بأكثر من مائة شهيد، وآلاف الجرحى والمعتقلين تدخل
الانتفاضة الفلسطينية شهرها الثالث. ورغم تواصل فعالياتها في مختلف المدن
الفلسطينية، إلا بعض العوامل أخّرت تحولها إلى انتفاضة شعبية شاملة، ووضعت
مستقبلها أمام خيارات محددة، على الأرجح سيكون بسماته العامة انعكاساً لواقعها
الراهن.
فمن الجانب الفلسطيني لا تزال المواجهات محدودة، وتقريبا
مقتصرة على نقاط التماس، وحجم المشاركة الشعبية أقل بكثير مقارنة بالانتفاضات
السابقة، ولم نشهد حتى الآن عمليات عسكرية نوعية، فضلا عن موقف القيادة والفصائل
المتردد. وفي المقابل فإن سلطات الاحتلال مكتفية لغاية هذه اللحظة بالقمع بكل قوة
وقسوة في مناطق التماس والمواجهة، ولكن دون وجود مؤشرات على نوايا بالتصعيد
العسكري كاحتلال المدن الفلسطينية، أو قصف مقرات السلطة ومراكز الأجهزة الأمنية، أو
حتى اتخاذ إجراءات عقابية اقتصادية موجهة ضد السلطة، مثل احتجاز أموال الضرائب، أو
فرض عقوبات جماعية مثل إغلاق الطرق ونصب مئات الحواجز كما فعلت في انتفاضة الأقصى.
ويمكن القول بأن هذه الهبّة الجماهيرية لم تتمكن
لغاية هذه اللحظة من تحريك المجتمع الدولي، أو إجبار الإدارة الأمريكية على أن
تتصرف وتأخذ موقفا جديا، أو إحداث إختراق في الموقف الإسرائيلي، بل أنها حتى لم تحرك
الجماهير العربية؛ إلا أن هذا كله لا يقلل من أهميتها؛ إذ أنها بهذه الوتيرة
السلمية المتصاعدة، وبامتلاكها روح الإصرار والتحدي، وبتقديمها كل هذه التضحيات، هي
أقرب ما تكون في اتجاه تحولها إلى "انتفاضة استنزاف"، على غرار حرب
الاستنزاف التي تجري عادة بوتيرة أقل من الحروب التقليدية، ويتجنب فيها الطرفان
استخدام كافة عناصر قوتهم، الأمر الذي يقلل من حجم الخسائر.
صحيح أن هذه الانتفاضة بدأت عفوية كسابقاتها، لكنها
هذه المرة جاءت دون إطار قيادي ميداني ودون هدف سياسي واضح، إلا أنها دون شك وفرت
فرصة تاريخية لإعادة تصحيح شكل العلاقة التي سادت في السنوات السابقة بين الشعب
والسلطة من جهة، والاحتلال الإسرائيلي في الجهة المقابلة، أي بجعلها علاقة اشتباك
وتصادم بين الضحية والجلاد، وفرصة للخروج من حالة اللامقاومة، واللامفاوضات التي
اتسمت بها المرحلة السابقة.
وحتى تحقق الانتفاضة أهدافها، وتتحول إلى انتفاضة
شعبية هادرة، وتقدم رسالة سياسية واضحة وقوية للعالم، قادرة على إحداث الاختراقات
المطلوبة، لا بد من إنضاج بعض العوامل المهمة، وأولها اتساع قاعدتها الجماهيرية، وانخراط
فصائل العمل الوطني بقوة أكثر في فعالياتها، وعدم الاكتفاء بدور المراقب والمشجّع،
وهذا يتطلب بداهة تشكيل إطار قيادي ميداني، يمثل كافة الفصائل والفعاليات الوطنية،
يوازيه على مستوى القيادة السياسية تقديم خطاب سياسي مختلف لا تكون
"المفاوضات" مبتدئه ومنتهاه.
وبالنسبة لحركة فتح، والتي هي الآن أمام فرصة
تاريخية، ويمكن أن تكون الأخيرة، لتصويب مسارها، واستعادة مكانتها الريادية
والقيادية في الكفاح الفلسطيني، مطلوب منها أولا أن تصفّي خلافاتها الداخلية،
وتعقد مؤتمرها الحركي، لتجدد شبابها وقياداتها، وتخرج ببرنامج كفاحي مقاوم يرتقي
إلى مستوى الأحداث، ويليق بإرثها النضالي، ثم بعد ذلك عليها أن تنجز المصالحة
الوطنية وتنهي خلافها مع حماس بأي شكل، الأمر الذي يتطلب منها ومن حماس تقديم
التنازلات المتبادلة لإنهاء الانقسام، مرة أخيرة وإلى الأبد. وهذا يعني تنفيذ
اتفاقية الشاطئ، وتمكين الحكومة من ممارسة أعمالها في غزة، وأهمها تحديد موعد
للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
الأمر الثالث، هو عقد المجلس الوطني الفسطيني،
والبدء فورا بعمليات إصلاح وتجديد لهياكل منظمة التحرير الفلسطينية، دون الحاجة
للدخول في حوارات داخلية من جديد، فهناك اتفاقية القاهرة 2005، والعديد من
التفاهمات الوطنية التي سبق وأنجزت، ولكن لم يطبق منها شيء. أي بمعنى مختصر، ترتيب
البيت الفلسطيني وتمتين الجبهة الداخلية.
قد تبدو هذه المطالب حالمة بعض الشيء، أو متفائلة
أكثر من اللازم، ولكن بدونها لا يمكن تحقيق أي تقدم سياسي، وسنظل ندور في حلقة
مفرغة، نقدم فيها تضحيات غالية ونجني مزيدا من الهزائم والإخفاقات .. وعلينا أن لا
تفقد الأمل باتجاه تحقيق هذه الأهداف؛ ففي عالم السياسة كل شيء قابل للتحقق، وأحيانا
ما يبدو أنه واقعي وممكن يتضح أنه بعيد جدا عن التحقق، مثال ذلك "حل
الدولتين". وما يبدو مستحيلا، يغدو حقيقيا بأسرع مما يتخيل أكثر المراقبين
خيالا، ومثال ذلك ما يحدث حاليا في المنطقة العربية، والذي كان يبدو خياليا قبل
خمس أو عشر سنوات.
الانتفاضة الثالثة، أو هبّة القدس، أو مهما كان
اسمها، لا تنتظر منا خطابات ومديح وقصائد .. تنتظر منا جميعا أن نحولها إلى صرخة
قوية ومدوية في وجه العالم. أن نجعلها نمط حياة، ونملّكها مقومات الاستمرار
والتصعيد المدروس، بحيث تكون تمرد حقيقي ودائم ضد الاحتلال، وتعبير صارخ عن رفض إجراءاته
الإرهابية العنصرية ومخططاته التوسعية.
وحتى لو بدا لنا أن هذه الانتفاضة غير قادرة على دحر الاحتلال، في
هذه المرحلة، وفقا للمعطيات المتاحة؛ إلا أنها تشكل مدخلا مناسبا لعلاج الوهن
والضعف الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية، وفرصة لتغيير المسارات المختلفة التي
اعتمدتها القيادات السياسية الفلسطينية خلال المرحلة السابقة والتي انتهت جميعها
بالفشل. وفرصة لإنهاء الانقسام الداخلي، بل إنها تشكل فرصة للأشقاء العرب، كي يصحو
من واقعهم المخزي بعد أن غرقوا في صراعاتهم الطائفية، وانشغلوا عن قضيتهم المركزية.
الانتفاضة تمنحنا القوة الأخلاقية للرد على سياسة التجاهل
والانحياز التي تتبعها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وإجبارهم على تبني خطاب
آخر متحرر من الهيمنة الصهيونية، وأن يظهروا ولو لمرة واحدة انحيازهم لقيم العدالة
والحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق