إذا كنتَ قد دلفت الخمسينيات من عمرك، وقُيَّض
لك، بطريقة أو بأخرى، الرجوع إلى مدارج الطفولة، وزيارة موطن ذكرياتك الأولى،
لتعيشها من جديد، ستفاجأ بأن ما في ذهنك من صور متخيلة عن الماضي تختلف كثيراً (أو
قليلاً) عمّا كانت عليه بالفعل؛ فلو رجعت بيتك الذي رحلت عنه منذ زمن بعيد، ستراه
بصورة مختلفة، ستراه أقل تألقا وبهجة، وأقل رحابة مما كنت تظن، ستتذكر معاناتك مع
المطبخ الضيق، والمرحاض الذي كان خارج البيت، وعراكك مع أبناء الجيران، وأن علاقتك
بأبيك كانت متوترة، وأنك كنت تغار من أخيك الصغير، وأنك كنت تسرق ما كانت تخبئه
أمك، من فاكهة أو شوكولاته، وأنك كنت ترتدي حذاء باليا، وملابسك متسخة، وأنك كنت
تتهرب من الاستحمام..
وستظهر لك صورا ظلت مخبأة في تلافيف
الذاكرة، كنت تتجاهلها، أو أن عقلك الباطن نجح في جعلك تنساها؛ ستكتشف أنك كنت
مجرد طفل عادي، جبنتَ عن مواجهة خصومك عدة مرات، ورسبت في مادة الجغرافيا رغم
بساطتها، وأنك لم تسدد "زياد" الدينار الذي استلفته منه، ثم تحايلت عليه
طويلا إلى أن يأس من مطالبتك، وأن خجلك حرمك من فرص كثيرة، وأنك كنت تكذب بسهولة،
وتغش في الامتحانات..
ولو زرت مدرستك الابتدائية، ستكتشف أنها
مثيرة للشفقة؛ وأن غرفة الصف ضيقة، وستستغرب كيف كانت تضم ثلاثين طالبا على الأقل..
وأن سور المدرسة لا يتجاوز النصف متر، وليس عاليا كما كنت تتخيله، وربما خوفك من
الهروب كان يصوره لعقلك الصغير أنه سور شاهق.. وأن ساحة المدرسة خالية، وجرداء،
ولا وجود للأشجار والأولاد والملاعب، لكن ذكرياتك الغنية بالقصص أوحت لك بذلك.. وأن
مختبر المدرسة الذي كنت تظنه فرعا للناسا، لا يتعدى منضدة، ومجهر، وبضعة ألعاب
كهرومغناطيسية، لكنك كنت تستمتع به.. أما المكتبة التي كنت تظنها مكتبة البلدية،
فهي لا تزيد عن أربعة رفوف، لكنك كنت تجد فيها ما تحتاجه من قصص.. أما الأستاذ
"حسن"، الذي كنت تظنه حينها رجلا كهلا، فستندهش إذا علمت أنه ما زال
حياً، لأنه في حقيقة الأمر كان يكبرك بعشر سنوات أو أقل..
هذا كله سيحدث معك إذا تذكرت الماضي
بموضوعية، متحررا من النستولوجيا، ومن الصور النرجسية التي طالما رسمتها لنفسك.. ستعرف
حينها أنك لم تكن أنيقا، بل أن جيلك كله كان يرتدي ملابس مضحكة، وأنك لم تكن
حكيما، بل إن معاركك ومخاوفك كانت سخيفة، وأن كثيرا من أغاني ذلك الزمن كانت مملة،
والأفلام التي كانت تبكيك ساذجة، ووسائل التسلية التي كنت مستمتعا بها تستدعي
السخرية.. والمدينة التي كنت تخشى أن تضيع فيها.. كانت في ذلك الوقت مجرد شارعين
رئيسين وثلاث شوارع فرعية..
الحنين إلى الماضي، أجمل وأسهل من مواجهة
الحاضر.. الماضي، لا يتغير، ولا توجد فيه احتمالات، وليس فيه ما يستدعي القلق.. لذلك
نحبه، ونجده ملاذا آمنا يعيننا على مواجهة الحاضر، أو ينسينا مخاوفنا من المستقبل
(المليء بالاحتمالات).. وهذا كله لا يعني أبدا أن ذكريات الطفولة لم تكن حلوة.. فربما
كانت لدى كثيرين حلوة بالفعل، ولدى آخرين بائسة وشقية..
لكن، ليس هذا ما تهدف إليه المقالة.. الموضوع
طريقة تذكر الماضي.. حين تتذكر ماضيك بنفس الرؤية النرجسية، لن تعثر فيه على أخطاء،
وإذا عثرت على خطأ، مهما كان فادحا، ستجد له ألف عذر، وألف مبرر.. سترى نفسك حكيما
دائما، شديد الأناقة، شجاعا، مقداما، ذكيا، تثير الإعجاب أينما حللت.. بينما إذا
نظرت لنفسك وماضيك بعقلية موضوعية نقدية، ستجد أنك في الواقع كنت إنسانا عاديا جدا،
طفلا فمراهقا، فشابا.. بكل ما تحتمله هذه المراحل من سلبيات، وأخطاء، وهفوات،
وسقطات، وحالات ضعف.. وأيضا بكل ما فيها من إيجابيات، ولقطات حلوة، ومواقف مميزة،
ومواطن قوة..
في هذه الحالة الأولى، ستظل كما أنت،
متوهما، مغرورا، بذات متورمة جوفاء.. وفي الحالة الثانية فقط، ستعرف نقاط قوتك
ونقاط ضعفك، وستعرف كيف تطور نفسك، وكيف تواجه المستقبل، بأخطاء أقل..
ما حاجتنا لكل ذلك؟
في الواقع، نحن العرب عموما، نتذكر
تاريخنا الماضي بروح نرجسية، بل مفرطة في الحنين.. لذلك، كل شخصياتنا التاريخية
نحيطها بهالة من القداسة، نراهم مثاليون، نموذجيون، أبطال، فاتحين، عباقرة، ورعون،
زاهدون في الدنيا..
ولكن لو عدنا إلى تلك الأزمان الغابرة، متحررين
من هالات القداسة، ومن الصور النمطية المتخيلة، ورأينا هؤلاء على حقيقتهم، سنجد
صوراً مختلفة..
سنجد القسمات البشرية، والأخطاء، ورغبات
الانتقام، ونزعات العدوان، والشهوات، والطموحات الشخصية، والأهواء، والأمزجة المتباينة..
سنجد بشرا عاديين. بكل ما في النفس البشرية من نقاط ضعف وهشاشة.. وسنعرف أن تلك كانت
دوافع ومحركات التاريخ.. وأن الأيديولوجيا إنما كانت الغطاء والمبرر والمسوغ.. وأن
من كتب التاريخ، كتبه بطريقة انتقائية، وبرؤية سياسية أيديولوجية، لكنه في النهاية
قدم لنا تاريخا مزورا.. تاريخا كله بطولات ومآثر، تجنب أو تجاهل ما فيه من فضائح
ومخازي ومعارك دموية.. لذلك، نراه تاريخا جميلا، ونحبه، ونحب أن نسكنه، وأن نقيم
فيه، لننسى حاضرنا، ونتناسى مستقبلنا.. وتلك معضلتنا الحقيقية.. العيش في الماضي..
لا أحد ينكر أن في تاريخنا ومضات مشرقة،
ومنجزات مهمة، وشخصيات تستحق التقدير.. لكن المطلوب، فهم ماضينا بطريقة موضوعية
تاريخية، حتى نعرف من خلاله كيف نبني حاضرنا، ومستقبلنا..
وهذا كل ما في الأمر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق