على مدار التاريخ، لم تكن العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة جيدة،
مع الإقرار بوجود بعض الاستثناءات والومضات القصيرة، لذلك، كان المثقفون يدفعون حيواتهم في سبيل قولهم ما يرونه صائبا، أو في سعيهم للتغيير، هذا تكرر في
كل العالم تقريبا، ربما في الدول الديمقراطية يحتمي المثقفون بالقانون، وبالرأي
العام، الذي له تأثير كبير في تلك الدول.
وقد شهد تاريخنا العربي الإسلامي عشرات الحالات لقمع وقتل أي صوت
معارض، مثلا: قَتل سفيانُ بن معاوية عبد الله بن المقفع بسبب كتابه الرمزي
"كليلة ودمنة"، فقطع يديه، وشواهما، وأجبره على أكل قضمة منها.. هشام
بن عبد الملك قطع أطراف غيلان الدمشقي، وتركه ينزف حتى الموت، بسبب أرائه في
القضاء والقدر.. وفي عهده قام والي الكوفة خالد القسري بذبح الجعد بن درهم ذبْح
الشياه تحت المنبر في صلاة العيد.. وفي زمن المقتدر بالله أُعدم الحلاج، بسبب
آرائه في التصوف.. وفي عهد المأمون والمعتصم سُجن وجُلد الإمام ابن حنبل لرفضه القبول
بقول خلق القرآن.. وفي عهد المتوكل، جُرّد الكندي، فيلسوف العرب، من ملابسه وهو في الستين، وجُلد ستون جلدة في ميدان عام،
لقوله بخلود الكون.. أما الخليفة الموحدي أبو يعقوب، فقد أحرق كتب ابن رشد، ونفاه
إلى مراكش، بسبب آرائه الفلسفية.. وهذا غيض من فيض..
في تاريخنا الحديث، اغتالت وأعدمت السلطات الاستبدادية عشرات الكتّاب
والمفكرين، بسبب آرائهم السياسية والفكرية؛ ولأن القائمة طويلة جدا، سنركز على
البلدان العربية، ونبدأ بآخر قتيل؛ عدنان خاشقجي، الذي اغتيل في القنصلية السعودية
في إسطنبول، وسط اتهامات بتورط النظام السعودي، الذي سبق له أن اختطف المفكر
اليساري ناصر بن سعيد، وألقاه من الطائرة في صحراء الربع الخالي.
ولو عدنا قليلا بالزمن سنذكر على سبيل المثال: في السودان، زمن
جعفر النميري، أُعدم المفكر محمود محمد طه بسبب آرائه حول الفترة المكية والمدنية،
ورفضه تطبيق أحكام الشريعة.. وفي مصر أُعدم سيد قطب بتهمة المشاركة في مخطط ضد الدولة..
وفي العراق أُعدم محمد باقر الصدر صاحب كتب اقتصادنا، وفلسفتنا..
وطبعا جرائم الاغتيالات والإعدامات لم تكن من تنفيذ السلطات فقط؛
فقد نفذ متطرفون العديد من عمليات الاغتيال بحق مفكرين، أبرز تلك الحالات: اغتيال
كل من مهدي عامل وحسين مروة، في لبنان، بسبب كتاباتهم اليسارية أواسط الثمانينات..
وفي مرحلة لاحقة، اغتيال الكاتب سمير قصير، وجورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي، والصحافي
جبران تويني..
وفي مصر اغتيال الكاتب فرج فودة، والكاتب والمؤرخ جمال
حمدان، والأديب يوسف السباعي، ومحاولة اغتيال فاشلة للأديب نجيب محفوظ، والأديب
مكرم محمد.. وفي الأردن اغتيال الكاتب ناهض حتر.. وفي الجزائر اغتيال الأديب مولد
فرعون، والأستاذ الجامعي جلال اليابس، والهاني بليس.. وفي تونس اغتيال المفكر
اليساري شكري بلعيد، والحاج محمد البراهمي.
أما إسرائيل فقد اغتالت كل من: الأديب غسان كنفاني، والمؤرخ عبد
الوهاب الكيالي، ورسام الكاريكاتير ناجي العلي، والسفير وائل زعيتر، والسفير محمود
الهمشري، والأديب ماجد أبو شرار.. وهؤلاء كان نشاطهم فكري ثقافي إعلامي..
في العراق، بعد الاحتلال الأمريكي، قُتل في غضون فترة قصيرة،
وبطريقة منهجية نحو 5500 أكاديمي عراقي. نصفهم يحملون لقب أستاذ جامعي، فضلا عن
قتل آلاف الأطباء.. ما بدا واضحا أن أطرافا خفية تقصد تفريغ العراق من المفكرين
والكفاءات العلمية والأكاديمية، وخنق أصوات المعارضة، وهناك مؤشرات على تورط
الموساد الإسرائيلي بهذا المخطط.
والأسلوب الثاني، الذي
تلجأ إليه الأنظمة والجماعات المتشددة هو التكفير؛ تكفير كل كاتب أو مفكر يكتب ما
لا يعجبهم، تمهيدا لهدر دمه وقتله، ربما أول تلك الحالات تكفير القضاء اللبناني
لصادق جلال العظم على كتابه نقد الفكر الديني، وتكفير القضاء المصري لنصر حامد أبو
زيد على كتابه نقد الخطاب الديني، وتكفير الخميني للروائي البريطاني سلمان رشدي
بسبب روايته آيات شيطانية..
وإلى جانب الاغتيالات والإرهاب الفكري، تمارس السلطات أساليب قمع
أخرى، أهمها السجن.. في الكويت مثلا، صدر حكم بالسجن 46 سنة، بحق النائب عبد
الحميد الدشتي بسبب تغريدة انتقد فيها دول الخليج على موقفهم من التورط في حرب
سوريا. وفي الإمارات قضت المحكمة بالسجن عشر سنوات مع غرامة مليون درهم على الناشط
الإماراتي أحمد منصور بسبب تغريداته، كما سجنت الكاتب الأردني تيسير النجار ثلاث
سنوات، بسبب بوست على فيسبوك، وفي السعودية حُكم على الشاعر الفلسطيني أشرف فياض
بالسجن ثماني سنوات مع 800 جلدة، بسبب قصائده. وفي قطر، حكم على الشاعر محمد بن
راشد العجمي بالحبس 15 عاما بسبب قصيدة، ثم أفرج عنه بعد أربعة سنوات.
وفي الأردن تم توقيف
المدون عمر زوربا بتهمة القدح، وسجن القيادي الإخواني زكي بني أرشيد، سنة ونصف،
بسبب بوست على فيسبوك، انتقد فيه قائمة التنظيمات الإرهابية الصادرة عن الإمارات.
وفي لبنان، حُكم على الصحافي محمد نزال بالحبس 6 أشهر بسبب تعليق
على فيسبوك انتقد فيه أداء بعض القضاة اللبنانيين. وفي الضفة الغربية تم استدعاء
الناشطة نائلة خليل والمدون رامي سماره بسبب كتاباتهم على فيسبوك.
وأيضا، يدفع الصحافيون
ثمنا باهظا لتمسكهم بحقهم في حرية التعبير، ومن أجل إيصال صوتهم للناس، وحسب تقرير
لليونسكو، قُتل بين عامي 2006 ~ 2017 أكثر من 1050 صحفيا، في مختلف أنحاء العالم، وفي
كل سنة يزيد العدد.
سواء اتفقنا أم اختلفنا مع هؤلاء الكتاب والأدباء والمفكرين، الذين
أعدمتهم أو سجنتهم أنظمة القمع والاستبداد، أو اغتالتهم قوى التطرف والإرهاب.. لا
بد أن نقف احتراما لتضحياتهم، ونحيي شجاعتهم في قول قناعاتهم، وأن ندين محاولات
إسكاتهم، والتي هي محاولة لإسكات وإرهاب غيرهم، حتى تظل تلك الأنظمة ممعنة في غيها
وفسادها، وتظل تلك القوى والجماعات الإرهابية ماضية في مشروعها الظلامي..
"لكل إنسان الحق في اعتناق آرائه دون مضايقة. والحق في حرية
التعبير".. العهد الدولي لحقوق الإنسان.
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".. حديث شريف.
أشعر بالخجل حينما أقرأ نهاية بائسة لمفكرين عظماء سواء قديم أو معاصر .
ردحذفكان يمكن للسلطة أن تحابيهم أو تتركهم او تنفيهم .