الحروب الأهلية أسوأ تجارب البشر على
الإطلاق، فهي تفوق بويلاتها وحجم دمارها أي كارثة قد تحل بأي مجتمع، حتى الحروب
النظامية؛ ذلك لأنها تستهدف كل بيت، وكل فرد، وتقود الناس إلى الجنون، وتدفعهم
لإطلاق أسوأ ما في دواخلهم، بعد أن تسعِّر نيران أحقادهم، وتجعلهم يرتدون إلى
بدائيتهم؛ فيصبحون مجرد قتلة يتربصون ببعضهم البعض.
في الحروب الأهلية، ليس القائد العسكري أو
زعيم الطائفة هو المجرم الوحيد؛ الجندي الذي يُنفّذ هو شريك في الجريمة؛ والمتعصب
الذي يحرّض، والإنسان البسيط الذي ينساق وراءه، والمثقف الذي يلوذ بالصمت، هم أيضا
شركاء في الجريمة، بل أن المجتمع بأسره يصبح متواطئا ومتورطا؛ فهؤلاء جميعا هم حطب
الحرب ووقودها ولهيبها، وبدون كراهيتهم وأحقادهم وتعصبهم لا تقوم، ولا تدوم أي
حرب.
الكثير من بلدان المنطقة جربت الحرب
الأهلية، عانت، وستظل تعاني من آلامها وتداعياتها لأمد طويل؛ لبنان عاش مأساة
الحرب خمسة عشر عاما، ولا يبدو أن الأجيال الجديدة وعت الدرس، العراق يخوض بحذر
حروبا أهلية مصغرة، قتلت وشردت الملايين، سورية على وشك الانتقال لمرحلة أكثر
وحشية من الصراع الداخلي، ليبيا واليمن تحولتا بفعل الحرب إلى دول فاشلة، ومصر على
كف عفريت، والأمثلة كثيرة. وحسب المعطيات الحالية؛ فإن حربا أهلية مدمرة قد تجتاح
منطقتنا العربية بأكملها، ستأتي على الأخضر واليابس، وستتركها أكواماً من الردم
والخراب ... وهذا السيناريو الرهيب - والذي أدعو الله بأن لا يحصل - ليس للتخويف،
بقدر ما هو استشراف للخطر القادم .. وللتأكيد على أنه لا ضمانة لأحد بأنه سينجو من
هذا الخراب، سيّما وأن الكثير من الناس لا يدركون خطورة ما يُحاك ضدهم، ولا
ينتبهون لخطورة أنماط تفكيرهم وممارساتهم التي ستسرّع في جلب الحرب بأسرع مما
يتوقعون، وستزيد من وتيرتها.
المجتمعات العربية، مثل أغلبية المجتمعات
الإنسانية، فيها الكثير من التنوعات الإثنية والطائفية، والتناقضات الطبقية
والاجتماعية والسياسية، فضلا على أنها بالأساس مجتمعات قبلية، حتى أحزابها
السياسية ومنظماتها المدنية قبلية بفكرها وممارساتها، إضافة إلى أن تاريخها مليء
بالصراعات الدموية. بمعنى أن كل أسباب الانقسام والصراع ومقومات الحرب الأهلية
حاضرة بقوة، لكنها ظلت راكدة كالجمر تحت الرماد تنطفيء وتشتعل من حين لآخر.
ربما يسارع البعض بتحميل "داعش"
كل المسؤولية عما يحدث، واعتبارها الخطر الوحيد الذي يهدد المنطقة، ولكن، في
الواقع، فإن داعش وإن كانت بمثابة الشرارة التي ستشعل هذه الحرب، وأنها تمثل الشكل
الصارخ والواضح للتطرف والإرهاب؛ إلا أن جزءاً كبيراُ مما تقترفه داعش هو نتاج
لثقافة متعصبة يمارسها المجتمع بأشكال متعددة، وهي ثقافة موجودة في المناهج
الدراسية، وفي المساجد والكنائس وحتى الجامعات، ولكن بطريقة أقل خشونة، بيد أنها
تشترك في جذر فكري واحد؛ هذا الجذر وعلى وجه التحديد يتمثل في العقلية التطهرية
العنصرية التي ترى نفسها دوما متفوقة ومتعالية على الآخرين.
هذه العقلية عادة ما تكون هي الوقود
الأساسي والمحرك الأهم لأي صراع داخلي، خاصة حين يكون صراعا طائفيا، حيث ترى كل
جماعة نفسها بأنها صاحبة الحق، وأنها الأقرب إلى الله، والغير على ضلالة يتوجب
محاربتهم. لكنها لا تصل إلى هذا المستوى دفعة واحدة؛ بل بشكل متدرج، تنطلق من
النظرة النرجسية للذات، وتنتهي بالنظرة الإقصائية للآخرين، وهذه النظرة تبدأ من
أبسط الأشياء، قبل أن تصل إلى أقصى مدى، فمثلا، يرى المسلم نفسه بأنه لا يأكل ولا
يشرب إلا طاهرا، أما "الكافر" فلا يأكل إلا اللمم، المسلم محتشم وأنيق
في لباسه، أما "الكفار" فهم شبه عراة، المسلمون يحافظون على روابطهم
العائلية، و"الكفار" يتخلصون من أولادهم بمجرد بلوغهم الثامنة عشرة ...
بمعنى أن هذه العقلية لا ترى تلك الفروقات والاختلافات بين المجتمعات الإسلامية
والمجتمعات الأخرى على أنها ظاهرة طبيعية، وأنها جزء من النسيج الإنساني الثري
بتنوعه، بل تراها فروقات كحد السيف بين الحق والباطل، بين الخير والشر ..
وفي نفس السياق، سيرى المسلم نفسه بأنه
ينتمي للديانة الوحيدة المؤمنة على الأرض بينما البقية مجرد كفار، ولن يتوقف الأمر
عند هذا التصنيف، فهو حتما سيقود إلى مستوى آخر، حيث سترى كل طائفة (من داخل
الدين) أنها الفرقة الناجية، وسواها في النار ... هذه التراتبية ستولد بطبيعة الحال
الشعور بالتعالي والتفوق، وبالتالي النظر لمن هم خارج الطائفة على أنهم ضالين،
يتوجب احتقارهم، وصولا إلى أقصى مدى من خلال ممارسة العنف ضدهم.
ولأنها ثقافة تقوم على إعلاء الذات فوق
الآخرين؛ فإنها ترفض قواعد المساواة التامة معهم، خاصة من الطوائف والأقليات، وإذا
قبلت بوجودهم، فإنها تفعل ذلك من باب التسامح، أي التفضل بالموافقة على إبقائهم
أحياء، والسماح لهم بممارسة شعائرهم وطقوسهم ولكن بشروط معينة، وهذا النوع من
التسامح في حقيقته عبارة عن تسامح الأعلى تجاه الأدنى منه، كممارسة إحسانية أكثر
منها إنسانية، انطلاقاً من الشعور بالسيطرة والتميز، وهو في حقيقة الأمر ضرب من
الإستعلاء المنطلق من الشعور بالقوة والسيطرة. التسامح الحقيقي هو القبول وعن
قناعة بأن الآخرين لهم نفس الحقوق، مهما بلغت شدة الاختلاف معهم، على قاعدة
المواطَنة والشراكة الحقيقية والعيش تحت مظلة القانون والهوية الوطنية الحديثة
الجامعة، القائمة على التنوع واحترام الاختلاف، ليس في إطار المجتمع الواحد وحسب؛
بل وفي إطار الإنسانية جمعاء.
إذن، فأهم شرط لنشوب حرب أهلية متحقق، وهو
شعور كل جماعة بأنها صاحبة الحق والفضيلة، ليأتي الشرط الثاني، وهو عدم تقبل
الآخر، إلا في إطار الخضوع والتبعية، وهذا يؤدي إلى التعصب وتفشّي الكراهية.
ولو ألقينا نظرة سريعة على واقع مجتمعاتنا
لوجدنا أن قيم التسامح وقبول الآخر، التي كانت موجودة في فترات سابقة (أي حين كان
يسود الأمن والسلم الأهلي) فإنها اليوم تكاد تكون معدومة، حتى من قِبَل من يتصورون
أنفسهم دعاة الحرية والديمقراطية .. فمثلا، الجميع (تقريبا) مقتنع بأن داعش تنظيم
دموي إرهابي، ولكن ما من أحد فكر بتفهّم دوافع هؤلاء الشبان الذين تركوا حيواتهم
وانضموا في صفوف داعش، ولم يحاول أحد تقديم الحلول التي تعيد لهؤلاء إنسانيتهم، بل
أن دوافع الانتقام هي التي كانت مسيطرة، لذلك ظهرت ممارسات من قبل بعض أبناء
"الحشد الشعبي" لا تقل وحشية عن ممارسات داعش، وهذا الأمر ينطبق تماما
على كافة الفرقاء .. الجميع لا يفكر إلا بالانتقام والثأر، وقد امتلأت النفوس
بالحقد.
ولأن المنطقة متوترة، وتشهد أعلى درجات الشحن
والاستقطاب؛ فإن قيم التسامح لم تعد موجودة حتى في أبسط الأشياء، فصارت الطوائف
والشرائح الاجتماعية والتشكيلات السياسية تتربص ببعضها، كل جماعة تكره من هم
خارجها، وتنبذ كل ما لا يشبهها، ولم يعد أحد يتحمل أي فكرة أو موقف لا يتطابق مع
أفكاره ومعاييره الخاصة. وهذه الأجواء هي الأرضية الخصبة التي لا تنبت إلا الشر
والكراهية والحروب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق