أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 09، 2018

تكريم الأموات



غادرنا إلى مثواه الأخير، قبل فترة وجيزة، المفكر الفلسطيني سلامه كيله، ومن قبله رحل خيري منصور، وسمير سلامه، ومي إسكاف، وياسر المصري.. والقائمة تطول.. ليس بين هؤلاء الراحلين رابط فكري أو سياسي معين.. لكنها ظاهرة تتكرر مع كل الراحلين المبدعين؛ تكريمهم المتأخر!

بعد رحيلهم مباشرة، تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بصورهم، وتبدأ المواقع الإخبارية بتعداد مناقبهم، وذِكر مآثرهم، ثم يأتي النقاد والمثقفون فيستعرضون نتاجهم الأدبي والفني والثقافي.. وهذا حسنٌ؛ فيه لمسة وفاء لذكراهم، وتعريف الناس بهم.. ولكن..

 قبل رحيلهم، تقريبا لم يكن يعرفهم أحد، أو نعرف عنهم القليل، والغامض.. قبل موتهم كانوا منسيين، يناضلون بضراوة لحفر أسمائهم في سجل الإبداع، يدفعون مدخراتهم لطباعة كتاب، يتوسلون أصدقاءهم لحضور أمسية شعرية، يطرقون أبواب المسؤولين لإنتاج فيلم، يرجون الشركات الكبرى لرعاية معرض فني، يشحدون من رجال الأعمال لإنتاج مسرحية، يتوسلون الأمن لحمايتهم من بطش الغوغاء والمتطرفين، يهدون كتبهم لعابر الطريق على أمل أن يقرأه..

طبعا، ودون شك، من بين الراحلين قامات كبيرة ومشهورة، وأعمالهم تتحدث عنهم، وهم ليسوا بحاجة أحد.. لكن، منهم أيضا من بدأ مشواره بصعوبة، وشق طريقه بكفاح مرير، فمنهم من أحرز النجاح، وصار اسمه يطبق الآفاق، ومنهم من ظل محليا، بالكاد تعرفه دائرة الأصدقاء والمعارف الضيقة.. وهذا طبيعي؛ فالمواهب والقدرات والمثابرة ليست متساوية..

عادة، الحكومات ووزارات الثقافة والمؤسسات ذات العلاقة لا تنتبه للمبدع إلا في حالتين: حين ينجز عملا خارقا، أو بعد وفاته.. وقد اعتادت الدول تكريم مبدعيها بعد موتهم، فتقيم لهم الأمسيات الفخمة، وتمنح ورثتهم شهادات التقدير، وتبني لهم نُصبا، وتسمي الشوارع والمدارس بأسمائهم.. وفي حالات قليلة تكرمهم وهم أحياء، أو على حافة قبرهم..  

لكن، هل الجهات الرسمية هي وحدها المقصرة في هذا الشأن؟ بالتأكيد لا.. نحن المواطنون العاديون، ومن يعدون أنفسهم نخبا مثقفة، أكثر تقصيرا.. على سبيل المثال، في الأمسيات الثقافية تكون القاعات شبه خاوية.. يطبع المؤلف مثلا ألف نسخة من كتابه، ويكون محظوظا إذا باع منه مائة، ومحظوظا أكثر إذا قرأه منهم خمسون.. النقاد لا يلتفتون للكتاب إلا إذا فاز بجائزة ما، وحتى المثقفون فإنهم لن يتناولون الكتاب إلا في سياق بحثهم عن أخطاء، ومن باب المناكفة.. وأغلب الكتّاب والأدباء والمثقفون، لا يقرؤون لبعضهم البعض، لا يدعمون بعضهم بالنصح والنقد البنّاء..

في المعارض الفنية، يأتي بضعة عشرات، يتجولون في القاعة، وهم يثرثرون بمصطلحات استعراضية عن الفن التكعيبي، ولا أحد منهم يشتري لوحة.. تتكرر الصورة، ولكن بدرجة أقل، في معارض الكتاب؛ حيث يأتي أكثر الناس للفرجة، يجدون سعر الكتاب غاليا، حتى لو كان أقل من سعر علبة السجائر.

ندعي أننا ندعم الثقافة والأدب، وفي حقيقة الأمر نفعل العكس، بعضنا يريد الحصول على كل شيء بالمجان: مشاهدة مسرحية، اقتناء كتاب، حضور حفل غنائي، الحصول على الألبوم الجديد لفنان بالكاد يجد قوت يومه، حتى لو كانت المسرحية أو الفرقة الموسيقية تضم العشرات بين موسيقيين وممثلين وفنيين.. لا يهمهم أن يعرفوا التكاليف، والتعب، والجهد الذي بذله مخرج المسرحية، أو مؤلف الكتاب، أو المطرب، أو الفنان الاستعراضي..

كان هذا المبدع ينتظر منا دعما.. حتى لو كانت كلمة شكرا، أو إشارة لايك على منشوره، أو شراء كتابه، أو ألبومه، أو لوحته، أو تذكرة مسرحيته.. كان هذا الدعم سيشجعه، سيحفزه على تقديم المزيد، كانت كلمة أبدعت وأحسنت ستعزز ثقته بنفسه، وكان النقد سيصوب مساره، وسيدفعه لتطوير أسلوبه.. الناس يظنون أن المثقف والمبدع إنسان صلب متماسك.. في حين أن المبدع الحقيقي هش، بل شديد الهشاشة، وهواؤه الحقيقي تفاعل الناس معه.. لأنه دون ذلك، سيظن أنه يكلم نفسه، أو يصرخ في وادي منسي..

بعد رحيل المبدع، يصبح الكل صديقه! الآن، وقد ووري الثرى، كل كلمات الرثاء والمديح والتبجيل وأكاليل الزهور لن تفيده بشيء..

لا يتوقف الأمر عند الفنانين والمبدعين.. نفس الشيء ينطبق على علاقاتنا اليومية.. بأهلنا، وأحبتنا، وأصدقائنا، وزملائنا، وجيراننا..

أمك، التي لا تزورها إلا في المناسبات، ولا تصبر على طلباتها، وتتذمر من حاجاتها الصغيرة.. بعد رحيلها، ستندم على كل لحظة ضاعت بعيدا عنها، ستحن إلى لمستها، إلى صوتها.. بينما كانت بين يديك، وأنت عازف عنها!!

والدك المسن، الذي ضيعت عمرك بعيدا عنه، كان سيفرح كثيرا لو أهديته وردة.. الآن وهو في الأبدية، لن يتأثر لو زرعت فوق قبره كل ورود الأرض..

صديقك البعيد، أو القريب، ولكنك منشغل عنه، وتمنّي النفس بلقائه، وتؤجل الاتصال به يوما بعد يوم، حينما تهم بلقائه ستكتشف أنك جئت متأخرا.. جدا..

زميلك في العمل، الذي تقف له بالمرصاد، وتناكفه كل يوم، ستكتشف بعد رحيله كل الجوانب الإيجابية في شخصيته، وأنه كان يمكن أن يكون صديقا..

جارك الذي تقاتلت معه على نصف متر من الأرض، وقريبك الذي خسرته لسبب ما لم تعد تتذكره، ستعرف بعد رحيله أنه كان طيبا، وكان يمكن لحياتكما أن تكون أجمل، لو تحليتم ببعض التسامح..

شعورنا بالندم على ما فات، أقوى من شعورنا بالامتنان تجاه ما هو حاضر.. التعبير عن شعورنا بالكراهية والغضب، أسهل من التعبير عن شعورنا بالحب والرضا..

وهذه من طبيعة البشر، وسمات ضعفهم.. نعجز عن قول: شكرا، وآسف، وأحبك.. في وقتها.. ونقولها متأخرين.. أي بعد فوات الأوان..

قل لمن تحبه إني أحبك.. ولمن أعجبك أنه أعجبك.. لا تتردد.. فالحياة قصيرة، وخاطفة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق