بعد أن أنهت العائلة تناول عشاءها، طلبت سامية من
ولديها سامر وتالا غسل أسنانهما، والتوجه فورا للنوم، بعد نصف ساعة تبعتهما إلى
غرفتهما الصغيرة، وجدتهما منهمكين بهاتفيهما الذكييين، أمرتهما بنبرة صارمة أن
يغلقا هاتفيهما على الفور، ثم أطفأت النور، وأغلقت الباب بهدوء.. عادت الأم بعد
دقيقتين، فوجدتهما ما زالا يلهوان.. أدركت أنهما يماطلان، رمقتهما بنظرة عتاب
ورجاء، بيد أنهما لم يعيراها اهتماما، ولتدارك الأمر، اقترحت عليهما قص حكاية
ظريفة، حتى يناما.. وافقا على الفور..
جلست سامية على طرف السرير، وبدأت تسرد: كان يا ما
كان، في قديم الزمان، ولد شاطر اسمه نص نصيص.. قبل أن تسترسل، قاطعاها بصوت بصوت
احتجاجي واحد: لقد حفظنا هذه القصص غيبا، ألم تدركي أننا كبرنا!! ثم أضافت تالا:
لم لا تقرأي لنا من كتاب أساطير الأولين، فقد تصفحته قبل أيام، ووجدته مثيرا..
لكنها قصص صعبة، وفيها ترميز قد يصعب عليكما استيعابه، وربما تكون مملة لمن هم في
سنّكم، أجابت الأم.. جربي، ربما كانت قصصا مسلية.. قال سامر..
حسنا، قالت الأم، ثم غابت دقيقة، وعادت بيدها
الكتاب، جلست على الأريكة باسترخاء، وفتحت صفحة الفهرس، ثم قالت بنبرة حماسية:
سنبدأ بقصة الأم جمالات، ثم تلفتت إلى طفليهما قائلة: عليكم الانتباه، بأن أحداث
هذه القصص قد جرت قبل الأنبياء والديانات السماوية..
في زمن بعيد، في بلدة ما، ربما كان اسمها مكاندا، يُقال
إنها في أرض الحبشة، عاشت أول قبيلة بشرية؛ كانوا بضعة آلاف، يعيشون معا، وفق نظام
المشاع الأول، كانوا جميعا أشبه بأسرة واحدة، يخرج الرجال والشبان اليافعون للصيد،
وتظل النساء بانتظارهم طيلة النهار، وأحيانا لأيام متواصلة، كنَّ يشغلن أنفسهن
بالأطفال، وإعداد الطعام، وجمع الحطب، وترميم بيت القبيلة الكبير، المبني من
الأخشاب والبوص، وبين فترة وأخرى يصنعن ما يحتجن من آنية فخارية..
في أغلب الأيام كان الصيادون يعودون بخفي حنين، بلا
شيء تقريبا، فيكتفون بما جمعته النسوة من ثمار برية، أو من حشاش الأرض.. وأحيانا
يعودون بجاموس بري، أو خنزير، أو وعل صغير.. فتقوم النساء بسلخ الطريدة، وتقطيعها،
وإيقاد النار، والطهي.. يجلسون في مجموعات، يتناولون طعامهم بصمت، أو بقليل من
الكلام..
- ماذا كانت تدعى لغتهم؟ سألت تالا..
تفاجأت الأم من السؤال، صمتت برهة، ثم ارتجلت
إجابة: في الواقع، لم يكن لتلك اللغة اسم، فقد كانت اللغة الوحيدة الموجودة آنذاك،
فلم يجد أصحابها حاجة لتسميتها..
عادت سامية للقصة، في الوقت الذي أخذ النعاس يداعب
جفون طفليها، بالكاد أكملت صفحتين، حتى كان الطفلان يغطان في نوم عميق، غطتهما
برفق، ثم عادت لأريكتها وكتابها، لتكمل قراءة القصة لنفسها..
أمام تلة ضخمة، تتوسط القرية، في قمتها تماما ينتصب
تمثال صغير من الطين بطول متر تقريبا لما يشبه المرأة، جلس ماخو وشيا يتأملان
التمثال بخشوع ورهبة، قال ماخو لصديقه: غدا سيهدمون تمثال جمالات، وسينحتون واحدا
آخر، أضخم وأطول..
عاشت جمالات وماتت قبل ماخو وشيا بعشرات السنين، لم
يدركاها، لكنهما سمعا عنها الكثير.. كانت أجمل نساء مكاندا، يُقال أن طولها تجاوز
السبعة أقدام، وأنها عمّرت أزيد من مائتي عام، وكان صدرها ممتلئا بالحليب، حتى
أنها أرضعت كل أبناء القرية، وكانت تشبعهم، وتحنو عليهم، كانت أماً للجميع، فقد
أنجبت أزيد من ألفي ولد وبنت.. كل أبناء القرية أتوا من رحمها.. كان الأطفال
يلجؤون إليها كلما أحسوا بالجوع.. أما الرجال فكانوا يمارسون معها الجنس بكل عاطفة
جياشة، لم يبقَ رجلٌ إلا ولج رحمها، ولثم نهديها..
رمقت سامية ولديها نظرة سريعة، وشعرت براحة خفية
لكونهما نائمين، وقالت محدثة نفسها: حمدا لله أنهما في سبات عميق، فلا يصح أن
يسمعا مثل هذه التوصيفات التي لا تليق بمن هم في هذا العمر.. ثم عادت لقصتها..
انشغل النحاتون سنة كاملة في نحت تمثال جديد، يليق
بالأم جمالات، صخرة ضخمة من الجرانيت القرمزي، استسلمت لعشرات الفؤوس الحجرية، حتى
تشكلت ملامح أنثوية كاملة: وجه مستدير يوحي بلمسة من الطيبة، عينين واسعتين تشعان
بريقا، فيهما نظرة تنبيء بالحنان، عنق طويل شامخ، ثديين كبيرين بارزين للأعلى في
أوسطهما ما يشبه الحلمتين، خصر مستدق، فخذين مكتنزين، تتوسطهما فتحة مستطيلة، تقف
منتصبة تباعد بين ساقيها مسافة صغيرة.. تمثالٌ بديع، يثير في نفس من يراه شهواته
كلها..
كان شبان القرية يحجون لتمثال جمالات كل يوم
تقريبا، يطوفون حوله، يتأملون جماله وبهاءه، يحكّون أعضاءهم الجنسية به، يقذفون
منيهم، ثم يخرون ساجدين.. يروحون ويأتي غيرهم.. حتى النساء كنَّ يأتين فرادى
وزرافات، يفركن أثداءهن بجسدها العاري للتبرك، لعل أثداءهن تتمليء بالحليب..
ليس التمثال وحده من كان عاريا؛ كان كل رجال القرية
ونسائها عرايا تماما، كان بوسع أي ذكر أن ينكح أية أنثى، وقتما يشاءان، كان كل طفل
يحسب أي امرأة في القرية أمه، فيرضع منها كلما قرصه الجوع، وأي رجل يحسب أي طفل
ابنا له، فيوبخه، أو يصطحبه للصيد، لا أعمام ولا أخوال، ولا عمات ولا جدات؛ الجدة
الوحيدة جمالات، يحبها ويبجلها أهل القرية جميعا، لا أحد يملك بيتا خاصا به، أو
شجرة يحتكرها لنفسه.. حياة في منتهى البساطة..
كان موكا أول شخص يقع في حب امرأة بالذات، كان
اسمها سيوكي، كان يشتهيها بشدة، ويمنع أي رجل آخر من الاقتراب منها، وذات مرة، وهو
عائد من الصيد، رأى سيوكي ومن فوقها شيفاي يضاجعها تحت شجرة الكينا، وهي تصرخ
بتقزز، لم يتمالك أعصابه، فقتله على الفور، طعنه بصدره بفك حمار مدبب..
وحتى لا يتكرر الأمر، ويضطر لقتل غيره ممن
يشتهونها، قرر ذات ليلة ظلماء، أن يحملها، ويرتحلا بعيدا عن مكاندا وشبانها
الشبقون، كانا أول من يترك القرية، مشيا ثلاثة أسابيع متواصلة، ومعهما جحش صغير،
تناوبا على امتطائه، حتى وجدا عين ماء، تحيطه أشجار كثيفة من البلوط والصنوبر،
وشجيرات من الزعرور، وشجرة تين وارفة.. كانا متعبين جائعين، نظرا إلى بعضهما كمن
عثر على كنز، بالنسبة لهما فهما بأشد الحاجة لمبيت، وتناول أي شيء، وبالنسبة
للحمار، سيكون لديه ماء، وظل، وحقل فسيح من الحشيش، وتلك كل نعم الدنيا في نظره.
هناك بنيا منزلهما الصغير، جدرانه من القصب اليابس،
وسقفه من سعوف الهيدرا، كانا ينجبان كل سنة طفلا، وعلى مدى عشرين سنة، كانا قد
أنجبا ستة عشر ولدا وبنتا، مات معظمهم قبل أن يتموا عامهم الأول..
اعتاد موكا وسيوكي وأطفالهما على زيارة مكاندا من
حين لآخر، لم تكن القبيلة ترحب بهم، ولكنها لم تطردهم، مع الوقت قلت الزيارات،
وتباعدت، حتى صارت تفصلها السنوات.. في سنته الأخيرة قبل موته، لاحظ موكا أن نساء
القرية أخذن يغطين فروجهن بخرقة من القماش، وكذلك صار يفعل بعض الرجال.. الأمر
الذي صار يخفف من حدة الاندفاعات الجنسية، وبالتالي خفض عدد حوادث التصادم بين
الرجال..
جمعت سيوكي أبناءها، وقد اشتد عودهم، وبرزت
عضلاتهم، وقالت لهم بلهجة آمرة: من أراد منكم النكاح فليختر أية فتاة من مكاندا،
أما هنا فلا، وكانت تقصد حظر نكاح الشقيقات، ثم وجهت حديثها نحو بنتها الكبرى،
وبلهجة وعظ لينة، قالت لها: ليس لك أن تفتحي رجليك لأي رجل، اختاري رجلا واحدا
فقط، رجل واحد يحميك ويؤمّن لك عشاءك..
ظل أبناء موكا يعودون مكاندا بين فترة وأخرى، وفي
كل مرة يحرصون على زيارة تمثال الأم جمالات، التي طالما سمعوا عنها من أمهم
الحكايات، لم تعد جمالات مجرد تمثال مثير لإمرأة مثيرة، أو مجرد ذكرى طيبة لأم
حنون؛ صارت إلها مقدسا، ومزارا مباركا، تذبح تحت قدميها القرابين..
"يا أمنا الرؤوم، يا جميلة الجميلات، بحق رب
السماوات، انثري بهاءك في الأرض الفسيحة، امنحيها خصبك الدائم، دعي الأشجار تنبت
من رحمها، كما نبت أولادك من رحمك، فيضي علينا من حليبك، أنثري دمك الشهري المقدس
على وجه القمر، حتى يبزغ من جديد"..
كانت سيوكي تتحدث عن جمالات بإجلال وإكبار، وتصف
أيامها بالكثير من الحنين، وتتحسر على تلك الحقبة التي كانت النساء فيها مطاعات،
لهن الكلمة الفصل في أي خلاف، لا يجرؤ رجل على إغضاب إمرأة، أو نكاحها غصبا عنها..
ظلت مكاندا قرية مطمئنة مسالمة، لم تعرف الحروب،
ولا الغزوات؛ حتى بلغ أشيرو عامه الثامن عشر، وكان هذا سنا متقدما في تلك الأزمنة
السحيقة، كان أشيرو ذا طبع حاد، مفتول العضلات، سريع الحركة مثل فهد، قلبه لا يعرف
الرحمة، وفي تلك السنة المنحوسة، انحبس المطر، وجاء الصيف قائظا حارا، وحين التقت
الغيمتان الوحيدتان اللتان عبرتا سماء مكاندا اشتعلت الصواعق والبروق، واحترقت
الغابة المطيرة، وفرت منها حيواناتها.. وطوال ذلك العام والأعوام التي تلته لم يجد
الصيادون ما يقتاتون عليه، ولم تجد النساء ما يجمعنه من ثمار الأرض وحشاشها، فشح
الطعام، وجاع سكان القرية، وضاقت بهم الحال.
أخذ أشيرو عشرة من أتباعه، ثماني رجال وامرأتين،
ومعهم بعض الماشية الهزيلة، وسار بهم مئات الأميال، حتى وجدوا حقلا من الشوفان
والشعير، يعبره جدول صغير، تنمو على جنباته بعض شجيرات الكسافا، وتمتد في آخره
غابات من أشجار الباوباب المعمرة..
هنا مسكننا الجديد، صاح أشيرو بنبرة فرحة، وعلى
الفور، بدأ أتباعه بقطع جذوع الشجر، وتجميع الأخشاب والجريد، وراحوا يبنون له
مسكنا واسعا، ولما انتهوا، أحاط منزله بسور من الحطب، وقال لهم بصوت واثق هاديء:
هذا مسكني وحدي، والأرض المحيطة به ملكي، فلا يقربها أحد، وعليكم بناء مساكنكم
الصغيرة على مسافة ميل على الأقل..
عاش أشيرو وجماعته في قريتهم الجديدة، والتي صار
اسمها أديسو، تكاثروا، وقويت شوكتهم، وصاروا يغيرون على مضارب سيوكي، والتي صارت
سيدة قومها، وسالت دماء غزيرة من الطرفين..
بعد أربعون عاما، أغار أشيرو على مكاندا، نكّل
بسكانها، ونصّب نفسه سيدا عليهم، وكان أول ما قام به، تحطيم تمثال الأم جمالات، إنهال
عليه ضربا، بلا رأفة، هشّم رأسها أولاً، ثم قطع يديها، ثم بضربات متوالية فتّتَ
قدميها، فوقعت على الأرض، ولم يبقَ منها سوى الفخذين وما بينهما، متصلين بالصدر؛
مجرد جسد لا يثير سوى شهوة الذكور المنتصرين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق