راح الناس يتداولون
أخبار الحاكم الجديد، يحدثون بعضهم بعضا بإعجاب عن قوة شخصيته، عن صولاته وجولاته،
وأنه لم يخسر معركة قط مع جيرانه الغزاة منذ مجيئة للحكم.. ورغم تباين آرائهم حول
شخصيته؛ إلا أنهم كانوا مرتاحين لما قام به من فرضٍ للأمن، وقطع دابر العصابات،
وقطاع الطرق..
كان "لو شونغ
لي" عظيم البنية، راجح العقل، حاد الذكاء، عيناه ضيقتان ترميان نظرات حادة،
تصيب من تقع عليه بالهلع.. هيئته توحي بالعظمة، إذا مشى أو تكلم له مهابة الملوك..
لم تمضِ سوى سنوات
قليلة على حكمه حتى دانت له البلاد والعباد بالولاء والطاعة..
على مقربة من منطقة
كراماي، في إقليم شينغيانغ، حيث يمر نهر ايرتكس هادرا في طريقه نحو الجنوب الشرقي،
عابرا إقليم تشينغهاي.. هناك في شمال غربي الصين، حكمت أسرة شانغ قرون طويلة، في
حقبة أفول حضارة اليانع شو، وصعود حضارة لونغ شان..
اتسمت هذه الأسرة بالقسوة
والبطش، وقد توارث ملوكها الحكم بانقلابات دموية، كان يعقبها في كل مرة حروب أهلية
مدمرة، تترك البلاد قاعا صفصفا، كهشيم أصفر، بالكاد نجا من حريق، واستمر هذا الحال
حتى أتى "لو شونغ لي" وأسس عهدا جديدا..
لم يركن "لو
شونغ لي" إلى الجيش وحده؛ فقد نشر مجموعات من العسس تجوب الشوارع، وتدهم
البيوت في أي وقت، وتبث الرعب في قلوب
الأهالي.. ورغم سطوته وتجبره؛ إلا أنه اهتم بالفلاحين والحرفيين والصنّاع، وقد
تطورت البلاد في عهده على نحو ملحوظ.. ومع كل هذا، كان دائم التوجس، يشك حتى في
أقرب معاونيه، وقد أعدم بعضا منهم، لمجرد الظن..
ذات يوم، خطرت بباله
فكرة، استدعى سدنة المعبد إلى قصره، وأولم لهم عجلا سمينا، وحدثهم عن مشاريعه،
ومخططاته بخطوطها العامة، كانت نبرة صوته وإيحاءات جسده توحيان بالثقة والصرامة؛
بيد أنه في نهاية اللقاء، أسرَّ إليهم بمخاوفه وشكوكه.. وأنه يفكر ببناء سجون
ضخمة، تستوعب الخارجين عن القانون، الأمر الذي سيكلفه الكثير، من مصاريف البناء،
والحرس، والقضاة...
أجابه كبير السدنة
"وونغ شو" بصوت واثق هادئ: مولاي، لا حاجة لك لبناء السجون والقلاع،
سنجعل كل واحد من رعاياك سجين نفسه ومخاوفه.. فقط، أنظرنا بعض الوقت..
على مدار شهر كامل،
ظل مجمع الكهنة في انعقاد دائم، تجادلوا طويلا، اتفقوا واختلفوا، كتبوا، وشطبوا،
وأعادوا الكتابة؛ حتى خرجوا في نهاية المطاف بمخطوطة من ثماني عشرة صفحة، أشبه
بالكتاب المقدس، تناولها وونغ شو بمزيد من مشاعر الرضا والزهو، وخط بيده عنوانها على
الصفحة الأولى: "الدارما - كتاب الصين المقدس".
مما جاء في الدارما:
سفر البدايات:
الملك المبجل صاحب العظمة والرفعة "لو شونغ لي"، سليل الألهة، وابن الرب
الأكبر "نهاندرا سين"، إله الهند والصين، حامي البلاد وقاهر التنانين،
أول الأولين وآخر الآخرين...
وفي سفر الكبائر
والصغائر ورد: يُحـرّم على شعب الصين لبس الحرير، أو النوم في السرير،
ويُـحـرّم الثوب المزعفر، واللون الأصفر.. بعد المغيب بساعة يمنع إضاءة الفوانيس،
أو أكل المقاديس.. لا يجوز ذكر اسم الحاكم دون أن تسبقه ألقابه الثلاثة: المبجل،
المعظم، سليل الرب الأكبر، ويحرم على عامة الناس الاقتراب من قصوره، وقصور
أولاده..
وفي سفر الطاعات:
كل عام يدفع الفلاح عُشر حصاده وخُمس ماشيته، ويضعها في خدمة الملك وحاشيته.. على
كل نجار وبناء، وكل نحات ورسام، وصانع فخار، ونافخ زجاج، وكذا جامعي اللاليء
والأصداف والياقوت.. أن يصنع ما جادت به يداه لقصر الملك مرة كل عام..
وفي سفر القيامة:
لكل إنسان ظله، يلازمه في حله وترحاله، يسجل أخباره، ويدون ما نطق به لسانه، ليطلع
عليها الملك يوم الحساب الأعظم.. من أحسن الأدب فلنفسه، وسيجازيه الملك بكل سخاء،
ومن أساء التصرف سينال العقاب الشديد..
يعلن الملك كل مائة
عام، في ميقاتٍ لا يعلمه إلا هو، موعد يوم الحساب..
من رضي عنه الملك،
سيق به إلى أرض النعيم، هناك في وادي الأعناب والنخيل، حيث الظل الظليل، والماء
الوفير، والبيت الفسيح، والنساء الحسان، يحيا رغيدا مائة عام على الأقل، دون نصب
أو ملل..
من جاء بالسيئات، فله
أرض "جدد"، في صحراء تشينغهاي، حيث الشمس القائظة، والأفاعي اللاسعة،
والضباع الجائعة، حتى يلقى حتفه هناك مدحورا ذميم، أو تخلّد روحه في الجحيم..
حمل السدنة كتابهم
وراحوا به إلى قصر الملك "لو شونغ لي"، أذن لهم الحرس بالدخول، انحنوا
أمامه بتواضع ولين، ثم تقدم كبيرهم، وقال: ايها الملك العادل، هذا كتابك بين يديك،
نرجو أن ينال رضاك.. تناول الملك الكتاب، وتصفحه بروية وتمهل، ثم تبسم راضيا، وأذن
لهم بالانصراف، بعد أن أجزل لهم العطايا..
لم تمض سوى سنتين،
حتى كان الملك "لو شونغ لي" طريح الفراش، مصابا بالحمى، وقد أيقن أن
نهايته قد دنت، وهو في الرابعة والستين من عمره، وقبل أن يروح في إغفاءته الأخيرة
أوصى لابنه البكر "كيم لي" بالحكم من بعده..
حكم "كيم
لي" ثلاثون سنة، ماضيا على سنة أبيه، بيد أن سدنة المعبد كانوا قد ماتوا
جميعا لأسباب متعددة، وجاء من بعدهم سدنة آخرون، وكان مما عملوه، تجديد الدارما،
وإضافة أسفار جديدة..
بعد موت
"لي" تداول الحكم من بعده أربعة أباطرة، من أبناء عمومته، سموا بالحكماء
الأربعة، وسميت حقبتهم بالحكم الرشيد، وكان من أبرز ما أنجزوه توسعة الدارما،
وشرحها، وإضافة أحكام جديدة، حتى صارت أزيد من مائتي صفحة، وتدوين سيرة الجد
الأكبر "لو شونغ لي"، وفرضها على معابد الصين كلها..
في العام الثاني
والتسعين على حكم سلاسة "شونغ لي"، وقد بقي ثماني سنوات على موعد يوم
الحساب الأكبر، أصاب البلاد قحط وجفاف لم تعهده من قبل، جاع الناس، وأصابهم الضنك،
وفتكت بهم الأمراض، وشاعت السرقات والتعديات، وعاد قطاع الطرق إلى سابق عهدهم..
وبدأت تلوح في الأفق نذر الثورة والتمرد..
تداعى مجمع الكهنة،
وسدنة المعبد، وشاعوا في البلاد أن يوم الحساب قد اقترب.. وأن الإله "نهاندرا
سين" قد سلط عليهم الجراد والجفاف والنهّاب لكثرة معاصيهم.. صار كل من أراد
سرقة ماعز من جاره، أو مكيال أرز من دكان، أو حتى كسرة خبز لا يفعل ذلك إلا
بالليل؛ وبعيدا عن أي فانوس، حيث تكون الظلال نائمة ومختفية، بانتظار شروق الشمس
من جديد؛ فصار الليل مرعبا، مقلقا، تعمه الفوضى والجرائم..
لا شيء يخيف الناس
أكثر من الحديث عن أرض "جدد".. مجرد ذكرها يرهب النفوس، ويلقي بها
الرعب.. يتخيلون أنفسهم وسط صحراء قاحلة، جدباء، لا بداية لها ولا نهاية، لا ماء
فيها ولا عشب، من لم يمت من الحر والعطش، أكلته الضواري، أو لدغته العقارب التي
تبلغ الواحدة منها حجم بقرة، لم يسبق لأحد أن عاد منها، فكل من دخلها انقطعت
أخباره، من المؤكد أنه تاه، ولقي حتفه..
صارت البلاد على شفى
جرف شاهق من الانفجار.. حينئذ بيّت الملك قراره، ولم يبق عليه إلا انتظار الموعد
المناسب..
أتى شهر أيلول من تلك
السنة هادرا بالصواعق والبروق، والأمطار الغزيرة، التي سالت كالوديان، حتى غمرت
الأحياء الجنوبية من المدينة.. انتظر الملك يومين حتى هدأت العاصفة، وفي ذلك
المساء قرر أن اليوم التالي هو يوم الحساب..
جاء الصباح قائظا،
كما لو أن حريقا أكله، استيقظت الأهالي مذعورة فزعة على صوت الأبواق الرهيبة، كان
صوتها كئيبا، أما الأجراس الضخمة التي يزن كل جرس منها خمسمائة رطل، فكان صوتها
يصم الآذان.. تداخلت أصواتها مع صراخ الأطفال والنساء، وصياح الجند وهم يطرقون
الأبواب بكل عنف وغلظة، آمرين الناس بالخروج والتجمع في الميدان العام..
تكدس الآلاف في
الساحة التي ضاقت بهم، والتي أحاطها مئات من الجند المدججين بالسيوف والرماح.. كانت
عيونهم شاخصة، كما لو أصابها مس، منكسرة، يائسة، كأنها تحدق في فنائها المحتوم..
انتظروا طيلة النهار وهم في أشد حالات الإعياء والرعب.. بعد الظهيرة بقليل، أطل
عليهم الملك، بثيابه المزركشة، وفي يده صولجان، وعلى يمينه وشماله كبار سدنة
المعبد، ومن خلفة ثلة من الجند الأشداء..
اليوم، يوم الحساب
الأعظم، سنقرأ ما خطت ظلالكم من آثام، وسيلقى كلٌ ما قدمت يداه.. من غلبت سيئاته
حسناته، سقناه إلى أرض "جدد"، ومن كان صالحا، أرسلناه إلى أرض النخيل
والأعناب..
في اليوم الأول، تولى
الملك بنفسه الإطلاع على ملفات رعاياه، واحدا واحدا، وكان يتخذ القرارات بمفرده،
وقد أمر بسوق ثلاثة آلاف منهم إلى أرض "جدد"، ووعد ألفين بإرسالهم إلى
أرض النعيم.. في اليوم الثاني والثالث، أوكل المهمة لسدنة المعبد، وكان أن ساقوا
عشرين ألف مواطن إلى أرض "جدد"، وبقي عشرة آلاف آخرين، وعدوهم بأن ينظر
الملك العادل الرحيم بأمرهم في الغداة..
قضى الناجون من
الجحيم ليلتهم مطمئنين راضين، سعداء بمصيرهم، لم يغمض أحدهم عينيه، ظلت تداعبهم
أحلام أرض النعيم، والجنات الخضراء، والحسان الفاتنات، والأعناب والخمور، والماء
الغدير، والعيش الرغيد..
ولما جاء الغد، وطلع
النهار، وبينما هم أماكنهم لم يبرحوها، ينتظرون بكل أمل وتفاؤل أن يطل عليهم
الملك، ويفي بوعده، وظلوا على حالهم حتى ساعات العصر، إلى أن خرج عليهم "وونغ شو الثامن" كبير السدنة،
وبكلمات موجزة مقتضبة قال:
لن يخلف الملك العادل
وعده، لكنه سيحزن أشد الحزن إذا ذهبتم كلكم إلى أرض النعيم، وتركتم البلاد فارغة..
لذا، ما عليكم إلا أن تنتظروا انقضاء آجالكم، فمن يمت والملك راضيا عنه، سيجد أرض
النخيل والأعناب تنتظره بفارغ الصبر.. عودوا إلى مزارعكم ومعاملكم وبيوتكم،
وانتظروا قيامةً جديدة، بعد مائة عام، أو أقل قليلا..
حدث هذا في العام
الثاني والتسعين من حكم سلاسة "شونغ لي"، المصادف للعام 504 قبل مولد
"كونفوشيوس"، حكيم الصين العظيم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق