا يلوح بها رافضو التغيير..
كما في مجتمعاتنا فضيلة وقيم سامية وتماسك أسري وعلاقات
إنسانية دافئة، توجد مثيلاتها في كافة المجتمعات.. وكما في المجتمعات
"الغربية" مشاكل وانحلال وتفكك يوجد لدينا مثيلاتها أيضا.. صحيح أن
معاناة الإنسان وأزمات المجتمع والمشاكل الأسرية في الدول الصناعية والرأسمالية تختلف
عما هي في مجتمعاتنا، فربما تكون هناك أعمق، وأشد إيلاما، وأكثر حدة، وهذا له
أسبابه وعوامله.. وهي ليست دائما بنفس الدرجة، إذا تتباين من دولة لأخرى، وما بين
الريف ومراكز المدن.
وعند تحليل أي ظاهرة اجتماعية من الخطأ الفادح تعليلها
بسبب واحد، ودائما هناك أسباب وعوامل متداخلة ومتشابكة، وإذا أردنا تحليل ظاهرة التفكك
الأسري، خاصة في المجتمعات العربية، سنجد أن العنف الأسري من بين أهم عوامل تفكيك
الأسرة، خاصة وأن الثقافة المجتمعية والقوانين السارية تضمن استمرارية هذا العنف.
ثم يأتي غياب الحب والتعاطف والثقة والحوار الديمقراطي والتشارك، وتوزيع
المسؤوليات بين أفراد الأسرة بصورة غير عادلة، والتمييز الجندري، وهذه تقريبا من
أبرز سمات الأسرة العربية.
ثم يأتي الزواج المبكر، حيث تنعدم أسس الشراكة الزوجية
العادلة، بسبب التباين الكبير في عمر الزوجين، أو لأن الزوجة صغيرة، ولم تنل حقها
في التعليم، ولم تختبر الحياة، هذا يحرمها من حياة سعيدة، أو يبقيها خاضعة، وغير
قادرة على تربية أبنائها بشكل سليم.
ثم تأتي الأسرة كبيرة العدد، وتتفاقم المشكلة في حالات
الفقر، أو حالات تعدد الزوجات.. في هذه الحالات تضعف العلاقات الأسرية بسبب العدد
الكبير، وانعدام إمكانية توزيع الاهتمام والعطف والحب على جميع الأفراد، فلا الأب
ولا الأم قادرين على ذلك، بل ستختفي الفردانية، وتمحق الشخصية والخصوصية، وتزداد
المشاكل بين الأخوة، وبالتالي ستنشأ أجيال غير مشبعة بالعطف والحنان، ولم تنل حظها
من الاهتمام والرعاية..
فرق كبير بين تماسك الأسرة الشكلي، وهو شكل خادع، يخفي في
أعماقه أزمات ومشاكل تنذر بتفتيت أي أسرة، وما يبقيه متماسكا فقط الاعتبارات
الاجتماعية، التي أحيانا تكون ظالمة، وعلى حساب القيم الإنسانية.. وبين تماسك
الأسرة الحقيقي، القائم على المحبة والشراكة والثقة، لا على التسلط والقهر، والذي
هو غاية كل المجتمعات الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق