منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، مثّلت مفاهيم النضال الوطني
والقرار المستقل والعنف الثوري تعبيرا عن حاجتها لمسك زمام الأمور والتحرر من الوصاية، وإن شكّلت عقيدة
الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد حجر الزاوية في إطار رؤيتها لحل الصراع، وباعتبارها
وسيلة هامة لتعبئة طاقات الجماهير، إلا أنها ظلت مجرد وسيلة، تتكامل مع الوسائل
الأخرى التي لا تقل أهمية عنها، وهذا الفهم التقدمي لاستخدام العنف الثوري هو الذي
منح الثورة أخلاقها وروحها الإنسانية الحضارية، وسلحها بالمرونة اللازمة لمواجهة
المتغيرات. مع إدراكها بأن الهدف من الكفاح المسلح هو إبقاء جذوة الصراع متقدة،
والحفاظ على القضية، والحيلولة دون طيها في ملفات النسيان، وإشغال العدو وحرمانه
من الاستقرار، وإسقاط أو تعطيل كافة مشاريع التسوية التي تنتقص من الحقوق الوطنية
للشعب الفلسطيني، بمعنى آخر مارست الكفاح المسلح بوصفه استثمارا لِ"قوة الضعف"
التي يمتلكها الطرف الفلسطيني، واستخداما لِ"قوة الرفض"، دون توهم بأن
الكفاح المسلح لوحده، وبإمكاناته المحدودة سيقضي على إسرائيل، لأن ذلك يتطلب خلق
توازنات دولية تكون قادرة على تغيير المعادلة السياسية برمتها، وهذه الشروط غير
متحققة الآن، ولا يبدو في الأفق أنها ستتحقق قريبا.
وعلى هذه المفاهيم ارتكزت مسيرة الكفاح الفلسطيني لعقود
متتالية، وكانت في كل مرة تتطور أو تتخذ أشكالا متعددة وفقا لفهمها لطبيعة الصراع
ومقتضيات كل مرحلة وخصائصها، دون إسراف أو تفريط (طبعا مع أخطاء وعثرات كثيرة)،
إلى أن جاءت حركة حماس، وتغير المشهد؛ ولأنها حزب سياسي، ذو رؤية أيديولوجية،
ولأنها تستخدم الدين لأغراضها السياسية، وبمنهج إقصائي يرى نفسه الوحيد صاحب الحق،
ولا يقر للآخر بحقه في الاختلاف، ولأنها جزء تابع لجماعة الإخوان المسلمين، وجزء
من مشروع سياسي عابر للقارات، هو مشروع الإسلام السياسي العالمي، لهذه الأسباب من
الطبيعي أن تأتي بمفاهيمها الخاصة بالمقاومة، المغايرة لمفاهيم المقاومة الوطنية
الفلسطينية، ومن المتوقع أيضا أن تستخدم "المقاومة" نفسها كغطاء لتمرير
رؤيتها، وتنفيذ برنامجها السياسي (برنامج الإخوان المسلمين)، حتى لو وصلت الأمور
إلى أن تتخلى كليا عن ممارسة المقاومة، ولكن مع إبقائها "شعاراً" تحتمي
به.
طبعا، مع الإقرار بأن مفاهيمها وممارستها للمقاومة كانت
إيجابية وثورية في كثير من الأحيان، وقد تركت أثرا مهما وناصعا في تاريخ الكفاح
الفلسطيني، وبتضحيات غالية، وشهداء نُكنُّ لهم كل التبجيل .. لكن بعضها الآخر أتى
مدمرا وسلبيا ..
فقد اعتمدت حماس وإلى حد كبير في أسلوبها في المقاومة على
الشعارات والتمنيات، وإحالة الموضوع إلى القدرة الإلهية؛ وفي التعويل على روح
التضحية الشعبية التي تعلي كثيرا من شأن السلاح وتقدس الشهادة، ولكن مع الأسف دون
أي ربط لهذه التضحيات بإنجازات سياسية وطنية ملموسة تتناسب وحجم هذه التضحيات.
وصارت المقاومة في خطاب حماس، كما لو أنها هدفا بحد ذاته، بمرتبة
"تابو مقدس" لا يجوز نقدها أو مساءلتها أو التشكيك فيها، وهذا التحول
الخطير في دور المقاومة استدعى من القائمين عليها تعطيل كافة الحلول والمبادرات
التي قد تسهم في حلحلة الوضع أو التخفيف من معاناة الناس. بمعنى أنها جعلت تحقيق
أهدافها السياسية أهم من الإنسان، وصار الشعار أهم من حياة الشعب؛ بل سخّرت الشعب
لخدمة الشعار.
وبهذا المعنى خرجت
المقاومة عن وظيفتها التقليدية كضرورة يقتضيها الظرف التاريخي، وكأداة لمواجهة
الظلم، ووسيلة لصد العدوان، وصارت هي نفسها غاية ومطلبا، وتجاوزت السياقات
المنطقية التي تفرضها معطيات المرحلة، ثم صارت عبئا ثقيلا على الشعب.
باسم المقاومة، سيطرت حماس على غزة، وافتتحت أول جولة دموية
على أرض الوطن بين أبناء الشعب الواحد، ودشنت عصرا جديدا من الانقسام، سنظل نعاني
منه لسنوات طويلة. وباسم المقاومة، صارت غزة إمارة منفصلة، تخضع لحصار مشدد من
جميع الجهات، وهذا الحصار الخانق أتى على مقدرات القطاع، وعلى مستقبله، وجعل من
غزة من بين أسوأ مناطق العالم للسكن.
عندما قررت دخول الانتخابات، ثم التفرد بحكمها للقطاع، هل
كانت قيادة حماس تراهن على "عدالة" المجتمع الدولي، وتتوقع أن يعترف
العالم بها (بما في ذلك إسرائيل)، ويقبل بأن تطور "دويلتها" وأن يفتح
لها معابرها، ويسمح لها بإنشاء مطار وميناء، وأن تطور اقتصادها وتنفذ خططها
التنموية ومشاريعها العمرانية ...إلخ ؟! أم أنها كانت تعلم مسبقا باستحالة ذلك،
وأنها ستتعرض للحصار، ومع ذلك أخذت سكان القطاع رهينة لتمرير مغامراتها السياسية
؟؟ أم أن هذه الأمور لم تكن في وارد تفكيرها أساسا، وكل ما أرادته هو إدامة حكمها
للقطاع ؟! في كل الأحوال، النتيجة واحدة: تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش ..
والمأساة أن حماس حتى بعد تسع سنوات من الحصار والفشل والأزمات المتلاحقة لم تقيّم
تجربتها في المقاومة، بل إنها ماضية في مشروعها غير آبهة بمعاناة الناس، بل صار شرطا
لاستمرار "مقاومتها" أن يتوقف إيقاع الحياة في غزة، وأن تؤجَّل كل
"الكماليات" كالتعليم والصحة، وحتى «التحرير» الذي صار أبعد وأكثر غموضا،
وصار لزاما على الناس أن يتنازلوا عن حقهم بحياة طبيعية لصالح المقاومة.
باسم المقاومة خاضت حماس ثلاثة حروب مدمرة، خلّفت آلاف القتلى
والمعوقين والمشردين والبيوت المهدمة. وباسم المقاومة، تتمسك حماس بإدارة معبر رفح
المغلق، وترفض أي حل بتسلميه للسلطة، مع علمها بأن هذا يعني حرمان الكثيرين من
السفر، وهم بأمسّ الحاجة إليه.
المشكلة، أن حماس عمليا لا تمارس المقاومة، وقد أوقفت
عملياتها العسكرية منذ العام 2003، والحروب التي خاضتها إنما فُرضت عليها فرضا،
وكانت بعد كل حرب تجدد تمسكها بالهدنة.
أي مقاومة لا تضع قيمة الإنسان بالمرتبة الأولى، وتشذ عن
الأهداف الوطنية، وتصبح رهينة الحزب وأيديولوجيته، تفقد مشروعيتها وصدقيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق