تكررت في منطقتنا في السنوات القليلة
الماضية ظاهرة انحباس المطر لفترات طويلة نسبيا، ثم هطوله دفعة واحدة بكميات كبيرة
مسبباً سيولا عرمة تغرق معها الشوارع والأحياء، إلى جانب ظاهرة ارتفاع درجات
الحرارة صيفا بشكل غير مسبوق، وتداخل الفصول الأربعة على نحو يكاد يلغي فصلي
الخريف والربيع .. وهي ظواهر غير معهودة سابقا، وآخذة بالتطرف أكثر فأكثر ..
كما
شهدت مناطق مختلفة من العالم سلسلة من الكوارث الطبيعية ألحقت بها خسائر فادحة في
الأرواح والممتلكات، حيث شردت الفيضانات ملايين الناس، خاصة في بنغلادش وأندونيسيا،
في حين تسببت موجات الجفاف التي اجتاحت أستراليا باندلاع حرائق كبيرة أتت على
محاصيل الحبوب، فيما اجتاحت موجات الصقيع والعواصف الثلجية أوروبا والساحل الشرقي
للولايات المتحدة.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه الظواهر
وإن بدت لنا الآن مزعجة ومخيفة، ما هي إلا مقدمات للقادم الأخطر .. أي عندما تبدأ
مظاهر التغير المناخي بأخذ منحنياتها الحادة والمرعبة، والتي ستضع مصير الإنسان
والكوكب برمّـته على المحك .. فحسب علماء المناخ؛
فإن الأرض تشهد ومنذ فترة طويلة
ما يعرف بالتغير المناخي، الذي من أهم مظاهره ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب زيادة معدلات الانحباس
الحراري، ومن
المعلوم أن الدول الصناعية هي المسؤول الأول عن التلوث البيئي (الذي هو أحد أسباب
التغير المناخي) بسبب ما تنتجه من غازات الدفيئة الضارة، حيث تأتي أمريكا في
المرتبة الأولى تليها الصين بنسبة تتجاوز ال 40% فيما يتحمل بقية العالم المسؤولية
عن ال 60%.
ويتوقع العلماء أن ترتفع حرارة الأرض أكثر في المستقبل
القريب؛ الأمر الذي سينجم عنه ذوبان الثلوج القطبيه، وتآكل السواحل تدريجيا نتيجة
ارتفاع منسوب البحار، وبالتالي غرق أكبر وأهم مدن العالم، وفقدان ملايين البشر
أماكن سكناهم، ومع استمرار تأثيرات التغيير المناخي ونتيجة لانحسار الغطاء النباتي
الأرضي، ستتقلص مصادر الأوكسجين، وسيعقب هذه التغيرات وقوع كوارث بيئية في غاية
الخطورة؛ مثل اشتعال الحرائق في الغابات والحقول، وزيادة معدلات الجفاف، ومساحات
الأرض المتصحرة، وندرة مصادر المياه العذبه، أو تلوثها، ومن ثم اختلال التنوع الحيوي،
وفقدان النظام البيئي لسمات التوازن والتجدد، وبالتالي ستشهد الطبيعة الكثير من
حوادث الانقراض الجماعي. وهذه التغيرات ستكون أسبابا كافية لاندلاع الكثير من
الحروب، ستخلّف وراءها ملايين القتلى، ومن ينجُ منها ربما سيهلك من الأوبئة
والمجاعات .. وستكون
أكثر المجتمعات تضرراً هي الأشد فقرا، أي التي لا تمتلك القدرة على التكيف.
هذه السيناريوهات المرعبة، تنبّه لها العالم مؤخرا، وبدأ
بمواجهتها على أكثر من صعيد، كانت المرة الأولى في مؤتمر الأرض (ريودجنيرو 1992)،
التي اتفق فيه العالم على مدى جدية وخطورة التغير المناخي، وأهمية اتخاذ خطوات
عملية لمواجهته والتكيف مع آثاره، وقد تبنى المؤتمر حينها "اتفاقية الأمم
المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ"، التي وقعت عليها 196 دولة.
كما
تبنى هذا المؤتمر جملة من التوصيات، وطرح حلا شاملا يتلخص
بإتباع مسارين متلازمين، هما: الحد من انبعاث الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري،
وذلك بتحسين كفاءة استخدام التقنيات منخفضة الكربون، والحد من التلوث البيئي، وتقليل
الاعتماد على الوقود الأحفوري، وحفظ الغابات، والاعتماد أكثر فأكثر على مصادر
الطاقة الخضراء المتجددة. المسار الثاني هو التكيف مع آثار ومظاهر التغير المناخي،
وبما أن الدول النامية هي الأشد ضعفا إزاء التكيف؛ بالتالي فهي بحاجة ماسة
لمساعدتها في هذا الشأن؛ فقد أوصى المؤتمر بتقديم الدعم اللازم لها عبر خطة تمتد
إلى العام 2020.
بعد
مؤتمر "الريو" توالت المؤتمرات بشكل شبه سنوي، كان أبرزها مؤتمر
"كيوتو" عام 1997، الذي تبنى "بروتوكول كيوتو" لإلزام الدول
الصناعية بتخفيض إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة بمتوسط 5% حتى العام 2012، ووقعت
عليه 192 دولة (امتنعت الولايات المتحدة عن التوقيع). وفي العام 2009 دعا "تفاهم
كوبنهاغن" إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة، هي: منع ارتفاع حرارة الغلاف الجوي
لأكثر من درجتين مئويتين، ورصد 30 مليار دولار كمساعدات للدول الفقيرة لمواجهة
التغير المناخي على مدة ثلاث سنوات، وزيادتها لتصل إلى 100 مليار دولار سنوياً
بحلول العام 2020.
وفي
العام 2010 عُقد مؤتمر "كانكون" في المكسيك، وفيه تمت الإشارة إلى ضرورة عمل
تخفيضات كبيرة في الانبعاثات العالمية بهدف الحد من زيادة متوسط درجة الحرارة
العالمية من 1.5 ° إلى 2 °م، وقياس الانبعاثات الناجمة عن إزالة
الأحراج وتدهور الغابات في البلدان النامية والإبلاغ عنها، كما اتفق على إنشاء "الصندوق
الأخضر" للمناخ. وفي العام 2011 عقد مؤتمر "ديربان" في جنوب
أفريقيا، وفيه تم الاتفاق على تشغيل الصندوق الأخضر للمناخ. وفي العام 2012 عقد
مؤتمر "الدوحة"، الذي أصدر حزمة من القرارات يشار إليها بـِ "بوابة
الدوحة للمناخ"، وتتضمن هذه القرارات تعديلات على "بروتوكول كيوتو"
لتحديد فترة التزام ثانية. وفي العام 2013 عقد مؤتمر "وارسو"، الذي قرر إنشاء
"آلية وارسو" الدولية حول الخسائر والأضرار، و"إطار وارسو"،
وهو عبارة عن سبعة قرارات متعلقة بالتمويل والترتيبات المؤسسية والقضايا المنهجية
الخاصة بالمبادرة المعززة لخفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الأحراج وتدهور
الغابات في البلدان النامية. وفي العام 2014 عقد مؤتمر "ليما" في
البيرو الذي دعا إلى "نداء ليما للعمل المناخي" لوضع الأساس
لِ"اتفاق باريس".
واستكمالا للمؤتمرات السابقة، ستعقد
في "باريس" الدورة الحادية والعشرين لاتفاقية المناخ، في ديسمبر 2015،
والذي أمامه أربعة أهداف رئيسية، وهي: تقديم لمحة عامة عن آخر التطوّرات العلمية
المحرزة بشأن تغيّر المناخ، واستطلاع المسارات التي تجمع بين التخفيف من حدة تأثير
تغيّر المناخ والتكيّف معه، والتنمية المستدامة، وتقييم إمكانيات إيجاد الحلول
الناجعة، والإسهام في حوار المجتمع العلمي.
وحسب معطيات "الوكالة الدولية
للطاقة"؛ فإن سلة استهلاك الطاقة في العالم تغيرت بعد العام 1973 بحيث تراجعت
حصة النفط من 46 % إلى 32 % لصالح النووي، الذي زاد من 1 % الى 5 %، وأصبح الحديث
اليوم عن تسابق الدول الكبرى لقيادة قاطرة الطاقات المتجددة، وستستعى فرنسا في قمة
المناخ أن تتزعم هذه القاطرة.
التحدي الأهم التي ستجابهه القمة، هي
إلزام الدول الصناعية على اعتماد التقنيات منخفضة الكربون، والحد من التلوث
البيئي، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والتوقف عن اجتثاث الغابات، خاصة
وأن اقتصاديات هذه الدول تتحكم بها كبريات الشركات العابرة للقارات، والتي تعتمد
أرباحها "الخيالية" على هذه "المخالفات"، وقد جعلت الكوكب
يدمن على استهلاك النفط. والتحدي الثاني هو تقديم الأموال اللازمة لدول العالم
الثالث لتمكينه على التكيف، مع كل ما يحمله هذا المسعى من أبعاد اقتصادية
واستعمارية.
أنا شخصيا غير متفائل بقدرة مؤتمر
باريس على إحداث الاختراق المطلوب.
نشرت هذه المقالة في جريدة الأيام 30-11-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق