عندما نشر "دارون" كتابه "أصل
الأنواع"، التقته سيدة إنجليزية ارتسقراطية، وطلبت منه عدم نشره لأنه عبارة
عن فضيحة شخصية.. ومثل تلك السيدة كثير من الناس رفضوا نظرية دارون، منطلقين من
اعتبارات أخلاقية ودينية، ومنهم من رفض فكرة الأصل الواحد، لتأكيد فكرة تفوق الرجل
الأبيض، ولتبرير الممارسات العنصرية. بينما العلم لا يعبأ بهذه المعايير ولا يأخذ
بها.
على خلفية نظرية دارون، وفي سياق محاولات فهم
أصل الحياة، نشأ تياران متناقضان من العلماء، الأول يمثله "الخلقيون"؛
وهم الذين يؤمنون أن كل كائن حي خُلق على حاله، وحسبما أراد له الخالق أن يكون. والثاني
يمثله "التطوريون"؛ الذين يؤمنون بالتطور الإحيائي، ويزعمون أن الحياة
نشأت منذ مليارات السنين من خلية واحدة، ثم ارتقت وتطورت إلى كل الأنواع التي نعرفها،
والتي لا نعرفها.
ورغم هذا الخلاف العميق، إلا أن
"الخلقيون"، أو بعضهم، قد يقبلون بفكرة أن الكون برمّته وُلد من رحم
انفجار عظيم، باعتبار أن الخالق هو من أوحى بهذا الانفجار، وأن العناية الإلهية هي
التي تحكمت بشظاياه، لينشأ عنها هذا الكون البديع، وقد يقبلون أيضا بفكرة أن
الحياة انبثقت من المادة، مع الإقرار بأن الخالق سبحانه هو من أودع فيها سر
الحياة، وقد يقبلون بفكرة أن الكون والطبيعة يعملان بموجب قوانين مادية صارمة،
ولكن مع الإقرار بأن الله هو الذي خلق هذه القوانين وجعلها تسيّر نظام الكون.
وقد يؤيد بعضهم أن الحيوانات تتطور من جيل
إلى آخر، وتنشأ عن هذا التطور اختلافات جوهرية تؤدي إلى نشوء أنواع جديدة، أو
انقراض أنواع أخرى، أما ما لا يمكن أن يقبلوا به، فهو القول بنظرية التطور
للإنسان، وأن أصول الإنسان القديمة تعود لفصيلة القردة، ويعتبرون هذا تناقضا صريحا
مع ما جاء في الكتب السماوية، وأن هذا الإدعاء يحط من قدر الإنسان ويهينه.
علما أن "دارون" لم يقل أن
الإنسان انبثق عن القرود.. وفي كتابه أصل الأنواع، لم يتطرق لقصة أصل الجنس
البشري، وربما كان ذلك عائدا لخوفه من الانتقاد، ولكن بعد أن أثار كتابه
الزوبعة، لم يعد هناك ما يخشاه، فنشر كتابه الجديد "انحدار الإنسان"،
والذي تناول فيه بجرأة مسألة تطور الإنسان.
نظريـته في النشوء والارتقاء، عبارة عن فرضية
بيولوجية وليست فلسفية، وتدور حول عدة أفكار أهمها: أن أصل الكائنات العضوية ذات
الملايين من الخلايا يعود لكائن بسيط ذو خلية واحدة. وأن تطور الكائنات الحية يمضي
من البساطة إلى الدقة والتنوع والتخصص والتعقيد، أي من الأدنى إلى الأرقى. والتطور
يحدث عند توفر ميزة قابلة للتوريث، وأن الأنواع القوية من الكائنات امتلكت عوامل
البقاء والتكيف مع البيئة، ما مكّنها من التغلب على الظروف البيئية القاسية، وقد
أدى التكيف والانتخاب الطبيعي إلى تحسن نوعي مستمر نتج عنه أنواع راقية جديدة، بينما
الأنواع الضعيفة أخفقت في التكيف، مما أدى إلى انقراضها.
والصراع بين منكري التطور ومؤيديه قديم
جدا، ويوْرد المعارضون حججهم وتساؤلاتهم، مثل: لماذا اكتفت الطبيعة بتطور القرد
القديم وحوّلته إلى بشر، بينما مازالت بقية القرود تتزاوج وتنجب قروداً عن قرود؟ ولماذا
لم تطور الأشجار أرجل لها تمكنها من الهروب من حرائق الغابات؟ ويرفضون قبل ذلك مبدأ
الصدفة في الخلق.
ويرد عليهم التطوريون أنه في عالم الأحياء
لا يوجد شيء اسمه صدفة، وأن الخلية الأولى التي نشأت عنها الحياة لم تولد بالصدفة،
بل نتجت عن سلسلة تفاعلات كيميائية عديدة في ظروف طبيعية غير موجودة على الأرض
اليوم، وقد أُثبت ذلك مخبريا في تجربة "ميلر". وأن القرد ذاته لم يتحول إلى
إنسان؛ بل هناك سلف مشترك قديم بينهما (98% من DNA متشابهة بين الإنسان والشمبانزي)..
أما التطور فلم يتوقف ولكنه بطيء جدا، ويستغرق ملايين السنين، ولأن تاريخ الإنسان لا
يتعدى بضعة آلاف من السنين، لن يتسنَّ له رؤية التطور بعينيه.. ويؤكدون أن الطبيعة
تركت لنا شواهد على التطور الإحيائي، أهمها المستحاثات، التي تحكي قصة التطور من
أولها لآخرها. وأيضا، ما هو مخزون داخل DNA
الذي يروي قصة وجودنا على الأرض.
ويعتمد "التطوريون" على علم التشريح
المقارن للنباتات والحيوانات الموجودة حاليا، والمقارنة المورفولوجية بينها ومع الأنواع
المنقرضة، وأيضا على ما تثبته علوم الجغرافيا والجيولوجيا، والمناخ، كما ويعتبرون
أن علم الوراثة (الذي تحقق بعد موت "دارون" بزمن طويل) قد أفادهم أكثر
من أي علم آخر، لأنه قدم إجابات حاسمة تشرح تاريخ التطور.
في صيف 2004، تمكن العلماء من
فك رموز الجينوم البشري. وذلك بفضل تعاون عشرة من أكبر المراكز العلمية في العالم،
بمشاركة 1600 عالم من 16 دولة، على مدار عشر
سنوات متواصلة. وقد وُصف هذا الاكتشاف بأنه أكثر أهمية من الهبوط على سطح القمر،
وأنه الإنجاز العلمي الأضخم الذي يستقبل به العالم الألفية الثالثة.
كل موسيقى الدنيا وألحانها مكونة من سبع
نغمات، وكل لوحات العالم رُسمت من ستة ألوان أساسية، وكل لغات البشر تعود إلى بضع
عشرات من الأحرف.. وهكذا يكون التنوع والغزارة فى الإنتاج؛ يأتي من عملية مصفوفات
وتشكيلات لهذه الأنغام والألوان والحروف..
فقط أربعة قواعد نيتروجينية، تتآلف معاً
ضمن ثلاثة مليار تشكيل مختلف من الأزواج المتقابلة، لتصنع معاً الجينوم البشري.
هذا هو سر الإنسان بكل بساطة، وبقدر ما بيّن العلم مدى تعقيد تركيبه، فقد فَضَحَ
هشاشته، إذْ أن خللاً واحداً في جين واحد، أو تغيير بسيط في ترتيب هذه الأزواج
سيؤدي إلى تغيير كبير في صفات هذا الإنسان، وربما تسبب تشوهه، أو موته، أو امتلاكه
عبقرية فذة، أو جمالا ساحرا. ماذا سيفعل إنسان المستقبل، بعد أن كشف هذا السر
العظيم؟؟ سؤال برسم الإجابة.
لم توضح نظرية التطور الكثير من النقاط،
وما زالت عاجزة عن الإجابة على العديد من التساؤلات، وليس شرطا أن تتمكن أبحاث
البيولوجيا من الإجابة عليها، على الأقل في المدى المنظور، ولكن بالرغم من بعض
الثغرات في نظرية التطور، إلا أن ذلك لا يعني نفيها أو إسقاطها، فالعلم ما زال
يكتشف في كل يوم ما هو جديد.. وبالتأكيد يمكن الرهان على العلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق