تدور أحداث فيلم جانغو الحر (Django Unchained)، الفائز بجائزتي أوسكار، في الجنوب
الأمريكي في فترة ما قبل الحرب الأهلية، حيث يرتحل العبد المحرر "جيمي فوكس"
مع صائد الجوائز "كريستوف والتز" لإنقاذ زوجته من العبودية، التي كانت
في منزل إقطاعي متوحش "ليوناردو ديكابريو".. ويسلط الفيلم الضوء على
ظاهرة عبيد الحقل وعبيد المنزل، حيث يجسّد شخصية عبيد المنزل "صاموئيل
جاكسون"، الذي يكون أكثر وحشية وقسوة من أسياده ضد أبناء جلدته.
في فترة العبودية في أمريكا، كان مالكُ العبيد يفرّق بين
فئتيْن، الأولى: فئة عبيد المنزل، التي ينتقيها لخدمته، وللقيام بشؤون منزله. والفئة
الثانية عبيد الحقل، الذين يفرض عليهم العمل الشاق في الحقول.
كلا الفئتين مملوكتين لسـيّدهما، الذي يضهدهما، ويتدخل
بتعسف في كل شؤونهما، ورغم ذلك، إلا أن الفئتين تعيشان في عالميْن مختلفيْن. في
المنزل يرى العبيد أنفسهم أفضل، باعتبارهم النخبة المختارة، وفي مرتبة أعلى من
عبيد الحقل، فيشعرون بسعادة حين يقارنون وضعهم مع عبيد الحقل، الذي يهلكون كل يوم،
لمجرد بقائهم أحياء.
لذلك، عندما حرر "لنكولن" العبيد بعد الحرب
الأهلية، رفض عبيد المنزل الحرية، ومنهم من فضّل البقاء في منزل العبودية، بينما
عبيد الحقل هم الذين ثاروا، وهم الذين فرحوا بتحررهم.
قارن الناشط الحقوقي "مالكولم إكس" بين عبيد
المنزل وعبيد الحقل، ليشير إلى حالة تتكرر في كل العالم، وليس فقط في أمريكا. ليفسر
لنا قدرة السلطة، في أي مجتمع، على ضمان استمرارها، وضمان مصالحها عن طريق توليد
وإدامة تراتبية هرمية بين الناس، تتمتع كل مرتبة أعلى فيها بميزات فعلية أو رمزية
لا تُتاح للأفراد في المرتبات الأدنى. وتسعى السطلة دائما إلى ترسيخ وتوسيع الحدود
الفاصلة بين تلك الطبقات والفئات الاجتماعية، تماما كما كان يفعل السيد في التفريق
بين عبيد المنزل وعبيد الحقل، بما في ذلك إشراف عبيد المنزل على عبيد الحقل، بل وقمعهم.
ومن هنا يمكن فهم كيف يصبح الفقراء أدوات طيعة في يد السلطة،
بل وجعل الأغنياء كذلك؛ حيث تتولد مجموعة من المصالح والعلاقات لكل طبقة، بحيث
تكون مرتبطة بشكل أو بآخر بوجود السلطة، وببقاء حالة التراتبية. وتنجح السلطة في
ذلك عن طريق إيجاد حالة من الاستقرار في المجتمع؛ بين فئاته من جهة، ومع السلطة
نفسها من جهة ثانية، وحجر الزاوية في هذا المنهج هو إيجاد ما يسمى بالمواطن
المستقر.
ولتوضيح مصطلح "المواطن المستقر"؛ كتب المفكر
الفرنسي "إيتيان دولابواسييه" في كتابه "العبودية الطوعية":
"عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية،
وتتلاءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر".
المواطن المستقر، هو الذي خضع للسلطة، وتكيف مع المجتمع، حتى
صار راضيا وقانعا بوضعه (حتى لو كان بائسا)، وتنجح السلطات الدكتاتورية في خلق
المواطن المستقر من خلال آليات معينة؛ أولها الأسرة، ثم المدرسة، ووسائل الإعلام
الرسمية، وأخيرا الوضع الاقتصادي.
تخنق الأسرة حرية الطفل، وتطالبه بالامتثال لقيم المجتمع،
ثم تأتي المدرسة لتحد من خيال الطالب، وتقيد نموه الذهني، وعقليته النقدية، وتقتل
فيه روح التمرد، من خلال المناهج، والنظم، والامتحانات، والحشو، والتلقين، ما يجعل
الطالب في حالة قلق دائم، الأمر الذي ينمي فيه نزعة الانضباط.
وتستخدم الأسرة والمدرسة آليات الضبط والتوبيخ والعقاب،
لإنتاج أجيال مكررة تسير على نفس المنوال الذي يحدده المجتمع، ثم يأتي دور
الإعلام، الذي يمجّد السلطة ومنجزاتها، ويعظم الزعيم ومآثره، ويطالب المجتمع
بالامتثال للنظم السائدة، في حين يؤسس النظام الاقتصادي القائم فئات وشرائح تقوم
على أساس التراتبية والفصل الطبقي، بحيث ينتظم المجتمع بأسره على إيقاع السلطة.
وفي النهاية يتشكل المواطن المستقر؛ وفي واقع الأمر، يظل
المواطن مستقرا من خلال ثلاث ضوابط: انشغاله بلقمة العيش، الدين، ووسائل التسلية
والسلوان..
الفقراء والفئات الضعيفة تتكيف مع الوضع القائم من خلال خلق
عالمها الخاص، فيظل المواطن يركض ويجاهد لتأمين قوته اليومي، دون أن يجد الوقت
لممارسة أي فعاليات عامة، فهو لا يعبأ إطلاقا بحقوقه السياسية والمدنية، وكل همه
تربية أطفاله وتعليمهم، وتزويج بناته.. الدين، أو بعبارة أدق التدين الشكلي، يمنحه
السلوان والشعور بالقناعة، والرضا بما قسم الله، فالدين عند المواطن المستقر لا
علاقة له بالحق، إنما هو مجرد طقوس وشعائر، لا علاقة له بالأخلاق والسلوك، فقد تجد
المواطن المستقر متدينا (شكليا) لكنه لا يتورع عن الكذب والاعتداء على حقوق الغير،
ويستاء فقط إذا رأى مفطرا في رمضان.. في حين تعوّض وسائل التسلية حاجاته النفسية
غير الملباة، والتي حرم منها، ولعل كرة القدم ومتابعتها أكثر وسائل التسلية رواجا
في العالم..
وأكثر من كتب عن مفهوم المواطن المستقر الروائي المصري علاء
الأسواني؛ فيشرح كيف ولماذا يفضّل "المواطن المستقر" الاستقرار (مع
القمع والظلم)، على أي محاولة للتغيير؛ "فالمواطن المستقر نشأ وعاش في ظل
الاستبداد، وهو مقتنع بأن الرئيس من حقه أن يفعل ما يريد، وأن الحكومة ستظلمه
وتسرقه في كل الأحوال. لقد يئس تماما من تحقيق العدل، فأنشأ عالمه الصغير المنعزل،
وتعلم كيف يتعايش مع الظلم والفساد حتى يحصل على الحد الأدنى من حقوقه. إذا كان دخله
متدنيا سيتعلم كيف يتلقى رشاوى صغيرة يستعين بها على الحياة، ويتعلم كيف يذعن أمام
مديره في العمل. وهكذا يصبح ولاء المواطن المستقر الوحيد لعائلته، فهو يكافح بضراوة
من أجلها، لكنه خارج نطاق أسرته لايعنيه ما يحدث اطلاقا. إنه لا يشارك في الانتخابات،
ولا يعبأ بانتهاك الدستور، أو قمع الحريات، لكنه يتحايل ويكذب حتى لا يدفع اشتراكه
في مصعد العمارة التي يسكنها".
ويفسر الأسواني سبب كره المواطن المستقر للثورة؛ أولا لأنها
تعطل مشروع حياته الرتيب، ولا تقدم بديلا فوريا، ثانيا لأنه تأقلم مع الاستبداد،
فلم يعد النضال من أجل الحرية من أولوياته، ثالثا: لأن وجود شباب الثورة الذين يضحّون
من أجل مبادئهم يحرجه أمام نفسه، لأنه عاش يعتبر الجبن عين العقل، والإذعان منتهى
الحكمة..
ويضيف الأسواني: المواطن المستقر يحتاج إلى البطل، ليس فقط
لأنه ضعيف، ولكن لأن البطل سيعفيه من الاهتمام بالشأن العام. يحتاج إلى "زعيم"
حتى لو كان فاسدا وظالما ليمسك بزمام الدولة، حتى يتفرغ هو لمشروع حياته. يقبل
بالدكتاتورية لأنه يرى أن الشعب لا تصلح معه إلا القوة.
لذلك، في كثير من المجتمعات تتوفر جميع عوامل الانفجار،
وأسباب الثورة، ولكن لا يحدث شيء! والسبب "المواطن المستقر" الذي بات ركيزة
للنظام المستبد، وصار العائق الحقيقي أمام التقدم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق