يشكل المسلمون حاليا الأغلبية الساحقة من تعداد
سكان الأرخبيل الأندونيسي البالغ نحو مائتي مليون إنسان، وهم بذلك أكبر كتلة بشرية
مسلمة ليس في شرق آسيا وحسب، بل وفي العالم. ولا تعطينا كتب التاريخ أية أخبار عن
فتوحات إسلامية وصلت تلك المنطقة، فقد توقفت جيوش الأمويين والعباسيين ومن هم بعدهم
عند حدود الصين، ولم تجتازها. إذن، كيف اعتنق الأندونيسيون الإسلام ؟! الأدبيات
الإسلامية (التي أتيح لي الاطلاع عليها) تقول أن أندونيسيا ومناطق شرق آسيا دخلت
الإسلام بفضل التجار المسلمين. فإلى أي مدى هذه المقولة صحيحة ؟ طبعا هنا لا نشكّك
بأخلاق التجار، ولا بصحة إسلام أهل أندونيسيا؛ بل نطرح بعض التساؤلات للوصول إلى
حقائق تاريخية.
المنطق السائد على مر التاريخ ولدى كل
المجتمعات هو أن للتجار وظيفة أساسية من النادر أن يشذو عنها، وهي تحقيق الربح،
فلماذا وكيف شـذَّ التجار المسلمون عن هذه القاعدة ؟!
بداية، لنتفق على أن حركة التجارة الدولية
قديما تختلف كليا عن أسلوبها الحالي؛ فقد كانت تتطلب سفر التاجر (المصدِّر) مع
قافلته وبضاعته إلى البلد المقصود، الأمر الذي يتيح له التعامل وجها لوجه مع
التجار المستوردين، مع فرصة المكوث في البلد المستورد بضعة أيام قبل العودة، بمعنى
أن تعامله سيقتصر على فئة التجار، وسيتركز الحديث عن صفقات البيع، أما بقية الشعب
فسيتعامل معهم كغريب بحوار مقتضب في أغلب الأحيان، لعدم وجود لغة مشتركة. والسؤال
هنا: هل تحولت صفقات التجارة إلى مؤسسة دعوية ؟ هل كان برفقة التجار رجال دين
متفرغون للدعوة ؟ إذا كان الجواب نعم؛ فإن الفضل يعود لهم وليس للتجار، وإذا كان
الجواب لا؛ فعلينا البحث في تاريخ المنطقة، لمعرفة السبب الحقيقي الذي أدى لدخول
الأندونيسيون في الإسلام، سيّما وأن قوافل التجار المسلمين نفسها وصلت للبلاد
المحيطة بأندونيسيا ولم تدخل شعوبها في الإسلام، إلا على مستوى قبائل صغيرة هناك
وهناك، تكاثرت مع مرور الزمن وصارت أقليات في بلدانها.
للوصول إلى إجابة، لنطرح مزيدا من
الأسئلة: هل كانت الأخلاق الحميدة أمرا غريبا على شعب أندونيسيا، لدرجة أن رؤيتهم تجاراً
على خُلُق دفعتهم لاعتناق دينهم ؟ هل كل التجار الذين تعاملوا معهم من الدول
المجاورة كانوا بلا أخلاق ؟! فإذا كانت أخلاق التجار مدعاة لدخول الناس في الإسلام؛
فلماذا لم ينسحب الأمر في بقية البلدان التي دخلها التجار المسلمون ؟ فمثلاً، حكم
المسلمون إسبانيا مدة ثمانية قرون متواصلة، عاشوا بين سكان البلد الأصليين،
وتواصلوا معهم بشكل مباشر، وبالطبع كان من بينهم تجّار وعمّال وعلماء ورجال دين
وقضاة وجنود وأغنياء وفقراء .... ومع ذلك، لم يدخل الإسبان في دين الله أفواجا.
وكذلك حكم المسلمون صقلية ومالطا مدة مائتي سنة، ولم يدخل أحد من السكان في
الإسلام. كما وصلت قوافل المسلمين التجارية إلى قلب أوروبا وعلى مدى قرون متواصلة،
ولم يدخل الأوروبيين في الإسلام. واليوم، يتعامل التجار المسلمون مع كافة شعوب
العالم، ومع ذلك، فإن اعتناق أفراد أو مجموعات للإسلام مسألة لا تتعلق بالتجّار
ولا بأخلاقهم الحميدة ... فلماذا وكيف ربط المؤرخون دخول شعب أندونيسيا بالذات في
الإسلام مع أخلاق التجار المسلمين ؟!
الذين يربطون بين دخول أندونيسيا الإسلام
وأخلاق التجار المسلمين، يفعلون ذلك من أجل إثبات وجهة نظر معينة، مفادها أن
الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بقوة أخلاقه .. (ومرة ثانية أؤكد على عدم التشكيك
بأخلاقية الإسلام وعدالته). هؤلاء أنفسهم لا يستطيعون الإدعاء بأن الإسلام انتشر
في وسط آسيا (إيران، أفغانستان، الباكستان ...) بفضل التجار، بل إنهم يتغنون
بالفتوحات الإسلامية، وانتصارات الجيوش الإسلامية على الإمبراطوريات والدول التي
كانت قائمة آنذاك.
الخلاصة، أن ربط أخلاق التجار باعتناق
دينهم، ربط ساذج وتسطيحي ومناف للمنطق، فضلا على أنه وهم تاريخي، له دوافع
أيديولوجية. وأعتقد أن سبب إسلام شعب أندونيسيا بالذات له علاقة بحكامهم ورؤساء قبائلهم
الذين رغبوا بتجنب مواجهة جيوش المسلمين التي وصلت حدودهم، أو أرادوا الاستفادة من
مزايا دخول الإسلام، ومن بعد ذلك فرضوا الدين الجديد على شعوبهم، لأن الشعوب على
دين حكامها، وهذه مسألة معروفة تاريخيا، ولها أبعاد سياسية؛ فمثلا دخلت شعوب الخزر
في اليهودية بسبب موقع بلادهم بين حدود
الإمبراطورية الإسلامية والبيزنطية، فقد ارتأى ملكهم (الخاقان) أن اعتناق اليهودية
سيشكل موقفا متوازنا ومقبولاً من طرفي الصراع، بحيث يجنب بلاده دخول أي منهم،
وبالتالي يُبقي على بلاده في منأى عن الحروب. بل أن انتشار المسيحية كان بفضل
اعتناق الإمبراطور قسطنطين لها، الذي أراد توحيد الإمبراطورية من خلال فرض ديانة
واحدة في ربوعها.
اليوم، لا تكتسب معرفة أسباب دخول
أندونيسا الإسىلام أي أهمية، لأنها مسألة تاريخية منتهية، تهم الباحثين بالدرجة
الأولى، ولكن المهم لنا الآن، وفي أي وقت، هو كيفية الوصول للحقائق التاريخية، وقراءة
المرويات بقليل من التمعن والتمحيص، دون الاعتماد على الأوهام، سيما وأن تلك
الأوهام تشكل الأرضية الصلبة التي قامت عليها الكثير من الأيديولوجات الحالية.
المهم أن نتعلم استخدام الأدوات العلمية والمنهج العقلي في التفكير والبحث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق