مقدمـة
للشهر الثالث على التوالي، تواصل الهبّة الشعبية
فعالياتها على طول الأرض المحتلة وعرضها، ورغم محدودية المواجهات واقتصارها على
نقاط التماس إلا أنها أقرب ما تكون في اتجاه تحولها إلى حالة شبه دائمة، أو انتفاضة
استنزاف (على غرار حرب الاستنزاف)؛ فإذا كانت حرب الاستنزاف تجري بوتيرة أقل من
الحروب التقليدية، لأن الطرفين لا يستخدمون كافة عناصر قوتهم، لتقليل حجم الخسائر
والتضحيات؛ فإننا الآن أمام مشهد يمكن وصفه بانتفاضة الاستنزاف؛ إذ لا توجد مواجهة
شاملة من الطرف الفلسطيني، وحجم المشاركة الشعبية أقل بكثير مقارنة بالانتفاضات
السابقة، ولم نشهد عمليات عسكرية نوعية. وفي المقابل فإن السياسة الإسرائيلية حتى
الآن لم تصل بعد إلى مستوى المواجهة الشاملة، وتكتفي بالضرب بقوة وقسوة في مناطق
التماس والمواجهة، واستسهال القتل للشباب الفلسطيني. ولكن دون وجود مؤشرات على
إعادة احتلال المدن الفلسطينية، أو قصف مقرات للسلطة ومراكز الأجهزة الأمنية، أو
حتى إجراءات عقابية اقتصادية ومالية موجهة ضد السلطة الفلسطينية، مثل احتجاز أموال
الضرائب، أو فرض عقوبات جماعية مثل إغلاق طرق ونضب حواجز وحصار للمدن، كما فعلت
طوال سنوات انتفاضة الأقصى.
وهذا يعود ربما لحسابات الجانب الإسرائيلي، الذي لا
يرغب بمواجهة انتفاضة شعبية سلمية تجر عليه مزيدا من العزلة والضغط الدولي، ولا
يرغب في تكرار سيناريو تحطيم الأجهزة الأمنية الفلسطينية في "انتفاضة
الأقصى"، والذي نتج عنه انضمام عدد كبير من أبناء تلك الأجهزة للانتفاضة، بل
وتولي قيادتها. هذا فضلا عن أنّ الأعمال الانتفاضية حتى الآن لا توجد لها بنية
منظمة يمكن ضربها بطريقة المواجهات المفتوحة، ولأن عمليات اجتياح واستهداف المدن
تعني عمليا توسعة الانتفاضة والمواجهة، ولأنّ الفصائل كافة تتراوح مواقفها بين
المشاهدة والتأييد اللفظي لما يحدث، وبالتالي لا تبدو هدفاً مفيداً للاحتلال.[1]
أمام هذا الواقع، تجد الانتفاضة نفسها في مواجهة
خيارات معينة؛ فهي تحمل في طياتها عوامل الإستمرار والتصعيد، جنبا إلى جنب مع عوامل
التوقف والانحسار، كما أن استمراريتها يمكن أن تكون بأكثر من شكل؛ فهناك خيارات
العسكرة، وخيارات إبقائها على نفس الوتيرة لفترة من الزمن، أو تحولها إلى نمط حياة
دائم، كشكل من أشكال المقاومة الشعبية والعصيان المدني، وكل هذا مرهون بتطور
الظروف.
في كل الأحوال لا تلعب الرغبات والأماني، ولا حتى
القناعات والتوجهات الذاتية العامل الوحيد في رسم مستقبل الانتفاضة، وتحديد شكلها،
فهناك عوامل موضوعية تفرض نفسها بقوة؛ أبرزها العامل الإسرائيلي وكيفية الرد من
قبل جيش الاحتلال، وهناك العوامل الإقليمية والدولية. وقبل ذلك كله، علينا أن نقر
بأن العامل الذاتي الفلسطيني غير موحد، وليس هناك إجماع شعبي أو فصائلي أو رسمي
على القيام بانتفاضة، أو على إستراتيجية مواجهة موحدة.
لماذا انتفاضة ؟
تسود مقولة في الأوساط الإعلامية مفادها أن
الانتفاضة ولدت يتيمة، وأنها تُـركت وحيدة .. والأسئلة التي تطرح نفسها مباشرة
استنادا إلى هذه المقولة: هل هذا صحيح أولا ؟ وهل هي بالأساس "انتفاضة"
؟
إذا كانت "الانتفاضة" في المفهوم النضالي
الفلسطيني هي خروج الجماهير والقوى والفعاليات الشعبية عن حالة الرفض الصامت، إلى
حالة المواجهة المفتوحة، والبدء بفعاليات كفاحية متعددة الأشكال والأوجه في مواجهة
الاحتلال، وعلى مدى فترة زمنية طويلة نسبيا، تماما كما حدث في الانتفاضتين
السابقتين؛ فإننا الآن، ووفقا لهذه المعايير أمام انتفاضة "مصغرة"، بسبب
محدودية المواجهات من جهة، ولأنها ما تزال في بداية تشكلها، ومن المبكر إطلاق الأحكام
والتصنيفات عليها من جهة أخرى. ولكن هذه الانتفاضة "المصغرة" أو الهبة
الجماهيرية أو مهما كان اسمها صارت أمرا واقعا، وجزءاً أساسيًا من التراث النضالي
الفلسطيني، وصفحة أخرى في كتاب كفاحه الخالد، وهي بكل تأكيد موجة كفاحية جديدة، قد
تستمر وتتصاعد وتصبح شاملة بكل معنى الكلمة، وقد تتراجع بعض الشيء فاتحةً المجال
أمام موجة أخرى قريبة، قد تكون أشد عنفا وأقوى تأثيرا.
لكن هذه الانتفاضة، لم تولد يتيمة، ولم تنبثق من
الفراغ، حتى لو بدا لنا الآن أن من يحركها ويقوم بفعالياتها هم شبان لا ينتمون
لفصيل معين، ولم يكن خروجهم بناءاً على قرارات أو توجهات من قبل القيادة؛ إلا أنها
ولدت من رحم الثورة التي انطلقت قبل ذلك بعقود، وجاءت امتدادا للانتفاضات السابقة،
وتواصلا لمسيرة طويلة من الكفاح والعمل السياسي والتنظيمي، ونتاجاً لتراكمات من
التضحيات والعمل بدأته حركة فتح، وأكملته معها بقية فصائل العمل الوطني وجماهير
شعبنا على امتداد تاريخ من الكفاح والعطاء والشهداء والأسرى، داخل الوطن وخارجه.
وفي تصريح للرئيس "محمود عباس" قال فيه: "إن هذه الهبة الجماهيرية
الغاضبة لم يدعُ لها أحد، ولم يقررها أحد، لكنها جاءت ردا من الشباب الغاضب على سياسات
الغطرسة الإسرائيلية والتوسع الإستيطاني ومحاولات تهويد القدس".[2]
المعاني والفرص التي تحملها الانتفاضة
صحيح أن هذه الانتفاضة بدأت عفوية كسابقاتها، لكنها
هذه المرة جاءت دون إطار قيادي ميداني ودون هدف سياسي واضح، إلا أنها دون شك وفّرت
فرصة تاريخية لإعادة تصحيح شكل العلاقة التي سادت في السنوات السابقة بين الشعب
والسلطة من جهة، والاحتلال الإسرائيلي في الجهة المقابلة، أي بجعلها علاقة اشتباك
وتصادم بين الضحية والجلاد، وفرصة للخروج من حالة اللامقاومة، واللامفاوضات التي
اتسمت بها المرحلة السابقة.
وحتى لو بدا لنا أن هذه الانتفاضة غير قادرة على دحر الاحتلال، في
هذه المرحلة، وفقا للمعطيات المتاحة؛ إلا أنها تشكل مدخلا مناسبا لعلاج الوهن
والضعف الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية، وفرصة لتغيير المسارات المختلفة التي
اعتمدتها القيادات السياسية الفلسطينية خلال المرحلة السابقة، والتي انتهت جميعها
بالفشل.
وتقدم الانتفاضة أيضاً فرصة تاريخية لحركة فتح،
ويمكن أن تكون الفرصة الأخيرة، لتصويب مسارها، واستعادة مكانتها الريادية
والقيادية في الكفاح الفلسطيني، ولأن تصفّي خلافاتها الداخلية، وتعقد مؤتمرها
الحركي، وتجدد شبابها وقياداتها، وتخرج ببرنامج كفاحي مقاوم يرتقي إلى مستوى
الأحداث، ويليق بإرثها النضالي. وهي بنفس الدرجة فرصة لكافة فصائل العمل الوطني،
التي هي أيضا اعتراها الوهن وأصابها الترهل؛ بمعنى أن هذه الانتفاضة تضع جميع
القوى والفصائل أمام الاختبار الصعب والحقيقي، لكي تعود إلى المقاومة الجماهيرية.
وهي كذلك فرصة لاستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، وإعادة الاعتبار
للجماهير.
بل إنها تشكل فرصة للأشقاء العرب، كي يصحوا من
واقعهم المخزي بعد أن غرقوا في صراعاتهم الطائفية، وانشغلوا عن قضيتهم المركزية.
والانتفاضة أيضاً تمنحنا القوة الأخلاقية والسياسية
للرد على سياسة التجاهل والانحياز التي تتبعها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي،
وإجبارهم على تبني خطاب آخر متحرر من الهيمنة الصهيونية، وأن يظهروا ولو لمرة
واحدة انحيازهم لقيم العدالة والحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
الدور المطلوب
بعد شهرين من اندلاعها لم تصل الهبّـة بعد إلى
مستوى المشاركة الشعبية الواسعة، كما لوحظ أن معظم فعالياتها تتم بصورة فردية،
والسبب في ذلك ربما يعود لعدم قدرة القيادة والقوى والفصائل الوطنية على اجتراح
مجرى كفاحي أكثر فعّالية، وبالتالي، وبسبب هذا الغياب وعدم انتهاج خط سياسي واضح، ومقاومة
فعّالة نتج عن ذلك فراغًا، والسياسة لا تقبل الفراغ؛ لذلك، انتشرت ظاهرة
السكاكين والدهس. فَلَو كانت هناك مقاومة شعبية حقيقية، أو كان لدى الفلسطيني إمكانيات
أكبر فإنه لن يلجأ إلى السيارة والسكين والمقص وحفّار الكوسا.[3]
لكن هذه الهبّة أحدثت حراكا سياسيا في كلٍ من الشأن
الداخلي، وفي الشأن التفاوضي على حد سواء، دون أن تنجح في حسم أي منهما، إذ يمكن
القول بأن هذه الهبّة لم تتمكن لغاية هذه اللحظة من تحريك المجتمع الدولي، أو
إجبار الإدارة الأمريكية على أن تتصرف وتأخذ موقفا جديا، أو إحداث إختراق في
الموقف الإسرائيلي، أو في إجبار الطرفين للجلوس على طاولة المفاوضات، بل أنها حتى
لم تحرك الجماهير العربية؛ إلا أن هذا كله لا يقلل من أهميتها؛ فهي بهذه الوتيرة
السلمية المتصاعدة، وبامتلاكها روح الإصرار والتحدي، وبتقديمها كل هذه التضحيات،
هي أقرب ما تكون في اتجاه تحولها إلى حالة شبه دائمة، أي "انتفاضة استنزاف"،
وبانتظار تطور الأمور ميدانيا وسياسيا، وربما أمامها بضعة أشهر أخرى فارقة حتى
تتمكن من إحداث الاختراقات المطلوبة.
وحتى لو بدت إنجازات الانتفاضة غير مرئية في اللحظة
الراهنة؛ فهي بحد ذاتها تعبير عن الصمود ومواصلة مسيرة الكفاح الشعبي واستمرارا للانتفاضات
السابقة والمقاومة المسلحة، والتي لولاها لما بقيت القضية حية، ولتمكنت الحركة
الصهيونية من ابتلاع ما تبقى من الأرض، وطرد من بقي من شعبها، ولتحول كل الشعب إلى
مجرد لاجئين، ولصفِّيت القضية للأبد، وأقيمت الدولة اليهودية النقية على أرض
«إسرائيل التوراتية».
وليس شرطا أن تحقق
هذه الهبّة الجماهيرية الأهداف العليا للشعب الفلسطيني دفعة واحدة، رغم أنها تسعى
إلى ذلك، وهي إن تراجعت قليلا فإنها ستضيف مدماكا جديدا في البناء الكلي، عبر
عملية تراكمية مستمرة، وسوف تتصاعد من جديد، إلى أن تمتلئ الشوارع بالجماهير، في
انتفاضة شعبية هادرة تدحر الاحتلال ومستوطناته.
وحتى تحقق الانتفاضة أهدافها، وتتحول إلى انتفاضة
شعبية هادرة، وتقدم رسالة سياسية واضحة وقوية للعالم، قادرة على إحداث الاختراقات
المطلوبة، لا بد من إنضاج بعض العوامل المهمة؛ أولها اتساع قاعدتها الجماهيرية،
وانضمام كافة شرائح المجتمع الفلسطيني إليها، وانخراط فصائل العمل الوطني بقوة
أكثر في فعالياتها، وعدم الاكتفاء بدور المراقب والمشجّع، وتصعيد فعالياتها
السلمية من دون إهمال كلي لبعض أشكال المقاومة المسلحة الضرورية لرفع معنويات
الفلسطينيين، وإجبار إسرائيل والعالم على الاستجابة للمطالب الفلسطينية، ولجعل
الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، لأنه إذا كانت الانتفاضة سلمية مئة في المئة، واكتفت
بالمسيرات بالساحات ومراكز المدن ورفع الشموع والدعوة لمقاطعة إسرائيل اقتصاديا
وعزلها سياسيا، وترديد الهتافات مائة عام، وفي ظل عدم تواجد جيش الاحتلال في
المدن، فلن تحرك إسرائيل ساكنًا، وسيبقى المجتمع الدولي جامدًا مطمئنًا لاستمرار
مصالحه ونفوذه. [4]
وهذا كله يتطلب تشكيل إطار قيادي ميداني، يمثل كافة
الفصائل والفعاليات الوطنية، يوازيه على مستوى القيادة السياسية تقديم خطاب سياسي
مختلف لا تكون "المفاوضات" مبتدئه ومنتهاه، والعمل على ربط الهبة
الشعبية بهدف سياسي واقعي قابل للتحقيق. ولا يُعقَل بعد كل هذه التجارب والنضالات
أن نعود دائمًا إلى نقطة البدء، نطرح نفس الأسئلة: نضال سلمي أم مسلح، مفاوضات أم
مقاومة، برغم أن هذه الانتقائية والأحادية من مسببات وصولنا إلى ما نحن فيه، فما
يحدد أشكال النضال ليس الضحية وحدها، بل طبيعة الصراع وخصائصه، واستراتيجيات العدو
وأدواته، وتحالفاته، وطبيعة المرحلة وسماتها.[5]
وهنا لا بد من التأكيد على أن الأحزاب والفصائل
الفلسطينية نظرا لما لها من تجربة نضالية وإمكانيات وعلاقات وقدرة على الحشد
والتنظيم، وحتى في ظل أزمتها البنيوية، مع كل الترهل الذي تعاني منه، ما زالت
الفاعل السياسي الرئيس، وما زال دورها ضروريا ومطلوبا. [6]
وبالنسبة لحركة فتح مطلوب منها أن تنهي خلافاتها
الداخلية، وأن تهيئ الأجواء لعقد المؤتمر الحركي السابع، وأن تخرج بخطاب سياسي
وبرنامج كفاحي يعبر عن ضميرها الثوري، بصفتها طليعة القوى الوطنية المقاومة، ثم
بعد ذلك عليها أن تنجز المصالحة الوطنية وتنهي خلافها مع حماس بأي شكل، الأمر الذي
يتطلب منها ومن حماس تقديم التنازلات المتبادلة لإنهاء الانقسام، مرة أخيرة وإلى
الأبد. وهذا يعني تنفيذ اتفاقية الشاطئ، وتمكين الحكومة من ممارسة أعمالها في غزة،
وأهمها تحديد موعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
الأمر الثالث، هو عقد المجلس الوطني الفسطيني،
والبدء فورا بعمليات إصلاح وتجديد لهياكل منظمة التحرير الفلسطينية، دون الحاجة
للدخول في حوارات داخلية من جديد، فهناك اتفاقية القاهرة 2005، والعديد من
التفاهمات الوطنية التي سبق وأنجزت، ولكن لم يطبق منها شيء. أي بمعنى مختصر، ترتيب
البيت الفلسطيني وتمتين الجبهة الداخلية.
قد تبدو هذه المطالب حالمة بعض الشيء، أو متفائلة
أكثر من اللازم، ولكن بدونها لا يمكن تحقيق أي تقدم سياسي، وسنظل ندور في حلقة
مفرغة، نقدم فيها تضحيات غالية ونجني مزيدا من الهزائم والإخفاقات .. وعلينا أن لا
تفقد الأمل باتجاه تحقيق هذه الأهداف؛ ففي عالم السياسة كل شيء قابل للتحقق،
وأحيانا ما يبدو أنه واقعي وممكن يتضح أنه بعيد جدا عن التحقق، مثال ذلك "حل
الدولتين". وما يبدو مستحيلا، يغدو حقيقيا بأسرع مما يتخيل أكثر المراقبين
خيالا، ومثال ذلك ما يحدث حاليا في المنطقة العربية، والذي كان يبدو خياليا قبل
خمس أو عشر سنوات.
الانتفاضة الثالثة، أو هبّة القدس، أو مهما كان
اسمها، لا تنتظر منا خطابات ومديح وقصائد .. تنتظر منا جميعا أن نحولها إلى صرخة
قوية ومدوية في وجه العالم. أن نجعلها نمط حياة، ونملّكها مقومات الاستمرار
والتصعيد المدروس، بحيث تكون تمرد حقيقي ودائم ضد الاحتلال، وتعبير صارخ عن رفض إجراءاته
الإرهابية العنصرية ومخططاته التوسعية.
الآفاق السياسية للانتفاضة
لم
تأت هذه الهبة في ظل مرحلة سياسية مثالية؛ بل إنها جاءت في ظرف إقليمي ودولي غير
مواتي، تمـرُّ فيه القضية في واحدة من أسوأ مراحلها، وقد شهدت تهميشا غير مسبوق،
وتراجع مكانتها في أجندة السياسات الدولية وأولوياتها، ومن ناحية ثانية فإن الظرف
الذاتي الفلسطيني غير ناضج، وغير قادر على انتزاع شيء ذو قيمة، حيث لا زال
الانقسام حاضرا، ومنظمة التحرير تعاني من الترهل والضعف. السلطة، وعلى لسان رئيسها
أعلنت منذ سنوات بأن خيار المفاوضات وصل إلى طريق مسدود، وأعلنت أنها لا تريد
انتفاضة، واكتفت بالنضال الدبلوماسي، وبالتهديد باللجوء للمحاكم الدولية، واستخدمت
تكتيكات تستهدف تحسين شروط المفاوضات. كما أن القوى التي رفعت شعار المقاومة
المسلحة (وبالذات حماس) وصلت إلى طريق مسدود بدورها، بدليل التزامها بالهدنة منذ
العام 2003 حتى الآن، وسعيها لهدنة طويلة الأمد مقابل الحفاظ على سلطتها ورفع
الحصار عن غزة. [7]
الموقف
الدولي لم يتغير كثيرا عن حاله قبل اندلاع الانتفاضة، وما زال مكتفيا بدور الشاهد
على ممارسات الاحتلال التعسفية، العاجز عن الضغط على إسرائيل، أو إجبارها على
الانصياع للشرعية الدولية، أو الموافقة على الحلول السياسية المقترحة، وأهمها حل
الدولتين.
الموقف
الأمريكي تراجع إلى حد كبير، فبعد أن وعد الرئيس "أوباما" قبيل انتخابه
العام 2008، بأنّه لن ينتظر طويلاً لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأنّه لن
يفعل ما فعله غيره من رؤساء أجّلوا القضية لأواخر عهدهم؛ ها هو الآن يدير ظهره
للقضية الفلسطينية ويتنكر للمفاوضات والعملية السياسية. ولتجنب الدخول في أي
مواجهة مع إسرائيل يعلن بكل صراحة أن على الفلسطينيين قبول الفتات وعدم إزعاجنا.[8]
والواضح
أنّ إدارة "أوباما" تجد ما تشغل نفسها واللاعبين الإقليميين به؛ فبعد
انشغالها بالملف الإيراني، تريد توجيه النار للملف السوري، وتهميش الشأن الفلسطيني. أي أنها تريد من العرب التركيز على سورية الآن، وتطلب الفلسطينيين الانتظار
وعدم "تخريب المسيرة". كما سبق أن فعلت إدارة "بوش" عندما
أجلت كل القضايا لصالح حربها في العراق.
فمنذ اندلاع الانتفاضة في أول أكتوبر، زار وزير
الخارجية الأمريكي "جون كيري" المنطقة والتقى بقياداتها أكثر من مرة،
ولكن دون أن يحمل معه أية رؤية لحل سياسي ولو بالحد الأدنى. ولم يبحث حتى إعادة
إطلاق المفاوضات، بل مجرد إجراءات تهدئة. وعلى ما يبدو أن جل هم الإدارة الأمريكية محاولة احتواء الأحداث
وتطويقها، والحيلولة دون تفاقمها وخروجها عن السيطرة، أي منع تحولها إلى انتفاضة
شعبية شاملة، وإقناع إسرائيل بتخفيف إجراءاتها القمعية، وعدم افتتاح دورة عنف دموية
جديدة؛ وقد ظنت أمريكا أنها بإعادة الأوضاع في باحة الأقصى إلى ما كانت عليه،
والتوقف عن محاولات فرض التقسيم الزماني للمسجد سيؤدي ذلك إلى توقف الحراك الشعبي،
وعودة الهدوء من جديد.
زيارات "كيري" للمنطقة، وما جاء به من
مشاريع للسلام الاقتصادي، وتقديم تسهيلات للفلسطينيين، والاكتفاء في الوقت الراهن
بالضغط لفرض حلول انتقالية طويلة الأمد، مثل زيادة مساحة المناطق الخاضعة للسلطة
الفلسطينية، تدريجيا، كبديل لحل سياسي على أساس الدولتين، إنما تدل على أن السياسة
الأميركية ما زالت قاصرة عن فهم رسالة الانتفاضة، على أنها صرخة قوية ومدوية في
وجه الكل، في وجه الاحتلال، والانحياز الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، وفي وجه الصمت
الدولي. حتى أنها لم تستوعب خطاب الرئيس "محمود عباس" قبل يوم واحد من
بدء الانتفاضة، حين تحدث من على منصة الأمم المتحدة عن فرصة أخيرة، مؤكدا على أن
الفلسطينيين لم يعودوا قادرين على القبول بقواعد اللعبة بشروط الوضع الذي سبق
الانتفاضة. [9]
خاتمة
يبدو
أن هذه الانتفاضة فاجأت الجميع، وأربكت القوى والفصائل؛ ولا يتعلق الأمر بالنخب
السياسية فقط؛ بل هناك نخب اقتصادية وفي المجتمع المدني تشعر بأن الانتفاضة ستهدد
مصالحها. حركة فتح من جهتها أرادتها أن تظل «هبّة شعبية»، ربما لأن التيار المتنفذ
فيها على قناعة بأن الظرف السياسي العام غير مناسب لاندلاع انتفاضة، ولقناعتها
أيضا أن الانتفاضة ليست موضع إجماع شعبي (على الأقل في المرحلة الحالية)، أو لأنها
تريد تجنيب الشعب مواجهة خاسرة سلفا. أو ربما تعاملت فتح معها بهذا القدر لاستعادة
شعبيتها المتراجعة، ولدعم السياسات التي لوّح بها الرئيس في خطابه بالأمم المتحدة،
خصوصًا تهديده بعدم الالتزام بالاتفاقات مع إسرائيل. لذلك لم تسع إلى عسكرتها، ولم
تنفذ كتائبها المسلحة أية عملية عسكرية. أما حركة حماس؛ فقد أرادت تصعيد الانتفاضة
في الضفة فقط، حتى تساعدها على الخروج من مأزق سلطتها في غزة، وربما لإحراج وإضعاف
السلطة في الضفة.[10]
كذلك الحال، يبدو أن الأحزاب والفصائل ما زالت
مترددة بشأن المشاركة فيها، وتراوح بين عدم رغبتها، أو عجزها عن تحويلها لانتفاضة
وثورة شاملة على الاحتلال (لأنها تخشى أن الشعب تجاوزها ولم يعد يثق بها).
في الانتفاضة الأولى، تشكلت القيادة الوطنية
الموحدة في وقت مبكر، وفي الانتفاضة الثانية كانت القيادة الفلسطينية حاضرة بقوة،
بل أنها هي التي كانت ترسم خطها السياسي، وإلى حد كبير تحدد إيقاعاتها، أما هذه
الموجة الانتفاضية فما زالت من دون قيادة ولا تنظيم ولا هدف، أي من دون عقل
يوجهها، وهذا أمر لا يمكن تفسيره إلا بأن القيادة تخلّت عن مسؤولياتها، والقوى
عاجزة، بينما لم تدرك النخب ما يجري وحجم التغيير الذي يعتمل داخل الشباب
الفلسطيني، الذي أدى إلى حصول ما نشاهده الآن.[11]
فمع
ضعف دور الفصائل التاريخية، وغياب أي دور فاعل ومؤثر للقيادة السياسية الحالية، فإن
هذه الهبة الشعبية حتما ستُفرز قيادات جديدة. حينها، سيتضح للإدارة الأمريكية بأن
تقديرها للموقف على أن الهبة الحالية ليست أمراً مقلقاً، وأنه يمكن احتواؤها ببعض
الخطوات الصغيرة كان تقديرا خاطئا وغير دقيق، وحينها ستكون مضطرة للتعامل مع
قيادات جديدة ومختلفة.
من
ناحية أخرى، كشفت هذه الهبة الشعبية مدى هشاشة دولة الاحتلال، واستحالة التعايش مع
الاستيطان، وعرّت أخلاقيات جيشها، وفضحت عنصريتها، وبينت حجم الإرهاب الذي تمارسه
بحق المدنيين العزل.
الدراسة نشرت في مجلة أوراق فلسطينية، مؤسسة ياسر عرفات، رام الله، ديسمبر 2015.
الدراسة نشرت في مجلة أوراق فلسطينية، مؤسسة ياسر عرفات، رام الله، ديسمبر 2015.
الهوامش
[2] تصريح
للرئيس عباس، في حفل توزيع جائزة الدولة للآداب والفنون والعلوم الإنسانية، في قصر
الثقافة برام الله، 16-11-2015.
[6] إبراهيم
أبراش، الانتفاضة بين حسابات الشعب وحسابات النخب، الحوار
المتمدن-العدد: 4991 - 2015 / 11 / 20
[8] أحمد جميل عزم، على
الفلسطينيين قبول الفتات، جريدة القدس، 25-11-2015. http://www.alquds.com/articles/1448493954209448900/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق