كالعادة، إزاء كل حدث (صغيراً كان أم كبير) ينقسم الناس، وتتعدد
الآراء .. وهي ظاهرة بحد ذاتها صحية ومطلوبة، سأظل أمدحها كل مرة، لأن الناس
جُبلوا على الاختلاف والتنوع .. ولكن، في أحيان كثيرة يتحول الاختلاف في الرأي إلى
خلاف حاد، ويتمترس كل فريق في قوقعة مغلقة، ويبدأ من خلفها بإطلاق سهامه على
الخصوم، حتى تصل الأمور حد القذف وتبادل الاتهامات .. في قضية استشهاد المناضل
"سمير القنطار" كان لطعم الخلافات هذه المرة مذاق العلقم .. على مواقع
التواصل اشتعلت حروب التكفير والتخوين، وتراشق الشتائم والتهديد بالحذف، واستعمال
ما تيسر من الأسلحة الافتراضية .. بموازاة حرب حقيقية تدور في الميدان يستخدم
أطرافها كل ما وصلت لأيديهم من أسلحة فتاكة.
السؤال البديهي: بماذا أفدنا الأمة من هذه الحرب الكلامية المفتعلة
؟ سوى إعطاء العالم دروسا في بث الكراهية، والتحريض الطائفي، وتعميق العداوات،
ونكئ الجراح، والتخندق خلف أوهام مركبة !! والتشدق بشعارات رنانة جوفاء ..
مشكلة العقلية العربية، أنها "عقلية كليانية"، تهيمن
عليها الثنائيات الحادة؛ عقلية لا ترى إلا اللونين: الأبيض أو الأسود، في حين أن المساحة
الفاصلة بينهما تحوي ما لا حصر له من الألوان. عقلية أحادية البُعد، لا تصنف الناس
إلا في خانتين متناقضتين، وتستسهل إطلاق الأحكام القطعية: إما وطني أو خائن، مسلم أو
كافر. عقلية ضيقة، صورت لها أيديولوجيتها المغلقة أن العالم قسمين، لا تقوم
العلاقة بينهما إلا بالحرب، في حين أن الواقع أكثر تعقيدا وتنوعا .. عقلية قصيرة
الذاكرة، تبني مواقفها استنادا إلى آخر مشهد، بعد أن تفصله عن سياقاته السابقة، وتعزله
عن ظرفه الموضوعي ..
في هذا المناخ البائس يصبح كل فرد عبارة عن حاكم وقاضي وجلاد، يمارس
أحكامه باستبداد لا يقل عن استبداد النظم الحاكمة نفسها، وعلى كل من يُقدِم على عمل
ما أن ينال أولاً رضا وموافقة كل فرد من هذا المجموع المستبد، حتى من يموت، ولو
مات برصاص الجيش الإسرائيلي يجب على روحه أن تطوف بين الناس لينال منهم لقب
"شهيد" أو "خائن" !!
مثل هكذا عقلية، سينجم عنها حتماً آليات تفكير متطرفة، متشنجة، انفعالية؛
عندما تمدح تفرط في المديح حد الابتذال، وعندما تنتقد تتطرف في النقد حد الفجور، مثلا،
"سمير القنطار"، صار مجرما، لأنه انضم إلى حزب الله، مع إنكار تام لكل
تاريخه النضالي .. "حسن نصر الله" الذي كان "بطل تحرير
الجنوب" و"سيد المقاومة"، صار "خائنا" و"شبيحا"
لأنه اصطف إلى جانب النظام السوري .. طبعا نتوصل إلى مثل هذه التوصيفات بكل خفة، لأننا
نفكر بعقلية انتقائية مصلحية، لا تفهم العالم إلا من منظورها الخاص، وفق مسطرتها
فقط، فمن لا يتفق معنا هو ضدنا بالضرورة (وهذا الشعار هو أهم مبادئ الفاشية).
لست هنا بمعرض تأييد للنظام السوري، أو للمعارضة .. فأنا ضد الحرب
أساسا، وضد قتل أي إنسان، وأرفض إرهاب الأنظمة لشعوبها بنفس القدر الذي أرفض فيه الإرهاب
الإسرائيلي، وضد تدخل أي قوة خارجية في الشأن السوري، ومع الشعوب في كفاحها من أجل
الحرية والعدالة .. ولكني أرى أن أخطر ما في الموضوع مسألة التحريض الطائفي .. خاصة
وأن البعض لم يعد يخجل من ترديد التصنيفات الطائفية: سمير قنطار "الدرزي"،
حزب الله "الشيعي"، الحرب ضد "السُنة" ...إلخ.
كيف يمكن للعقل العربي أن يرتقي قليلا بتفكيره؛ بحيث يصبح قادرا
على التمييز بين الدولة والنظام، بين الدين والأيديولوجيا الدينية، بين الإسلام وأحزاب
الإسلام السياسي، بين الطائفة والطائفية .. فمثلا؛ هنالك مبررات كثيرة لمعاداة "النظام"
السوري، ولكن يجب أن ندرك أن إنهيار "الدولة" السورية يعني فتح أبواب
الجحيم، وإجتياح المنطقة برمتها موجة من الفتن والفوضى والتطرف والدمار لا يعلم
مداها إلا الله .. وقد يكون لدينا ما يكفي من الأسباب لانتقاد "نظام السيسي"،
ولكن دون أن نتورط بعداء الدولة، أو نقلل من شأن الدور التاريخي المصري. وقد يكون
للبعض ألف سبب لمعاداة "أردوغان"، أو النظام الإيراني، ولكن علينا دوما
أن نبحث عن طرق لكسب هذه الدول والتحالف معها بدلا من عدائها، ليس لأنها قوى إقليمية
مهمة وحسب، بل لوجود روابط متينة وتاريخية مع شعوبها ..
بماذا يفيدنا عداء الشعب الإيراني، وإطلاق توصيفات من مثل "النظام
الإيراني الصفوي الشيعي" ؟ أو عداء تركيا، واتهامها بأنها ذات أطماع عثمانية
وأحلام إمبراطورية ؟ لماذا لا نفرق بين أنظمة الخليج وسياساتها الفاسدة، وبين
شعوبها الطيبة الصديقة ؟ وبالمثل، لماذا يحلو للبعض تنمية روح العداوة والبغضاء ضد
شعوب الأرض ودولها ؟ لماذا نكره دوما من لا يشبهنا؟
متى سنصدق ونقتنع بأن كل هذه التصنيفات وعمليات التحريض الطائفي هي
من فعل أعدائنا ؟ صرفوا عليها أموالا طائلة، ونظموا من أجلها أعدادا مهولة من
الجواسيس، وأطلقوهم لبث مخاوف كل طائفة من الأخرى، وفي الدس بينهم بقصص لم تحدث،
ونياتٍ مبيتة لم تكن واردة أصلا، ونبش ثارات قديمة، ومحاكمات تاريخية بال عليها
الزمان وخري .. متى سندرك أن الخلافات الطائفية تعني تحويل الصراع ضد المشروع
الصهيوني إلى صراع داخلي طائفي مؤبد، سيحول المنطقة إلى كومة خراب !! متى سنكف عن
الانفجارات في وجوه بعضنا ؟ وندرك أن الاحتلال الإسرائيلي هو عدونا الوحيد ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق