في زمن ما، على شاطئ بحر إيجه، قرب مضيق الدرنديل، في بلدة متواضعة تسكنها
الأساطير، تسمى آكتيا، في بيت صغير وادع، أفاقت الأم العذراء إرتخيميا على كابوس
مفزع؛ رأت رضيعها أسيزيوس مربوطا على جذع شجرة، وسياط الرومان وكلابهم تنهش من
لحمه. شعرت بضيق شديد، فقررت أن تروح إلى ربة الأقدار لتقرأ طالعه، ولتفك النحس
عنه.. سارت حاملة رضيعها حتى وصلت أطراف الغابة، هناك حيث تقيم ربة الأقدار منذ
زمن بعيد، ثمة كوخ صغير يربض مثل شبح خرافي، يتفيأ ظل سنديانة ضخمة، دخلته وجلة
مرتعدة، وجدت إمرأة عجوز، نحيفة لدرجة لا تصدق، تجلس بهدوء خلف كرتها البلورية
كعادة الكهان، وتنثر من يديها ذرات من الرمل على كومة جمر، فيتصاعد الدخان، حتى
يغطي وجهها، ويملأ فضاء الغرفة.. قصّت عليها ما رأته في منامها، التفتت الكاهنة
إلى يمينها صوب كبير العفاريت، وكان مصابا بحروق بليغة شوهت وجهه ومعظم جسده،
وأعاقته عن الكلام.. فقالت، للأسف هذا شوماخيريوس، يهز رأسه بحسرة، فقد تعرض ليلة
البارحة لوابل من شهب ثاقبة، في طريق عودته من السماء.. وهذا بحد ذاته نذير شؤم.. لذا؛
عليك بتغطيس ابنك في الماء المقدس، لتحميه من كيد الأعداء، وغدر الزمان..
حملته أمه من أطراف
أصابعه، وغطسته في الماء المقدس ثلاث مرات، وأخذت تبتهل بصوت متهدج: أسيزيوس، يا ابن الإله الأكبر راهيميوس، رب السماء
والنجوم، كُـن إله الخير.. حارب الشيطان الرجيم بابيليوس، بلا هوادة..
خبأته في لفافة من
قماش ناعم، وجعلت من فوقه لوحا خشبيا يقيه من أشعة الشمس، ووضعته في قارب صغير، ودعت
إله الأنهر والبحار أن يحميه من الغرق، ويجنبه التماسيح، سار النهر به برفق يوما
وليلة، حتى علق بصخرة ناعمة تحفها الأعشاب، جاءت غزالة، أشفقت عليه، سحبته بفها،
ثم استلقت على العشب اللين، ولقمته ثديها..
كانت سيخارطة، مدينة
منيعة، شديدة البأس، حصينة الأسوار، كل سكانها مقاتلون أشداء، لم يكونوا ليسمحوا
بوجود أي رعديد بينهم، أوضعيف البنية.. كانوا إما ينفوهم إلى الفلاة، أو يتخذون
منهم عبيدا في خدمة قادة الجيش وأسياد المدينة.. حتى أنهم كانوا يتركون أطفالهم
حديثو الولادة في البرية ليلاً، ليختبروا جَلَدهم وصبرهم، وفي الصباح يأتي الجنود
ويلتقطون من حظي بالعيش، ويعيدونه إلى أمه، أما من مات فيلقون به في النهر، لتأكله
الأسماك..
في صبيحة ذلك اليوم،
رؤوا غزالة ترضع طفلا، فاقتربوا منها بحذر، حاولت أن تذود عن رضيعها فقتلوها، ثم
أخذوا الطفل إلى رمسيسيوس، حاكم سيخارطة العظيم، لينظر في أمره.. رأته زوجته،
أشفقت عليه، ثم وقعت في حبه، ولم تكن تعلم حينها أنه ابن إله، حتى هو لم يكن يعلم
ذلك.. كان شديد الوسامة، وجهه يشع نورا، ربته، حتى صار فتى تتمناه كل فتيات
سيخارطة.. لكن زلفيا، استأثرت به وأرادته لها دون النساء، وذات ليلة، راودته عن
نفسها، فتمنع، فلحقت به، وشدته من ياقته، في تلك اللحظة الفارقة رآهم زوجها،
فاستشاط غضبا، وهمَّ بقتله، لولا تدخل
متلاديوس، كبير حراسه ووزيره المؤتمن، الذي أشار عليه بسجنه (كان متلاديوس
وحده من يعلم بأمر ابن الإله)..
لم تمض سوى سنوات
قليلة، حتى رأى رمسيسيوس حلما أزعجه وحيّره: سبعة خيول حمراء تقترب من مدينته،
فتخرج إليها سبعة خيول رمادية سيخارطية، فتلتهمها.. قصَّ على مجلسه ما رآه في
منامه، فأشاروا عليه بسجينه أسيزيوس، بأنه وحده من يفسر الأحلام؛ فاستدعاه على عجل، وقال له آمرا:
أنبئني بما رأيت، فإن كان تفسيرك مرضيا أطلقنا سراحك، وإن عجزت قطعنا لك عنقك..
تبسم أسيزيوس، وقال: ستحاصَر مدينتك سبعةُ جيوش جرارة، سبع سنين عجاف،
وستخوض سيخارطة حربا ضروس،
ستمتد آثارها سبعون سنة، ثم سيخرج إليهم سبعون
فارسا من فرسانك، فيهزموهم شر هزيمة، لكنهم يُقتلون تباعا، ولا يبقَ منهم إلا فارس
واحد، حفيدك رحبعاميوس.. فيقتل إله الحرب، فترتاح الأرض، ويعمها السلام سبعون
سنة أخرى..
سُـر الحاكم من أسيزيوس، وأمر بأطلاق سراحه على الفور، ومعه عشرة من
أصدقائه المساجين، على أن يغادرو المدينة، ولا يتوقفوا حتى يصلوا إلى أرض تيرانيوس..
خرجوا معاً حاملين معهم ما تيسر من مؤونة وماء، وما يعينهم على وعثاء السفر
ووحشة الطريق، على أعناقهم قلائد منحوتة من خشب الزيتون، لتقيمهم سوء المنقلب..
الطريق إلى تيرانيوس صحراء مجدبة، نهارها شديد القيظ، وليلها حالك العتمة،
شديد البرد.. مع التعب، وطول المسير بدأت عزائمهم تخبو، جفت حلوقهم وأزرقت شفاههم من
شدة العطش، واستبد بهم الخوف، ولم يتبقَّ في جرابهم من الماء ما يكفي شخص واحد، أو
بالكاد لشخصين، طلبوا من بيداوس إله الصحراء معجزة لتنقذهم، نادوا على فلافيليوس
إله الطعام لينزل عليهم مائدة من السماء، استنجدوا بسحابيوس إله الغيوم، ليغيثهم..
دون جدوى؛ فلم يستجب لهم أي إله، حتى استولى عليهم اليأس والقنوط.. في ظهيرة ذلك
اليوم اللاهب أتي بابيليوس الشيطان، فوسوس لهم أن يقتلوا أسيزيوس، لأن الرب الأكبر
غاضب عليه، فإن قتلوه، سيفجر لهم ينبوعا..
ساروا يوما آخر، بمحاذاة الطريق العام، حتى وجدوا استراحة مهجورة، كان
التعب قد نال منهم، ومع إلحاح بابيليوس، أدخلوا أسيزيوس غرفة ضيقة، وأغلقوا عليه
الباب بإحكام، ومضوا في طريقهم وهم على يقين بأنه سيموت في غياهب الضنك خلال
سويعات..
نام أسيزيوس ليلته وحيدا وسط الصحراء، في غرفة متروكة موصدة الأبواب..
جائعا خائفا.. في الصباح مرت سيارة كاديلاك سوداء، ترجل منها رجل أنيق في فمه
سيجار كوبي فاخر، ربما كان يريد تعبئة سيارته بالوقود، أو تناول فنجان قهوة، ولما
وجد الاستراحة مهجورة، هم بالمغادرة، بيد أنه سمع صوتا مكتوما آتيا من الداخل..
فتح الباب بسرعة، ولشدة دهشته وجد فتى منهكا، يئن بصوت جريح.. تأمله جيدا، وأركبه
معه، بعد أن أسقاه ماء ولقّمه بضع حبات من البسكويت.. أيقن أسيزيوس بأن الإله راهيميوس
هو من بعث إليه هذا الرجل الطيب.. لكن الرجل الطيب، كان يقول في نفسه: لقد أرسل
إليّ الإله هذا الفتى الوسيم، سأبيعه لتجار العبيد، حتى لو بأجر زهيد..
كانت السفينة على وشك الإبحار، في طريقها نحو نيوبوليس في الشاطئ الغربي من
المحيط، لم يستوعب أسيزيوس كيف وجد نفسه فجأة في سفينة ضخمة، مع مئات العبيد.. ظل
صامتا واجما طوال الوقت، وهو يراقب التجار البيض وهم ينهالون بسياطهم على ظهور
العبيد، يشتموهم، ويركلوهم بلا رأفة، ويجلدونهم لأتفه الأسباب.. تبدد خوفه
تدريحيا، بعد أن لاحظ أن التجار يتجنبون الإساءة إليه، ربما بسبب بشرته البيضاء،
أو لأنهم أرادوه أن يظل سليما معافى، أو لأن الإله راهيميوس يحميه طوال الوقت، كما
كان يظن..
أخذت السفينة في
الليل تضج بموسيقى الراب الصاخبة، والتجار شبه عرايا، يترنحون من أثر الويسكي
والشامبانيا، فأنكر عليهم أسيزيوس
فعلتهم، ووبخهم، فضاقوا به ذرعا، تجاهلوه في البداية، وأمام إلحاحه، اجتمعوا عليه،
وحملوه، وألقوا به في عرض البحر.. صارع الأمواج العالية بعض الوقت، وكاد أن يغرق
لولا سمكة قرش عملاقة أتت فالتهمته على الفور، إزدرته بلقمة واحدة، لكنه استعصى
على أمعائها، فلم تقدر على هضمه، بل كادت أن تختنق به، مكث في بطنها شهرين كاملين،
إلى أن قذفته من فمها، تيقن أسيزيوس حينها بأن الإله يتدخل وقت المحن، وأنه سيرسل
إليه سرفيسيوس، إله
النقل والمواصلات، ليحمله إلى اليابسة.
على الشاطيء، سار
أسيزيوس وحيدا، وفي ذهنه تجري الأحداث مثل فيلم سريع، جلس تحت شجرة جوز هند باسقة،
فإذا بالشيطان بابيليوس يقف
أمامه مباشرة.. عرفه على الفور، لكنه أعرض عنه، فاستدار من الناحية الثانية، ونظر
في وجهه لائما: لم تنكرني يا ابن الإله راهيميوس؟! لأنك تتآمر علي مذ ولدت.. فأنت
من أوحى لأصحابي الطيبين بقتلي، وأنت من أشار لتجار العبيد بإلقائي في البحر..
ولأنك تنشر الشر في كل مكان، وتدعو للحرب وسفك الدماء... قاطعه بابيليوس بقهقة
عالية كادت أن ترتج لها الأرض.. ثم قال بصوت صاخب: لعلمك، لست أنا من أوحى لهم
بقتلك، كل ما في الأمر أنني كنت مارا بالصدفة، وسمعتهم يتهامسون فيما بينهم للتخلص
منك. ثم أردف قائلا: ولعلمك أيضا، بعد أن تركوك وحيدا، راحوا يتآمرون كلٌ على
الآخر، حتى قتلوا بعضهم بعضا، فكل واحد منهم أراد أن يستاثر بشربة الماء الأخيرة
لنفسه..
صمت أسيزيوس من وقع المفاجأة، وفي قرارة نفسه أحس بحزن غامض على مصيرهم
البائس.. وبينما هو غارق في صمته، أضاف بابيليوس بلهجة استنكارية: أنا من يدعو
للحرب وسفك الدماء! أم آلهتك؟ أنا لم أقتل نفسا منذ مليوني عام.. أما آلهتك فهي من
تسفك الدماء وتنشر الخراب.. أنظر لإله البرق والصواعق كيف أحرق قرية حيدوم بمن
فيها، لأنهم عقروا ماعزا شرهاً، كان يأكل نصف محاصيلهم!!
- لكن هذا الماعز المبارك كان يسقيهم الحليب كل يوم بما يكفيهم أجمعين..
- حسنا، وماذا بشأن تيمورية، التي سلط عليها أعاصيريوس الريح الصرصر
العاتية، أربعة أيام حسوم، حتى هلك كل من فيها!! كل هذا لأنهم سخروا من رسوله
المزعوم.. وكذلك فعل إله النكد والأحزان ذكوريوس، حين خسف الأرض بأرتاكيا،
وزلزلها، وجعل عاليها سافلها!! لمجرد أن نساءها سحاقيات، ولا يشتهين الرجال.. ما
ذنب الأطفال، والنساء العفيفات؟
- أنت تكذب، وتقلب الحقائق.. وطالما حذرتني أمي منك، ومن ألاعيبك، وقدرتك
على تنميق الكلام.. فاغرب عن وجهي الساعة..
كانت إرتخيميا أم أسيزيوس في غاية القلق، وقد ظل فؤادها فارغا كل هذي
السنين، تعيش في صراع داخلي بين خوفها على ابنها، وأشواقها إليه، في كل صباح تكنس
مدخل البيت، ثم تجلس تنتظر عودته وعينيها معلقتان على آخر الطريق الترابي.. تمضي
نهارها تقلب وجهها في السماء، وتبتهل للإله الأعظم راهيميوس بأن يعيد لها ابنها،
وفي الليل تناجي النجوم وتذكر إلهها راهيميوس بأنه قطع على نفسه وعدا بأن يحميه من
الوحوش والأعداء، وأن يعيده إليها سالما غانما..
جُنَّ جنونها، وخف عقلها، واستولت عليها الأحزان، حين سمعت بأن الحرب قد
نشبت.. فهي لا تعلم أين ابنها، في أي أرض أو سماء هو الآن؟ وهذه ليست حربا عادية..
هذه حرب بين الآلهة.. حرب مدمرة.. لن تترك وراءها سوى الدمار والقتلى ودموع
الأمهات الثكلى، وحسرات الزوجات اللواتي سيخسرن رجالهن.. يا إلهي الأعظم راهيموس..
احم ابنك أسيزيوس.. وأوقف هذه الحرب اللعينة..
عادت الأم إرتخيميا إلى ربة الأقدار، وجدتها
كما تركتها قبل سنين بعيدة، مع أخاديد إضافية حفرتها السنون على وجهها المجعد،
أرادت منها أن تطمئنها؛
-
هل تتفقدين بريدك باستمرار؟ سألت ربة الأقدار.
-
كل يوم. أجابت الأم الحزينة.
-
هل تغلقين هاتفك من حين لآخر؟
-
على الإطلاق..
-
ألم تغطسيه بالماء المقدس؟ كما طلبت منك؟
-
نعم، وقد حملته من أطراف أصابعه..
صمتت ربة الأقدار
لبرهة، وقد تغير لون وجهها، ثم قالت: اطمئني، لن يمس جسد ابنك سوء، ولكن نقطة ضعفه
الوحيدة أطراف أصابعه.. فإذا أصابته رصاصة طائشة، أو سهم فالت في أصابعه ربما يلقى
حتفه.. ولكن هذا احتمال ضعيف..
أخذت الأم إرتخيميا تجهش بالبكاء،
وتصيح بصوت مخنوق: اين أنت الآن يا أسيزيوس؟ في أي أرض مجنونة؟ سجينا أم طليق؟
مريضا أم معافى؟ وراحت تهذي بكلام غير مفهوم.. فيما قامت ربة الأقدار، وأحضرت حبلا
من قماش، وربطت على قلب الأم ليهدأ روعها.. ثم قالت بصوت واثق: سأطلب من إلهنا
الأكبر، أن يستنفر كل آلهة الأرض للبحث عن ابنك، وسيجدونه بكل تأكيد..
سرت إشاعة بين آلهة الأرض، بأن الإله الأكبر راهيميوس منشغل في حل
مسألة معقدة في مجرة بعيدة، الأمر الذي يفسر غيابه غير المبرر، وهذا ينطوي على
مخاطر جدية تهدد مصير الأرض، بل إن مصير الكون برمته بات على المحك، خاصة وأن
بابيليوس سيستغل غيابه، وسيعيث في الأرض فسادا..
وبعد أن كانت متحدة، راضية
بأدوارها ونصيبها، انقسمت آلهة الأرض فيما بينها، وراح كل إله يضمر الشر لبقية
الآلهة، حتى نشبت الحرب بينهم.. كان كل إله يزعم بأن راهيميوس قد أنابه عنه، وأوكل
إليه مهمة حماية عرشه العظيم، ومحاربة بابيليوس المريد.. وفي حقيقة الأمر، كان كل
إله يريد أن يستأثر بالنصيب الأكبر، ولا أحد منهم قلق على مصير الكون، ولا حتى على
مصائر أتباعهم من البشر.. أما بابيليوس، فقد أكدت ربة الأقدار أنه كان منطويا،
مكتئبا، غير راغب بالحياة..
دامت الحرب سنين طويلة،
أتت على الأخضر واليابس، وكادت الأرض كلها أن تحترق.. مع ذلك، كانت الآلهة تتكاثر،
وتزدهر، وتتكرش بطونها، وتمتلئ جيوبها؛ فالحرب أكثر تجارة رابحة، تحقق خلال أيام، أو ساعات ما تعجز عنه عشرات
الصفقات التجارية، أما البشر فكانوا وحدهم من يموتون، ووحدهم من يتعذبون..
بعد أن كانت الآلهة ترضى بالقرابين من الكبوش
والماعز، لم تعد ترضى إلا بالقرابين البشرية.. وبعد كانت حروبها محلية، بالسيوف
والرماح والمنجنيق، صارت بالرشاشات والصواريخ والقنابل النووية، واتسعت رقعتها،
واستعرت نيرانها أكثر، واندلعت في كل مكان، وسالت دماء غزيرة، ومات خلق كثيرون،
وازداد حنق الآلهة وغضبها، وتعمقت أحقادها، ولم يعد يشفي غليلها إلا أكوام
الجماجم..
قبعت الأم إرتخيميا في كوخها
تنتحب، وتناجي الإله الأكبر راهيميوس: هل تراك فعلا أوغلت في الغياب، هل حقاً
نسيتنا، وتركتنا مع هؤلاء السفلة، السفاحين!! عُد إلينا، ونجنا من هذا الكرب
العظيم، أعد إلي ابني أسيزيوس، فليس لي غيره.. مع الوقت وطول العذاب، بدأت إرتخيميا تفقد إيمانها،
ولكنها حين تصفن وتسكن بعض الشيء، تعود وتؤبخ نفسها، وترجو من ربها المغفرة، ظلت
تقتات على الأمل؛ وحده
الأمل، حتى لو كان وهما من يعينها على تقبل قسوة الحياة، ويعطيها سببا لتعيش من
أجله..
أخيرا، جاءتها البشرى، كان
ساعي البريد يسابق الريح بخطى سريعة، متلهفا لإلقاء الخبر في حجر إختريميا: إبنك،
أسيزبوس، حي يرزق، ولم يمسسه سوء، صحيح أنه قضى سنوات عديدة من عمره بين سجون
الروم، والفرس واليونان، والعرب والمغول والترك، وأنه خاض حروبهم كلها، حتى أثخنته
الجراح؛ إلا أن رعاية الإله راهيميوس ظلت تحيطه..
-
وأين هو الآن؟ ومتى سيصل؟ سألت الأم بلهفة.
-
هو الآن أسيرا عند مجمع الألهة، في المدينة المقدسة..
-
ولماذا يأسروه؟ ما حاجتهم به؟! سألت الأم بفزع واستنكار.
-
لديهم شرط وحيد لإيقاف الحرب.
-
وعلاقة ابني بالحرب وبشروطهم؟!
-
مقابل ابنك أسيزيوس، تعهدوا بإيقاف الحرب..
مرت على إرتخيميا دقائق
صمت، وهي في حالة ضياع وتشتت، ولم تستوعب الصدمة، فلم تكد تفرح، حتى راحت تولول
بصوت يشبه النحيب: أسيزيوس الحبيب، يا مهجة قلبي، خمسون سنة وأنا أنتظرك، أعد
الأيام والساعات، عشرون ألف ليلة لم أذق طعم النوم، سكبت دموعا تملأ بحيرة، وأنا
أمني نفسي بالأمل، أنتظرك بكل لهفة، بحرقة قلب أم ثكلى.. والآن يريدون أخذك مني
للأبد..
-
سيدقون في كفيه وأصابعه الأسافين، فقد كشوا نقطة ضعفه..
قال ساعي البريد بوجه محايد..
تناهى خبر أسر أسيزيوس
وشرط الآلهة إلى مسامع أهل البلدة، ثم شاع في البلدان المجاورة.. وخلال الأيام
التالية كانت جموع غفيرة من الأهالي من كل القرى والمدن البعيدة تحج إلى بيت إرتخيميا؛
ألوف الناس تتوافد فرادى وزرافات، وتعتصم في الساحة الصغيرة قبالة المنزل، وجميعهم
أطفالا ونساء وشيوخا لهم رجاء واحد: أن توافق الأم إرتخيميا على فداء ابنها،
لإنهاء الحرب..
وقفت الأم إرتخيميا على
سطح منزلها لتُسمع كلامها للجميع؛ وأخذت تصرخ: تريدون أن أضحي بابني الوحيد، فلذة
كبدي!! هذا مستحيل، لقد طلبت من مجمع الآلهة أن يأخذوني بدلا منه، لكنهم سخروا
مني..
-
أنظري لملايين الأمهات، اللواتي يبكين أبنائهن بحسرة،
وملايين الزوجات اللائي ينتظرن رجالهن بحرقة، والأطفال الذين سيكبرون يتامى
محرومين...
-
قولوا هذا الكلام لمجمع الآلهة.. ألستم أنتم من يعبدونهم
آناء الليل وأطراف النهار؟! ألستم أنتم من أرسل أبنائه للحرب؟
-
أنت وحدكِ من بيده إنهاء الحرب؛ لأنك أم.. والأمهات لا
تحب الحروب، ولا تشعلها..
-
لكن هؤلاء الأوغاد، كذابون، لن يوقفوا الحرب، سيطالبون
بفدية أخرى، وسيظلون كذلك، حتى ينالوا من كل شباب البلدة.. هؤلاء لم يعد يشبعهم
منظر الدم، هم مجرد وحوش، وليسو آلهة..
ظلت إرتخيميا تجادلهم، وهي في حيرة من أمرها، فهي تريد إنهاء الحرب مثلهم،
ولكنها مشتاقة لابنها الوحيد.. ثم راحت تنادي الإله الأكبر راهيميوس، ليخلصها من
هذا العذاب..
ظلت تنتظر الخلاص، ومعها ألوف المنتظرين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق