مقدمة
يمكن النظر للأحداث الجارية في الأراضي
الفلسطينية، والمتصاعدة منذ بداية أكتوبر 2014 على أنها حلقة جديدة في سلسلة شبه
متصلة امتدت على مدار قرن من الزمن من الهبّات الشعبية والإحتجاجات والإضرابات والانتفاضات
المتلاحقة، بما في ذلك الثورة الفلسطينية الحالية، والثورات الفلسطينية المتعاقبة
التي ظهرت قبل النكبة، وكانت كلها حراكا جماهيريا منظماً حينا، وعفوياً حيناً،
لكنه كان دوما ضد الاحتلال والظلم والإستبداد واستلاب الحقوق وتهديد الوجود الوطني.
وإذا كان من السهل تحديد موعد بدايات
الانتفاضات والهبّات السابقة، فإنه وكما كتب د. "عاطف أبو سيف" من الصعب
تحديد متى توقفت تماما. هذه المرة، كسابقاتها، عرفنا بالضبط متى بدأت هذه الموجة
من الحراك الشعبي، ولكن وبعد مضي شهر من اندلاعها، فإن الفلسطينيون لم يتفقوا بعد على
تسمية محددة لها؛ فمنهم من اعتبرها هبّة جماهيرية مؤقتة، وآخرون موجة غضب مثل
سابقاتها، وآخرون اعتبروها بداية الانتفاضة الثالثة. ورغم أهمية التسمية، إلا أن
الأهم من ذلك هو فهم هذه "الهبة الجماهيرية" الهادرة بشكل صحيح، وتحليلها
بشكل علمي وموضوعي، ووضع منطلقات وأسس راسخة لكيفية تصعيدها، وجعلها ضربا من
الكفاح الشعبي المتواصل، واستثمارها سياسيا بما يليق بتضحياتها.
الرئيس الفلسطيني "محمود
عباس" أسماها هبّة جماهيرية غاضبة، معتبرا إياها ردا طبيعيا على الغطرسة
الإسرائيلية، رئيس الوزراء السابق د. "سلام فياض" اعتبرها انتفاضة
جديدة، مقرا بأنه لم تتوفر لها بعد حالة من الإسناد والمشاركة المجتمعية كما حصل للانتفاضة
الأولى، ولم تأخذ الطابع العسكري الذي طغى على فعاليات الإنتفاضة الثانية، إلا أن
فيها الكثير مما يُذكِّر بجوهر سابقتيها، كما يذكر بجوهر هبّة النفق في عام 1996،
وهبّة يوم الأرض في عام 1976، والثورة الفلسطينية المعاصرة التي انطلقت عام 1965،
وثورة "الستة وثلاثين"، وما تلاها، وهبة البراق في عام 1929، وثورة يافا
عام 1921، وتنسحب المقاربة هذه أيضاً بطبيعة الحال على الحراك الشعبي المبدع الذي
انطلق في بلعين في بداية عام 2005 وامتد ليشمل العديد من مناطق التماس. [1]
وسائل الإعلام الفلسطينية تتعامل معها
على أنها انتفاضة شعبية؛ وكنوع من التصعيد والتحريض تقوم بتقسيم الشاشة إلى نصفين
أو إلى أربعة أرباع، وفي كل قسم ينقل مراسلوها الأحداث من مناطق مختلفة على الهواء
مباشرة، ومعظم المحللين والمراقبين أجمعوا على أنها حرّكت المياه الراكدة، وأعادت
القضية إلى الواجهة، وجددت إيقاد شعلة الكفاح الفلسطيني، مع كثير من العبارات
الإنشائية والصور الشعرية التي تحمّل "الانتفاضة" بما هو فوق طاقتها، أو
تُسقِط عليها مواقفها السياسية، وطبعا مع انقسام في الآراء بين من يدعو لتسليحها
وعسكرتها، وبين من يؤكد على أهمية سلميتها وطابعها الشعبي. ومن يدعو لتصعيدها
باعتبارها لحظة تاريخية مواتية، ومن يدعو لتهدئتها، لأن الظروف غير ناضجة وغير
مواتية لإشعال انتفاضة شعبية، قد تستطيع إسرائيل تجييرها بالكامل لصالحها،
واستغلالها لتثبيت رؤيتها للحل النهائي، وفرض وقائع جديدة على الأرض. وإزاء ذلك
كله، يبرز سؤالين: هل تحمل هذه الانتفاضة مقومات التصعيد والاستمرار ؟ وماذا يمكن
لها أن تحقق ؟
البيئة السياسية التي جاءت فيها الانتفاضة
من
حيث التوقيت، فقد اندلعت فعاليات الانتفاضة مباشرة في اليوم التالي لخطاب الرئيس
"محمود عباس" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي قال فيه بوضوح
أن الحل السياسي وصل طريقا مسدوداً، وأن الفلسطينيين لا يمكن لهم أن يقبلوا
باستمرار الوضع الراهن، وأن السلطة في حِل من كافة التزامات أوسلو لأن الطرف
الإسرائيلي لم يلتزم بها، وأن على إسرائيل أن تتحمل مسؤولياتها كسلطة احتلال،
داعيًا مجلس الأمن لتأمين حماية دولية للشعب الفلسطيني. الجانب المهم والمؤثر في
الخطاب، أن الرئيس "عباس" الذي طالما عُرف عنه الصبر وطول النفس،
وقناعته بالحل السلمي، ورغبته لإعطاء المزيد من الفرص للمفاوضات قد وصلت به الأمور
أن يقول: "لا يمكن أن نقبل باستمرار الوضع الراهن"، الأمر الذي رسّخَ
قناعة لدى الجماهير بأن الحل السلمي قد انتهى تماما، وأن الانتظار والرهان على
المجتمع الدولي يعني تصفية القضية، وبالتالي فهذه اللحظة المناسبة للتحرك.
وبطبيعة
الحال، فإن هذه القناعة لم تتولد تلك اللحظة، فهي تكونت وتراكمت عبر مرحلة زمنية
سابقة، لكن خطاب "عباس" جاء ليعبّر بغضب ووضوح عما وصلت إليه الأمور، في
ظل مرحلة سياسية قاتمة تعيشها المنطقة، وقد شهدت القضية الفلسطينية تراجعا واضحا
في مكانتها وأهميتها في الأجندات الدولية، حتى أن الرئيس الأمريكي
"أوباما" لم يتطرق بخطابه أمام الأمم المتحدة بكلمة واحدة عن القضية
الفلسطينية، وفي مؤتمر "هرتسيليا" (الذي يعكس توجهات وأولويات السياسة
الإسرائيلية) جاءت القضية في آخر أولويات الإستراتيجية الصهيونية للمرحلة القادمة،
وبدا واضحا أن العالم بشكل عام مشغول بقضايا أخرى، أهمها مكافحة
"الإرهاب"، والتصدي لداعش، والتدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية.
أوروبا مشغولة بمعالجة قضايا اللاجئين السوريين. أما الدول العربية، فهي مشغولة
بأزماتها: مصر، تعاني من آثار وتبعات الربيع العربي، ومن صعود وتراجع الإخوان
المسلمين، ومن موجة عمليات إرهابية في سيناء وداخل المدن المصرية. السعودية أيضا
مشغولة بمكافحة موجات الإرهاب التي ارتدت إليها، واقتحمت عقر دارها، إلى جانب
انشغالها مع بقية دول الخليج في الأزمة اليمنية والحرب على الحوثيين. ليبيا والعراق
وسورية خارج دائرة التاثير، وغارقة في حروب وصراعات داخلية، وتعاني من فوضى أمنية
وفقدان سيطرة الدولة على أجزاء واسعة من أراضيها. السودان بعد الانفصال، وأزمة
دارفور، وقضية محكمة الجنايات الدوليةلم يعد بوسعه لعب دور إقليمي. وبقية الدول
العربية، مشغولة بأولوياتها وقضاياها الداخلية. القوى الإقليمية الفاعلة والقادرة
على لعب دور مؤثر هي إيران وتركيا، ولدى الجماهير قناعة بأنهما تتحركان فقط لتحقيق
مصالحهما الخاصة، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته ودم أبنائه.
على
الصعيد الداخلي، ما زال الانقسام على حاله، ورغم مرور أكثر من عام على إعلان حكومة
الوفاق الوطني ما زال قطاع غزة خارج نطاق سيطرة السلطة الفلسطينية، ولا تستطيع
الحكومة فعل شيء فيه دون موافقة حماس، التي تسيطر فعليا على كل شي هناك، وما زال
القطاع تحت حصار مشدد، وقد تعرض لثلاث حروب مدمرة، أتت على بنيته التحتية، وإلى
اليوم، لم تبدأ عمليات إعادة الإعمار .. في الضفة الغربية تستمر سياسات الإستيطان،
ومصادرة الأراضي، والقمع والاعتقالات وهدم البيوت، وعمليات التهويد في القدس،
والاقتحامات المتواصلة لباحات المسجد لأقصى من قبل عصابات المستوطنين ..
الوضع
السياسي في حالة ركود وشلل تام، بعد أن توقفت المفاوضات دون نتيجة، والإفق السياسي
مغلق كليا، أمام تعنت حكومة "نتنياهو" اليمينية، وأمام تواطؤ المجتمع
الدولي، وتساهله مع الممارسات الإسرائيلية، التي ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.
وأمام حالة الضعف والتشرذم العربي التي لم يسبق لها مثيل.
الفعل
الفلسطيني يكاد ينحصر في التحركات السياسية والدبلوماسية والقانونية على الساحة
الدولية، ورغم أن هذا الحراك حقق إنجازات مهمة، على صعيد كسب المزيد من الاعترافات
بدولة فلسطين، وتعميق عزلة إسرائيل الدولية، لكن إسرائيل ممعنة في سياساتها
التوسعية والقمعية، غير آبهة بالقانون الدولي.
الفصائل
الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتي فتح وحماس فقدت الكثير من شعبيتها، ومن قدرتها
التنظيمية وجاذبيتها على الاستقطاب، ولم تعد بنفس الدرجة من التأثير والفاعلية في
الساحة الداخلية، وبقية الفصائل في وضع أكثر سوءًا .. ولم تعد تواكب التطورات
المذهلة والمتسارعة التي تتبلور كل ساعة من حولها.
ومن
الواضح أن بقاء هذا الوضع ليس في مصلحة الفلسطينيين أبداً، بل إن استمراره يعني
إنهاء القضية، وتثبيت الحل الدائم الذي طالما حلمت الحركة الصهيوينة، وأنه بعد
سنوات قليلة لن يجد الفلسطينيون ما يفاوضون عليه، وستكون قدرتهم على الفعل والحركة
أقل، وربما غير مجدية، وهذا ما دفع بالرئيس "عباس" لأن يعلن بكل وضوح
أنه لا يمكن السماح باستمرار الوضع الراهن، ولا القبول به، وهذا ما جعل الجماهير
الفلسطينية تخرج بغضب، لتعلن عن بدء مرحلة كفاحية جديدة.
سمات الحراك الجماهيري (الانتفاضة
الثالثة)
سأجازف
بتسميتها "انتفاضة"، رغم قناعتي بأنها "هبّة جماهيرية" هادرة وواعدة،
ستأخذ شكل الموجات المتلاحقة، وستؤسس لمرحلة كفاحية جديدة بأدوات وأساليب مختلفة.
لكن هناك بعض السمات التي ميزت الفئات الاجتماعية المنخرطة بقوة في
فعالياتها، وأبرزها:
1. الأغلبية
الساحقة من المشاركين هم من فئة الشباب والفتية الذين تتراوح أعمارهم بين ال 15
وال 22 سنة، وهي المرحلة العمرية التي يكون فيها الشباب في ذروة نشاطهم وحماستهم،
ويكون اندفاعهم متحررا من معايير الربح والخسارة، بحيث تستوي لديهم حسابات الموت
والحياة، وأحيانا تكون شجاعتهم ضربا من التهور. هذا الجيل الشاب، يعاني فقدان الأمل من عملية التسوية، أي من
إسرائيل، ومن اتفاق أوسلو، ومن خيارات القيادة الفلسطينية، ومن عجز
النظام السياسي الفلسطيني عن تقديم برامج وخطط وطنية، وخاصة لفئة الشباب، في إطار
فكري سياسي مقاوم، أو في إطار خطط تنمية وطنية تمنحهم الأمل بالمستقبل، وهذا ما يفسر روح التمرد والغضب المختزنة
عند هؤلاء الشبان، ولا مبالاتهم إزاء أي اعتبار.
2. معظمهم غير منتمي لأي فصيل أو حزب
سياسي بالمعنى التنظيمي، حتى لو كان أي ناشط منهم مقربا من هذا التنظيم أو ذاك، أو
يحمل راية فصيل معين في المواجهات، إلا أن حداثة عمره تعني أنه لم يتشرب بعد مفاهيم
وشعارات أي فصيل، وهو بالكاد يعي التوجهات العريضة للفصائل بشكل عام. ما يعني أن
الأيديولوجيا والشعارات السياسية ليست هي المحرك والدافع والمحرض لهم.
3. وطالما أنهم غير منتمين لفصيل، فهذا
يعني استحالة ضبط تحركاتهم أو احتوائها، أو حتى التنبؤ بها, وهذا أكثر ما يقلق
إسرائيل، وربما يثير قلق بعض صناع القرار في السلطة الوطنية، خاصة أولئك الذين لا
يؤمنون بخيار الانتفاضة.
4. ينتمي هؤلاء الشبيبة إلى مختلف
الطبقات والفئات الاجتماعية، من المخيمات والمدن والأرياف، منهم من ينتمي للطبقات
المسحوقة والمهمشة، ومنهم من ينتمي لعائلات ميسورة الحال وحتى ثرية، ومن الفئات
المثقفة والمتعلمة، ما يعني تهافت مقولة أن الفقر والبطالة واليأس هو الدافع
المحرك لهم؛ بل أن تحليل سريع لشخصيات من استشهدوا في المواجهات الأخيرة، سواء في
المظاهرات أم خلال تنفيذهم عمليات طعن، سنجد أنهم كانوا وحتى لحظة استشهادهم في
كامل أناقتهم، وإقبالهم على الحياة، وكان منهم نشطاء وفنانون وقادة اجتماعيون.
5. من بين أهم الدوافع التي أخرجتهم
لساحات المواجهة تنامي مشاعر الغضب والسخط التي تكونت وتراكمت في وعيهم ومن خلال
مشاهداتهم لاعتداءات الجيش والمستوطنين وممارساتهم الاستفزازية، وبالتالي نشأ
لديهم وبشكل تلقائي الشعور بالتحدي والتصدي المقترنين بحالة من الغضب الواعي. ولم
تكن تلك المشاعر منقطعة عما تراكم في وعيهم مسبقا من إحساسهم بالمسؤولية الوطنية
والدينية تجاه ما يجري في القدس من عمليات تهويد، واقتحامات متكررة للأقصى،
وسياسات الإستيطان وهدم البيوت .. والملفت للإنتباه أنهم نجحوا وببراعة بتحويل تلك
المشاعر، بالإضافة لإحساسهم باليأس والإحباط الذي جاء نتيجة لانغلاق الأفق السياسي
وغياب أي فعل فلسطيني مؤثر، وتراجع دور القيادة، وتواضع أداء الفصائل .. حولوا
مشاعرهم الحانقة إلى يأس إيجابي، دفعهم للخروج وهم مفعمون بالأمل والتحدي، لذلك
شهدنا الكثير من المظاهر الحضارية الإيجابية في المواجهات، مثل الرقص والدبكة
وإقامة الاحتفالات والغناء الجماعي ولعب كرة القدم أمام الجنود، واجتراح أشكال
مقاومة إبداعية غير مألوفة، ومواجهة الاعتقالات بالابتسامة، ما يدل على تطور حالة
متقدمة من الوعي الوطني.
لكن هذا لا ينطبق على جميع الحالات، إذ
علينا الانتباه إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن التحريض الإعلامي المباشر، والتعبئة
التي مارستها وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال
الصور والأفلام القصيرة كان لها الدور الأكبر في تحريك مشاعر الغضب، والتحريض على
الخروج لدى قطاعات واسعة من الشباب، لذلك، شاهدنا الكثير من ردود الأفعال
المباشرة، والتي كان أكثرها متسرعا، ودون تخطيط، فمثلا صور عمليات الإعدام
الميداني، والتنكيل بالجرحى والمعتقلين، وصور الشهداء لعبت دورا تحريضيا كبيرا،
ومثل هكذا ردود أفعال، تكون عفوية، وعاطفية، لا تدوم طويلا، وذات أثر مؤقت.
6. مشاركة واضحة وقوية للمرأة
الفلسطينية، خاصة الشابات وطلبة الجامعات، وبشكل مختلط ودون مشاكل، وهذا له دلالات
اجتماعية بالغة الأهمية. وهذه المشاركة لم تكن رمزية، رغم أهمية هذا الجانب، بل
كانت مشاركة فعلية مؤثرة، وصلت حد تقديم شهيدات ومعتقلات.
7. بعد موجة الطائفية والتطرف الديني والمذهبي التي اجتاحت المنطقة
.. جيل الشباب الفلسطيني المنتفض، ممن يدخلون حيز الفعل لأول مرة يمارسون النضال
الوطنى كمناضلين وطنيين فلسطينيين؛ يقاومون الاحتلال وينشدون الحرية، وليس الجهاد
الدينى بالمفهوم السائد .. فهم يريدون أن يكونوا جزءًا من العالم المعاصر، مندمجين
في الحضارة الإنسانية لا معادين لها، جيلا حرا واثقا من نفسه، يفخر بفلسطينيته وكوفيته،
ولا يحمل سوى علم فلسطين.[2]
8. هؤلاء الشبان والفتية ولدوا بعد
توقيع اتفاقية أوسلو، أي فترة وجود السلطة الوطنية، وهذا يعني أنهم لا يحملون في
ذاكرتهم القصيرة تجارب الانتفاضتين الأولى والثانية، ولا يعرفون إلا القليل عن
فترة العمل الفدائي في الأردن ولبنان والمواجهات العسكرية مع الجيش الإسرائيلي
ومعارك بيروت وغيرها.
9. وإلى جانب قلة خبرتهم، فهم لم
يتلقوا أي تدريبات عسكرية أو أمنية أو تنظيمية، ويستخدمون أسلحة بدائية، ذات
فعالية متواضعة من الناحية العسكرية، الأمر الذي كان يعني في بعض الأحيان، خسارة
شباب بعمر الورد، دون مقابل، للأسف الشديد.
10. فعاليات الانتفاضة تجري دون قيادة،
دون ناطق إعلامي، ودون تنسيق بين المناطق والفعاليات، ودون رؤية سياسية واضحة، أو
إستراتيجية بعيدة المدى، ودون تخطيط مسبق، والأخطر من ذلك أنها دون هدف سياسي محدد
..
11. معظم فعاليات الانتفاضة إما فردية،
أو جماهيرية عفوية، أو بدعوات من مجالس الطلبة في الجامعات (وهي مجالس مسيّسة،
وتتبع للفصائل)، والملاحظ أن الفئات الاجتماعية الأخرى ما زالت في حالة من الترقب
والانتظار، ولم تخرج وتشارك بقوة كما حصل في الانتفاضات السابقة.
النقاط من 1 إلى 7، تصبُّ في الجانب
الإيجابي لإدامة الهبّة الجماهيرية، وتزيد من فرص تعميمها وشموليتها للوصول إلى
انتفاضة شعبية عارمة، خاصة إذا توفرت مجموعة شروط، أهمها انخراط الفصائل بشكل جدي،
وتوفير حاضنة سياسية وقيادة ميدانية. بينما النقاط من 8 إلى 11 فتحمل في ثناياها
عوامل خفوت الفعل الجماهيري، وربما توقفه - مؤقتا - خاصة إذا لم يتم تداركها.
مستقبل الفصائل الفلسطينية على ضوء الانتفاضة
يرى
بعض المحللين أن الانتفاضة الحالية خرجت عفوية دون قرار سياسي، ودون دعوة من قبل
الفصائل، ومعظم فعالياتها تتم بمبادرات فردية. وهذا الطرح من الناحية النظرية
صحيح، ولكنّ بعضاً من هؤلاء يطرحون آراءهم بطريقة تدين الفصائل، وبما يوحي أنها
انتهت صلاحيتها، ولم تعد مطلوبة، وأن الشعب قادر على اجتراح أدواته النضالية،
واستكمال مسيرته الكفاحية دونها ..
وبالعودة
للانتفاضات السابقة سنجد أنها فعلا اندلعت بشكل عفوي، ومن دون أن يرصدها أحد، وكانت
عبارة عن انفجارات شعبية حقيقية؛ فالانتفاضة، أو أي فعل جماهيري، لا تحتاج حتى
تندلع لقرار سياسي أو تنظيمي، فهي تأتي
عادة فجأة، في لحظة غير متوقعة؛ وإذا انطلقت فلا يكون بمقدور أحد أن يوقفها. ولكن تلك
اللحظات التي هيأت للإنتفاضات لم تأتي اعتباطا ولا مصادفة، إنما أتت تتويجا
لتراكمات معينة على الصعيدين الداخلي والخارجي، فجاءت بعد نضوج جملة من الظروف
والمقدمات، وكانت بحاجة فقط إلى شرارة حتى تنفجر، كانت هذه الشرارة في الانتفاضة
الأولى حادث سير متعمد، وفي الانتفاضة الثانية زيارة "شارون" الاستفزازية
لباحة الأقصى. وفي كل مرة كانت بعد انطلاقتها تجد الحاضنة التنظيمية التي توفر لها
مقومات الصمود والاستمرار والتصعيد.
الفصائل الفلسطينية لم تنخرط بقوة في فعاليات
الانتفاضة الحالية، رغم أنها باركتها وأيدتها منذ البداية، وبكل بلاغة اللغة،
ودعمتها إعلاميا وسياسيا، وبمشاركات رمزية لقياداتها وكوادرها، ودعت لإدامتها
وتصعيدها .. لكنها تأخرت بمواكبتها، وبتبنّي برامج كفاحية ترتقي إلى مستوى الحدث
(تنظيمية وميدانية وجماهيرية وإعلامية) وبإعادة طرح خط سياسي يتناسب مع قوة الحدث
الجديد.
في غزة رغم خروج آلاف المواطنين واشتباكهم مع
الجنود على السلك الشائك الفاصل بين القطاع وإسرائيل، إلا أن خطاب حماس الرسمي كان
يركز على أن ما تقوم به جماهير غزة هو تضامن مع انتفاضة الضفة. وهذا يعني أن حماس
لا تريد نقل الانتفاضة إلى غزة، ولا تريد التصعيد وزج غزة في المعركة، لأن هذا
يعني المجازفة بخسارة حكمها للقطاع غير الراغبة في التخلي عنه، وتريد إبقاء
الانتفاضة في الضفة، وتصعيدها هناك. وعلى صعيد آخر يمكن قراءة موقف حركة فتح
الفعلي من خلال متابعة حجم مشاركتها المحدود في الفعاليات الميدانية واقتصاره على
فئة الطلبة والشباب، وكذلك مشاركة التنظيمات الأخرى التي ظلت محدودة أيضا، لإنها
تعرف أن مساهمتها في الأحداث لن تمكنها من تغيير المعادلة القائمة، ومن هذا يمكن
الاستدلال على اتفاق ضمني بين الفصائل على عدم خروج الأمور عن السيطرة، وأن ما يحدث
هو فعل ميداني محدود وليس انتفاضة شاملة. فالرئيس أبو مازن كان واضحاً منذ البداية
بأن ما يجري ليس إلا هبّة شعبية غاضبة.[3]
ومع ذلك، من الظلم تجاهل الدور التاريخي لفصائل
العمل الوطني الذي مهّد لمثل هذه اللحظة، والتي لولا تضحيات ونضالات هذه الفصائل
لما أمكن انطلاق أي انتفاضة، ومن الخطأ أيضا تجاهل دورها الحالي والمستقبلي وأهمية
حضورها لإدامة الانتفاضة وتعميمها، وتسليحها ببرامج سياسية.
كما أنه من الإجحاف إنكار تواجدها الحالي ومشاركتها
في فعاليات الإنتفاضة، وإن كان هذه المشاركة لا تليق بتاريخ وإرث هذه الفصائل، ولا
ترقى للمستوى المأمول منها.
ومن ناحية ثانية، يتوجب علينا فهم العلاقة بين
الفعل النضالي من جهة، وبين وجود الفصائل نفسها من ناحية ثانية بشكل صحيح، أي فهم
الدور الوظيفي لأي فصيل وطني باعتباره مجرد أداة ووسيلة وإطار عام للفعل النضالي
وحاضنة تنظيمية وسياسية تؤطر الفعل الجماهيري وتعطيه فاعلية سياسية، وأن الفصيل
نفسه لم يكن هدفا بحد ذاته في أي لحظة، وبناء عليه فإن أي مرحلة ستستدعي أدواتها
وأساليبها، حتى لو كان ذلك يعني استبدال الفصائل بأدوات كفاحية جديدة، أو أن تقوم
الفصائل بالتطور والتكيف مع الواقع الجديد، لأنها إذا لم تفعل ذلك، ولم تطور
أساليبها وآليات عملها وخطابها السياسي وبنيتها التنظيمية، فإن الأحداث ستتجاوزها،
والجماهير ستجد بدائل عنها، وستصبح مجرد تاريخ.
الدور الإسرائيلي في تفجير الانتفاضة
في
الوقت الراهن، تواجه إسرائيل مأزق "اللاحل" والفراغ السياسي الناجم عن
توقف المفاوضات دون نتيجة، وتعاني من عزلة سياسية تتصاعد يوما بعد يوم، والخشية من
سقوط الحكومة، خاصة وأن "نتنياهو" لا يمتلك أي رؤية لأي حل سياسي، وما
يعمق من أزمة إسرائيل، أن الخطاب السياسي للقيادة الفلسطينية المعتدل جدا (إلى حد
اللامعقول أحيانا) قد أفقد إسرائيل إمكانية المراوغة والتذرع بعدم وجود شريك،
واللعب على قصة الإرهاب الفلسطيني، رغم أنها حاولت الكثير في سبيل ذلك، إلا أنها
أخفقت، حتى أنها فشلت في انتزاع موقف أمريكي ضد حكومة التوافق الوطني.
كما
أن عزلتها السياسية تتعمق أكثر فأكثر بسبب ممارساتها الاستفزازية، وما تنقله وسائل
الإعلام عنها، ويكشف صورتها الحقيقية كدولة احتلال ونظام "أبارتهايد"
أولاً، وثانياً نتيجة نشاط دؤوب لحركة مقاطعة إسرائيل المطالبة بفرض عقوبات عليها
وسحب الاستثمارات منها، والتي تعرف اختصارا بال"BDS". وقد أخذ القلق الإسرائيلي يتصاعد
من تزايد حملات المقاطعة الدولية لها، خاصة في مجالات الاقتصاد والثقافة والجامعات
والبحث العلمي، حتى أن الكنيست عقدت أكثر من جلسة لمناقشة مكانة إسرائيل في الساحة
الدولية على خلفية تزايد النداءات المقاطعة لها في العالم، والمطالبة بعزلتها، كما
حذر باحثون ومفكرون وصناع قرار بأن هذا الحراك يهدد مكانة إسرائيل، ويضع سمعتها
على المحك، فمثلاً صرح الرئيس الإسرائيلي "رؤوفين ريفلين" بأن
"المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل تشكل تهديداً استراتيجياً من الطراز الأول على
النظام الصهيوني برمته"، كما وزعت وزارة الخارجية الإسرائيلية وثيقة سرية على
سفراء إسرائيل حول العالم وسُرّبت للإعلام الإسرائيلي، حذرت فيها من خطورة تنامي
مقاطعة إسرائيل خلال عام 2015، الأمر الذي من شأنه أن يمس باقتصادها وبمنظومتها
الأمنية، وحذرت من تواصل وتفاقم المد السياسي المناهض لإسرائيل.[4]
لذلك،
ومن أجل الإلتفاف على عزلتها، ومواجهة مشكلاتها؛ فإن إسرائيل وكما جرت العادة، تصدر
أزماتها إلى الخارج، أي من خلال افتعال الحروب، أو تفجير الموقف الأمني، واستدراج
ردات فعل فلسطينية لجر المنطقة إلى دائرة العنف وإشاعة الفوضى، أو من خلال افتعال
قضية أمنية، أو استغلال أي عملية عسكرية قد ينفذها الفلسطينيون. لكنها لا تفضل
خيار الانتفاضة الشعبية.
فعلى
سبيل المثال، في حزيران 2014،
استغلت إسرائيل قصة اختفاء المستوطنين الثلاث، وصعّدت من إجراءاتها العدوانية
الاستفزازية في الضفة الغربية، ولما كادت أن تتحول إلى انتفاضة شاملة، حوّلت
مدافعها باتجاه قطاع غزة، وهذا ربما لأن إسرائيل تفضل حربا في غزة على انتفاضة في
الضفة، خاصة إذا اشترك فيها المقدسيون وفلسطينيو الداخل. وفي الانتفاضة الحالية،
سعت سلطات الاحتلال للحيلولة دون تحولها إلى انتفاضة شعبية شاملة، فقدمت بعض
التسهيلات لتخفيف حدة الاحتقان والغضب الشعبي؛ مثل تراجعها عن نيتها تقسيم الأقصى
زمانيا، والسماح للمصلين بدخوله من كل الأعمار، وتخفيف الحواجز على الطرقات بين
المدن، على عكس ما فعلت في الانتفاضة السابقة. لأنها تريد حصر المواجهات في نطاق
معين.
ما
يعني أن الانتفاضة ليست هي الخيار المفضل بالنسبة للإسرائيليين، وتفضل المواجهة
العسكرية المفتوحة، لكنها (أي إسرائيل) لديها القدرة على تفريغ أي انتفاضة من
محتواها الشعبي، وحرف مسارها، وتشويه صورتها، وجعلها وبالا على الفلسطينيين، أو
على الأقل تراهن على ذلك.
صحيح أن إسرائيل ومنذ نشـأتها تثبت في كل يوم أنها دولة احتلال،
وأنها نظام تمييز عنصري، وتمارس الإرهاب المنظم، ولا تتورع عن ارتكاب أفظع
الجرائم، ولا تعبأ بالقانون الدولي، تقتل بكل حقد، تهدم البيوت فوق ساكنيها ثم
تجبرهم على دفع تكاليف الهدم !! وهذه الممارسات العدائية يعيشها ويعاني منها الشعب
الفلسطيني بشكل يومي.
لكنها دأبت في السنوات الأخيرة على تصعيد ممارساتها
العدوانية بشكل استفزازي وممنهج، فهي لم تكتفِ بإطلاق مستوطنيها ليعيثوا في الأرض فسادا،
بل إنها تتستر على جرائمهم (كما حدث في حرق الفتى أبو خضير، وحرق عائلة دوابشة)، وتوفر
لهم الحماية في اعتداءاتهم المتكررة على المواطنين، وتشجعهم على اقتحامات الأقصى، حتى
وصلت الأمور إلى تنفيذ إعدامات لشبان في الشارع وبدم بارد، واعتقالات تعسفية تطال
حتى الأطفال.
كما أنها تسعى بشكل محموم لتحويل الصراع إلى صراع
ديني، فمن ناحية تشترط على الفلسطينيين الإعتراف بيهودية الدولة كمدخل للتسوية،
ومن ناحية ثانية تركز في عدوانها على الأماكن الدينية، وتسعى لتكريس التقسيم
الزماني للمسجد الأقصى، وتطلق مستوطنيها بكل جنونهم وتعصبهم الديني وخرافاتهم
وأوهامهم التاريخية، ليحرقوا المساجد والكنائس .. وتفعل كل ما من شأنه استفزاز
المشاعر الدينية، واستحضار المفاهيم التلمودية لإشعال حرب دينية.
وإزاء هذه الاستفزازات
المتعمدة برزت وجهتي نظر، الأولى: أن حكومة "نتنياهو" لا تمتلك أية رؤية
إستراتيجية أو سياسية، وكل ما تسعى إليه هو الإبقاء على الوضع الراهن، للبقاء في
السلطة، وأنها مقابل ذلك ترضخ لإملاءات المستوطنين، واليمين الديني المتطرف، وقد
انحدرت بمستوى تعاطيها السياسي مع الأحداث أن أقصى ما توصلت إليه من قرارات في
اجتماع "الكابينت": عدم تسليم جثامين القتلى الفلسطينيين وهدم بيوتهم،
وتنفيذ عمليات إبعاد عن الأقصى لعشرات الناشطين، وغير ذلك من إجراءات تدل على مدى
قصر نظر الحكومة، بل وعلى سخافتها؛ لأنها تدرك تماما أن مثل هذه الإجراءات إنما
تزيد من حالة التوتر والغضب وتستدرج ردود فعل عنيفة من قبل الفلسطينيين.
الثانية، مفادها أن السياسة الإسرائيلية العليا لا
تمثلها خيارات الحكومة وحدها؛ بل هي محصلة رؤى وتوجهات كافة مؤسسات الكيان
(الحكومة، الجيش، الموساد، الكنيست، مؤتمر هيرتسليا ...) وبالتالي فإن ما يجري هو
سياسة ممنهجة مدروسة يُراد منها جر المنطقة إلى دوامة عنف جديدة.
أي أنه في
الحالتين، نخلص إلى أن إسرائيل تتعمد وبشكل مدروس استفزاز الفلسطينيين، لجرهم إلى
الحلبة التي تتفوق فيها؛ أي إلى دائرة العنف والحرب والمواجهة العسكرية المباشرة؛
غير آبهة بنتائج ذلك على سمعتها الدولية.
وما يدعم فرضية أن إسرائيل تستدرج ردات فعل شعبية
غاضبة، هو أن الانتفاضة الثانية ورغم أنها كانت متوقعة أكثر من سابقتها؛ إلا أن
الواقع كشف لاحقاً بأن "آرييل شارون" هو الذي لعب دوراً متعمداً في
التمهيد لاندلاعها، وذلك من خلال الزيارة الاستفزازية التي قام بها للمسجد الأقصى،
وكان متوقعا أن يقابلها المواطنون الفلسطينيون بالحجارة، وكانت إسرائيل قد أعدت القناصة
ليقوموا بدورهم بإشعال الفتيل، حيث كانوا يتخذون مواقعهم، مما أدى إلى سقوط 47
فلسطينياً خلال ثلاثة أيام. وفي أثناء انتفاضة الأقصى، كانت إسرائيل تستدرج ردود
الفعل الفلسطينية وتتعمد التصعيد العسكري كلما سادت فترة من الهدوء، وبالتزامن مع
الحراك السياسي الدولي (والأمريكي خاصة) إلى أن حققت معظم غاياتها.
الانتفاضة
بين التصعيد والتهدئة
مع
بدء الانتفاضة تعالت بعض الأصوات منادية بضرورة تسليحها، وتصعيد العمليات
العسكرية، ومطالبة الأجهزة الأمنية بالاشتباك المسلح والمباشر مع الجيش
والمستوطنين، والدفاع عن المدن والقرى الفلسطينية، متسائلة أين هي عشرات قطع
الأسلحة الرشاشة التي يحملها الملثمون (خاصة في الجنازات) !؟ بمعنى أدق يطالب
هؤلاء بعسكرة الانتفاضة.
أمام هذه الأسئلة،
إذا استثنينا الدعوات المشبوهة (لمن تجندهم إسرائيل لدوافع معروفة)، والإيحاءات
المبطنة التي تستهدف انتقاد السلطة وإحراجها واتهامها بالعمالة والخيانة (لأصحاب
المواقف المسبقة، والخصوم السياسيين)، فإننا أمام دعوات (بحسن نية) لتكرار نفس
الخطأ القاتل، الذي حوّل الانتفاضة السابقة إلى خسائر فلسطينية بكل المعاني .. وفي
ذات السياق فإن تحميل الإنتفاضة الحالية ما لا
طاقة لها به، سواء بالترويج لإمكانيتها على تحقيق أهداف غير واقعية على المدى
القصير، أو من خلال الدفع في اتجاه عسكرتها سيؤدي إلى إجهاضها.
نتفهم
تماما المشاعر الوطنية الغاضبة التي تريد تصعيد الانتفاضة بشتى السبل، وصولا
لإلحاق هزيمة منكرة بالاحتلال، وأن ذلك بطبيعة الحال سيتضمن تقديم خسائر وتضحيات
وشهداء ... لكن من غير المعقول عدم الاستفادة من دروس الانتفاضة السابقة، وتكرار
نفس الخطأ وتوقع نتائج مغايرة ..
إسرائيل
تعمد دوما للخيار العسكري وافتعال الحروب، ليس من أجل توحيد جبهتها الداخلية وحسب؛
بل وأيضا لأن إسرائيل تعتاش على الحروب، حيث أنها في أجوائها وتحت ظلالها تقضم
المزيد من الأراضي، وتستقدم المزيد من المستوطنين. وهذا يتناسب مع طبيعة دورها
الوظيفي، وطبيعة تركيبتها السياسية، ولأنها من خلال الحروب وبسبب تفوقها العسكري
تحقق في كل مرة مزيدا من الإنجازات الميدانية على أرض الواقع باتجاه الحل الذي
تسعى إليه.
ولو
تتبعنا مسار الأحداث في العقود الأخيرة، لوجدنا كيف كانت إسرائيل تفتعل الأحداث في
كل مرة لجر المنطقة إلى دائرة العنف، وأن هذا الأمر هو الذي أطال من عمرها،
وأكسبها الكثير من التعاطف الدولي، (خاصة بسبب قدرات الإعلام الصهيوني)، ومنعَ
تناقضاتها الداخلية من الظهور إلى السطح لتفعل فعلها في مصير الدولة، وأعطاها
المبررات للتهرب من استحقاقات العملية السلمية التي تستخدمها كغلاف لتجميل صورتها،
والتمويه على طبيعتها العسكرية التوسعية.
ولو
عدنا قليلا بالزمن، بنظرة تأمل موضوعية، لوجدنا أن إسرائيل حققت أهم منجزاتها
السياسية، وثبتت كل ما تريد على أرض الواقع (مصادرة أراضي، زيادة الإستيطان، بناء
الجدار، إغلاق مؤسسات القدس وتهويدها .. إلخ) في نفس الفترة التي بلغ فيها الكفاح
الفلسطيني المسلح أوجه، أي عندما كان العنف المتبادل في أعلى درجاته، وكانت
العمليات التفجيرية في قلب المدن الإسرائيلية، أي في ذروة الانتفاضة، وكل ما حققته
إسرائيل لاحقا إنما بني على تلك الفترة.
ولكن
هذا لا يعني أبدا، أنه طالما إسرائيل تستفيد من التصعيد العسكري، فإن على
الفلسطينيين تفويت الفرصة على أعدائهم، وبالتالي عليهم الاستكانة والتزام الهدوء
.. فمثل هذا الطرح لا يغدو عن كونه استسلاما مذلا.
وبدلا من المواجهة
العسكرية غير الكفؤة، ولتي سيدفع فيها الفلسطينيون ثمنا باهظا؛ عليهم اللجوء للعمل
الشعبي الجماهيري؛ أي الهبّات والانتفاضات وممارسة كافة أشكال المقاومة الشعبية، وإذا
صاحبها عمليات جانبية من دهس وطعن بالسكاكين، أو غير ذلك فدورها ينبغي أن يظل ثانويا
وليس رئيسيا، ويجب أن لا تكون سمة ظاهرة للانتفاضة، للإبقاء على طابعها الشعبي،
ولإتاحة المجال لمزيد من الفئات الاجتماعية للإنخراط فيها. وفي هذا الإطار، ينبغي
إدراك أن المقاومة الشعبية لا تؤدي إلى توقف الحياة الطبيعية (كما يحدث أثناء
الحروب)، وإضافة إلى ذلك، فإن هذا النمط من الكفاح الشعبي يحرم إسرائيل من إمكانية
الاستفادة من قدرات جيشها الهائلة، ويسلبها إمكانية اتهام الفلسطينيين بالإرهاب، ويكشف
صورتها البشعة أمام العالم، ومن جهة ثانية يُكسب القضية الفلسطينية المزيد من
الأنصار على الساحة الدولية، وقد أثبتت التجربة أن القوّة الحاسمة في المعارك
الإستراتيجية هي قوّة الجماهير الشعبية.
ليس شرطا أن تحقق أي
هبّة جماهيرية الأهداف العليا للشعب الفلسطيني دفعة واحدة، رغم أنها تسعى إلى ذلك،
وهي إن أخفقت مرة فإنها ستضيف مدماكا جديدا في البناء الكلي، عبر عملية تراكمية
مستمرة، وإن تراجعت قليلا فإنها ستتصاعد من جديد، وستأخذ شكل الموجات المتلاحقة
والمتصاعدة، وصولا للإنتفاضة الشعبية الشاملة، والتي أهم ما يميزها امتلاء الشوارع
بالجماهير، وتحت شعار واحد وعلم واحد، وبقيادة ميدانية موحدة، من أجل إنهاء
الاحتلال ودحره وتفكيك المستوطنات وتحرير كافة الأسرى.
حصاد الانتفاضة في
شهرها الأول
أكثر
من سبعين شهيدا، وآلاف الجرحى والمعتقلين حصيلة الشهر الأول من الانتفاضة (مقابل
12 قتيل إسرائيلي ونحو 120 جريح)، وهذه التضحيات الغالية مثل سابقاتها تمهد الطريق
للوصول للحرية والاستقلال، ولكن مرحليا حصدت الانتفاضة نتائج وطنية وسياسية، بالغة
الأهمية، أبرزها:
1. بانتشار
فعالياتها في كافة مدن الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الداخل الفلسطيني المُحتل،
وعدم اقتصارها على القدس، تكون الانتفاضة قد أعطت إشارات قوية على توحّد الشعب
الفلسطيني نحو هدف واحد، هو إنهاء الاحتلال، وكسرت رهان الاحتلال الإسرائيلي الذي
دأب في سياساته على تقسيم الشعب الفلسطيني وتفتيته إلى أقاليم جغرافية وسياسية
متباعدة.
2. أوصلت
الانتفاضة رسالة لجميع الأطراف الدولية، ولصنّاع القرار الإسرائيليين أن الأراضي
الفلسطينية رمالٌ متحركة، وأن لا أحد بوسعه أن يبني عليها شيئا دون رضى
وموافقة الشعب الفلسطيني، كما أثبتت الضفة الغربية أنها هي المؤثر الأساسي القادرة
على تحريك الجماهير داخل الخط الأخضر، وأن الجدار لم يؤثر في مدى التواصل والتضامن
والتعاضد بين الفلسطينيين داخل وخارج جدار الفصل العنصري، وأن حراك الجماهير في
غزة وتضامنهم مع الضفة أكد على أن الانقسام لم يؤثر على وحدة الشعب وتماسكه.
3. أعادت
الانتفاضة تدوير البوصلة إلى حيث يجب أن تكون؛ أي نحو القدس، وباتجاه مقارعة
الاحتلال ومقاومته، وأرجعت مسألة العلاقة مع إسرائيل إلى نصابها الحقيقي: مقاومة شعبية
ضد محتل مستعمر استيطاني، والإعلان عن بدء تغير الصيغة السابقة التي بدت كما لو أن
الشعب مستكين، والسلطة تقوم بدور حماية الاحتلال، بمعنى أن الانتفاضة
أسست لمرحلة جديدة في العلاقة مع إسرائيل، على المستويين الشعبي والرسمي، وغيرت
فلسفة العلاقة مع إسرائيل من مجرد تفاوض إلى اشتباك، والتأكيد على أن طبيعة
العلاقة بين السلطة وإسرائيل يجب أن تقوم على أساس قدرة السلطة على إعادة توجيه
بوصلة الصراع في اللحظات التي تصل فيها المفاوضات إلى طريق مسدود، باتجاه الاشتباك،
وعلى أساس الحق في الدفاع عن النفس.
4. جاءت الانتفاضة لتحمل رسالة راسخة ومتجددة تؤكد
خسران الرهان الصهيوني على قدوم أجيال فلسطينية عزيمتها أقل من الأجيال التي شهدت النكبة
وبدايات العمل الفدائي وانطلاقة الثورة، أجيال سوف تنسى ما حدث، وتقبل بالوضع
القائم على أساس الهزيمة والرضوخ لاشتراطات الاحتلال. فأتت في ظرف دقيق لتنعش الأمل بأن الشعب لا يزال مصممًا على
تحقيق أهدافه بالرغم من الأثمان الغالية، ولم يعد قادرًا على الانتظار، وأن
القيادة الجديدة للمرحلة المقبلة يمكن أن تنبثق من رحم هذه الموجة الانتفاضية
وأخواتها الآتيات حتمًا.
5. ضربت
الانتفاضة صميم الفكرة الصهيونية التي جاء بها أحد قادة الفكر الصهيوني المتطرف في
عشرينات القرن الماضي "جابوتنسكي" في نظريته المعروفة بِ"الجدار
الحديدي"، والذي قال فيها: "إن الفلسطينيين لن يقبلوا بمستوطنين غرباء ليأخذوا
أرضهم، وسوف يقاومونهم بكل قوة، ولهذا لا بد من إخضاعهم بالقوة الجبارة، حتى
يفهموا أن بينهم وبين هؤلاء المستوطنين جدارا من الحديد لا يمكن قهره ولا اختراقه.
وستنتهي مقاومة الفلسطينيين بعد أن يدموا رؤوسهم وهم يضربونها في الجدار الحديد، إلى
أن يقتنعون بالهزيمة. بعدها، وبعدها فقط، يمكن التفاوض معهم وبحسب شروطنا نحن".
نظرية "جابوتنسكي" هذه احتلت مع الزمن قلب الإستراتيجيات الإسرائيلية،
يمينها ويسارها، وكل ما فعله الفلسطينيون من هبّات وانتفاضات، ومن مقاومة سلمية أو
غير سلمية، هو تمرد على هذه النظرية، وإعلان
بأنها لم تنجح ولن تنجح طالما هناك شعب حي في فلسطين وأجيال شابة متمسكة بفكرة
المقاومة والهوية الوطنية.[5]
6. أعادت
الانتفاضة ترتيب مسألة الأولويات والقضايا التي تشغل الإقليم والعالم، وأعادت
فلسطين وقضيتها وحقوقها على رأس الأجندة السياسية، بعد أن كادت تضيع وتختفي في
غمار الحروب والصراعات الإقليمية، وإحلال بدلا منها قائمة طويلة من القضايا والأزمات
التي شغلت الدول والرأي العام.
في ظل
الوضع السياسي الحالي الصعب والمعقد، وانشغال العالم بموضوع داعش والإرهاب، وفي ظل
حالة التمزق والضعف العربي، والحالة السياسية التي يعيشها الإقليم والعالم، والتي
أشرنا إليها في سياق هذه الدراسة، قد يصعب على هذه الانتفاضة تحقيق اختراق كبير
ورئيسي في المعادلة السياسية القائمة، وقد يكون من غير الحكمة تحميلها أثقالا
سياسية تفوق قدرتها، ولكن، وإضافة للمنجزات المهمة المذكورة أعلاه، يمكن رفع سقفها
السياسي، والبناء عليها لتحقيق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وهذا
يتطلب أولا تطوير الانتفاضة لتصبح شعبية شاملة، وإنهاء الانقسام، ودخول الفصائل
الوطنية بكل قوتها، ثم تبني خطابا سياسيا يرتقي إلى مستوى الحدث.
خلاصة
يرمى كل فعل ميداني سواء كان جماهيري
أم رسمي إلى لفت انتباه الفاعلين السياسيين إلى ضرورة تغير الوضع القائم. وحتى
مفهوم الثورة الداعية إلى التغيير ترمي إلى إحداث مثل هذه الالتفاتة. لأن الفعل
ليس مجرد تكامل الظروف الميدانية في سياق محدد، بل هو تكامل بين الرغبة والدافع خلف
الفعل وبين تبلور المواقف تجاهه، وفي الحالة الفلسطينية يصعب فصل الحراك الشعبي عن
الحراك الدولي، لأن القضية الفلسطينية صنعتها الأطراف الدولية ضمن مخطط دولي؛
وبالتالي فإن حلها سيكون في الساحة الدولية. والحراك (الشعبي أو الرسمي) بهذا
المعني هو تحميل العالم مسؤوليته تجاه مأساة الشعب الفلسطيني. والانتفاضة
الفلسطينية الحالية مثل بقية الانتفاضات والهبّات السابقة تسعى إلى تسليط الضوء
على الواقع المرير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وللقول بأن الأمور لم تعد تحتمل.[6]
اليوم، وبعد مرور شهر على بدء الموجة الانتفاضية، فإنها ما
زالت مشتعلة، ولكنها ليست بنفس الزخم الجماهيري الذي ظهر في بدايات الانتفاضتين
السابقتين، ومن أجل تحويلها إلى انتفاضة شعبية شاملة، قادرة على تحقيق منجزات
سياسية، فإنها يجب أن تتحول إلى انتفاضة
شعبية شاملة، وهذا الأمر بحاجة إلى هدف قابل للتحقيق، وقيادة مؤمنة بها ومستعدة
لدفع ثمن النضال، وروافع سياسية وتنظيمية واقتصادية وفكرية، وإلى جبهة وطنية عريضة
قادرة على تعميق الطابع الشعبي للانتفاضة، بحيث تصبح انتفاضة الشعب كله.
وحتى تنجح الانتفاضة، ولا تذهب تضحياتها سدى، فإن
أول شرط لتحقيق ذلك هو الاستفادة من دروس الانتفاضات السابقة، ومن مجمل التجربة
الكفاحية الفلسطينية، حتى لا نظل نكرر أخطاءنا، وبالتالي لا نحصد سوى المزيد من
الهزائم والتراجع. الانتفاضة الأولى بدأت رائعة وشعبية وهادرة، لكنها سرعان ما
أخذت تتآكل؛ أرهقتها الإضرابات والإغلاقات، والنَّفَس الحزبي والرؤى الضيقة،
والعقليات المنغلقة، وفي آخر سنواتها بدأت بوصلتها بالانحراف، أخذت تركز على
"تنظيف الجبهة الداخلية"، وهذا لم يكن أكثر من مجرد شعار خادع للتغطية
على الإخفاق في إحراز النصر الذي وعدت به الشعارات الكبيرة .. في النتيجة غرقت
المدن والبلدات الفلسطينية في الفوضى الأمنية والقتل على الشبهة .. نفس الخطأ تكرر
في انتفاضة الأقصى !! الوقوع في فخ "المهابط الثورية"، والبحث عن
إنجازات أسهل وأسرع !!
في انتفاضة الأقصى، كان يخرج من بين جموع
المتظاهرين ملثمين مدججين بالسلاح الآلي، ويصوبون نيرانهم على الجنود !! لم تكن
الخسائر فقط في من يستشهد على الفور؛ بل في تفريغ الانتفاضة من محتواها الجماهيري،
وعسكرتها، ومواجهة العدو في الساحة التي يتمناها، حيث يتفوق علينا مائة ضعف !!
ثم جاءت فصائل أخرى، ورفعت سقف المشاركة الشعبية
إلى حد المستحيل، بموجة من العمليات التفجيرية، كانت في أغلبها في المكان الخطأ،
وفي الزمان الخطأ، أعطت إسرائيل كل ما ترغب به من سلاح سياسي وإعلامي ارتد علينا،
وألحق بنا هزيمة قاسية.
جعلنا الأيديولوجية أهم من الإنسان، والشعب في خدمة
الشعار السياسي، ولم نقدر قيمة الحياة، وما زلنا نكرر نفس الخطأ؛ ندفع بشبابنا وأطفالنا
إلى أكثر النقاط سخونة، نقدمهم قرابين رخيصة، لنكتب فيهم قصائد الرثاء، ومدح
الشهادة، والتغني ببطولاتهم، وتداول صورهم على الفيسبوك، حتى لو كان ثمن ذلك خسارة
شبان بعمر الورود، أو التسبب بإعاقات دائمة .. في حين أن الأمر بالنسبة للطرف
الآخر لم يكن سوى تدريب للجنود على قنص أهداف متحركة، لا يترتب عليه أي نتائج، حتى
لو كان قتلا بدم بارد.
عندما تطغى روح التعصب الحزبي من منطلق تنافسي فئوي
يصبح إصدار البيان أهم من مضمونه، ويصبح هدف وجود الحزب نفسه وإستمراريته مبرراً
للوسائل أياً كان شكلها، وحتى لو اشتملت على التضحية بالجماهير، أو تعطيل مصالحها،
أو دفع الشبان والفتية لمواقع التهلكة. وبالإضافة لكون هذا النمط من التفكير غير
مقبول إنسانياً أو أخلاقياً، فإن من شأنه أن يؤدي أيضاً إلى إجهاض الإنتفاضة بدلاً
من إذكاء روحها.[7]
فهل
تتجاوز هذه الانتفاضة عن أخطاء الماضي، وهل تتمكن من فرض الوحدة الوطنية وإنهاء
الانقسام، وبلورة استراتيجية جامعة تتمكن من إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني
بما يساهم في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي؟
حتى
الآن يبدو أن الهبة الانتفاضية تفتقر لبعض مقومات الاستمرار المهمة، أبرزها وجود
انقسام في الرأي حول جدوى الانتفاضة، وهذا الانقسام ليس على مستوى القيادة حسب، بل
هو ممتد للأوساط الشعبية، وليس هناك تأييد واضح وكافي من القيادة لها، مع عجز
الفصائل عن قيادتها. ومن ناحية ثانية، فإن أغلبية الفعاليات الانتفاضية تتم بصورة
فردية غير منظمة، على شكل ردات فعل متأثرة بتحريض مباشر من الإعلام، وتجري دون
خطة، أو برنامج عمل، أو تنسيق بين المواقع، والأهم من ذلك دون قيادة ميدانية، ودون
هدف سياسي واضح ومعلن ومتفق عليه.
وبالنسبة
لعمليات الطعن والدهس، فإن أكثرها تمت لأسباب ثأرية، بدافع الغضب، وكان المنفذين
ضحايا مباشرين لاعتداءات الجيش والمستوطنين، هم أو أقاربهم. وطبعا، لا خلاف على حق
كل إنسان بالدفاع عن نفسه، ولكن هناك فرق كبير من حيث الكفاءة والفعالية والأثر
بين العمليات الفردية ذات الطابع الثأري الانفعالي، وبين العمل العسكري المدروس
والمنظم.
وفي
سياق متصل، ينبغي إدراك أن أغلبية عمليات الطعن كانت بتلفيق من سلطات الاحتلال،
بمعنى أن الضحية الفلسطيني لم يكن بصدد تنفيذ أي عمل عسكري، وربما كان يتجنب ذلك،
فقامت قوات الاحتلال بإعدامه بدم بارد، ثم تلفيق تهمة الطعن لتبرير عملية قتله
أمام الإعلام العالمي، وإظهار الإسرائيلي في صورة الضحية.
حتى
الآن، هناك وحدة موقف وانسجام بين القيادة والجماهير في الرؤية تجاه المقاومة
الشعبية، وتجاه سلمية الانتفاضة، التي هي عنوان هذه الهبة وأسلوبها ووسيلتها.. لكن الانتفاضة بحاجة لقيادة تولد من
رحمها، وتعبّر عنها، فبعد مرور أكثر من شهر، من الملاحظ غياب أي قيادة ميدانية
لفعاليات الانتفاضة، إلا أن هذا الأمر لن يطول كثيرا، فمن المرجح أن تفرز
الانتفاضة قيادة جديدة، وفي تحليل للباحث "ماجد كيالي" خلص بنتيجة
مفادها أن هذه الانتفاضة توفر البيئة المناسبة لخروج قيادات فلسطينية شابة تجدد
روح الكفاح الوطني، وتبعث الحياة في أوصال البنى التنظيمية للأحزاب والفصائل
ومؤسسات منظمة التحرير بعد أن أصابها التكلس والوهن. وحسب رأيه، فإن القيادة
الحالية الهرمة تكافح بعناد للإبقاء على الوضع الراهن، والحيلولة دون تجديد
القيادة، ويقول إن أحد أسباب فتح قناة «أوسلو» هو خشية القيادة الفلسطينية من
إمكانية نشوء قيادة بديلة، وبالمحصلة، أدى هذا التخوف إلى إحباط مشروع توليد قيادة
جديدة، وتالياً كبح إمكانية تطوير الحركة الوطنية الفلسطينية، بإبقائها على ما
كانت عليه، من كل النواحي. مضيفاً: "حتى في الانتفاضة الثانية وعلى الرغم من ظهور
«حماس»، وقتها، كلاعب جديد، وكمنافس على القيادة، إلا أن هذا التغير لم يحفزّ القيادة
على التغيير السياسي الفلسطيني، حتى أن هذا لم يحصل لا بعد خسارة «فتح» الانتخابات
التشريعية، لمصلحة «حماس» (2006)، ولا بعد سيطرتها الأحادية على غزة (منذ 2007)،
ما يبين مدى تكلس البنى السياسية الفلسطينية".[8]
ويضيف
"كيالي": "بالمحصلة، فالوضع الفلسطيني اليوم يقف إزاء جيلين، الأول
بين الـ15 والـ25، والثاني في أواخر الستينيات والسبعينيات، أي بين جيل فتي وشاب،
وجيل ولغ في الشيخوخة، علماً أن هذا لا ينطبق على العمر فقط، إذ إنه يشمل الأهلية
النضالية وأنماط التفكير، وطرق العمل. فنحن إزاء جيل يعيش على القديم وجيل يتوق
إلى التحرر من كل شيء، وقلب الطاولة على كل شيء.
ويقول
"كيالي" إن قدرة الفصائل الفلسطينية على التحكم بالهبّة الشعبية، أقل
بكثير من السابق، بل إن أي محاولة في هذا الإتجاه قد تفضي إلى نتائج عكسية.
والأجدى بالقيادة الفلسطينية العمل على احتضان هبّة الشبان بدل احتكار قيادتها،
والعمل على ترشيدها بدل كبحها، وتدعيم طابعها الشعبي لا تحويلها إلى حالة فصائلية. باختصار، ترك هذه
الهبّة تطور ذاتها بذاتها وفق الطاقة المختزنة عند الشبان. ففي عمر هؤلاء، ظهرت
القيادات الحالية للحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينات، أي قبل نصف قرن.[9]
وختاما،
الإنتفاضة
الحالية، كسابقتيها وسائر هبات وثورات الشعب الفلسطيني، لا تعني تخلي الفلسطينيين
عن مطلب السلام، وإنما هي تعبير صارخ عن رفضهم المطلق للاستكانة أو الاستسلام في وجه
منطق القوة المتمثل في جبروت الإحتلال وطغيانه.
وحتى
لو خبت أو توقفت هذه الموجة من الانتفاضة؛ فإنه وبكل تأكيد ستتلوها موجات أخرى،
وستظل المواجهات
مستمرة بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال حتى جلائه كليا. وحتى ذلك الوقت سيظل
الفلسطينيون يعيشون كما لو أنهم في انتفاضة مستمرة.
الدراسة نشرت في مجلة سياسات، معهد السياسات العامة، رام الله، ديسمبر 2015.
الهوامش
[2] د. فضل عاشور، نقلا عن صفحته الخاصة. https://www.facebook.com/fadel.abujamal/posts/1009815489041030?pnref=story
[3] عاطف أبو سيف، الحراك
الدولي والحراك الشعبي، الأيام، 26-10-2015، http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=10052124y268771620Y10052124
[4] زهران معالي،
- "BDS" تؤرق إسرائيل، وطن للأنباء – إرم، http://www.wattan.tv/news/135343.html
[5] خالد الحروب، عناد شبان فلسطين
يقلب الأجندة، الأيام، 26-10-2015. http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=10051d6dy268770669Y10051d6d
[8] ماجد كيالي، تمرد شبابي على شكل هبة، الحياة،
31-10-2015، http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/11838530
[9] ماجد كيالي، تمرد شبابي على شكل هبة، الحياة، 31-10-2015، http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/11838530
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق