أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 21، 2015

وصية الحلبي الأخيرة


بعد أسبوع من اختفائه، وعلى إثر انبعاث روائح غريبة من المكان، تفقد الجيران منزل الأستاذ "علي بكار"، ليجدوا جثته شبه متحللة، وهو ممدد إلى جانب زوجته، وأيديهما متشابكة معاً، كان يرتدي بذلته الرمادية مع ربطة عنق كحلية، فيما ارتدت زوجته فستانا أبيضا موشحا بخطوط سوداء، ما زال يحتفظ ببعض بهائه. وقد عثر أحدهم على مجموعة أوراق خطّها الأستاذ بيده، منها رسالة الانتحار، وقد أرسلها لي بالبريد الإلكتروني، مع شرح موجز لملابسات وأسباب انتحاره، وها أنذا أعيد نشرها كما وصلتني تماما، من باب الأمانة، وإكراما لروح الفقيد:

الورقة الأولى:

"منذ شهر تقريبا، وتحديدا في اليوم الذي اقتربت فيه الدواعش من تخوم بلدتنا، وأنا أفكر بالانتحار، ما يجعلني أقف مترددا، وأؤجل الموضوع من يوم لآخر هو زوجتي المسكينة ماجدة، التي ترفض فكرة الانتحار من منطلقات إيمانية، فهي متدينة، وتعتبر الانتحار نوعا من قتل النفس التي حرّم الله، أما أنا فكانت ترعبني فكرة الموت، وتركها وحيدة تواجه أهوال الحرب، كنت أتخيل قطعان الدواعش وهم يعبثون بخزانتها، ويحطمون صورها ومراياها، ثم يقودونها إلى سوق السبايا ... لذا فإن أكثر ما يؤرقني كيف نموت معاً، كما عشنا معا خمسة وثلاثون عاما".


وفي ورقة منفصلة، وبخطٍ مختلف، كَتَب الشخص المرسِل، الذي لم يذكر أسمه (على الأرجح تحسّباً من انتقام مسلحي داعش)، شارحاً ملابسات الفترة التي سبقت حادثة الانتحار، جاء فيها:

"في الأسابيع الأخيرة، كان الأستاذ علي، على غير عادته، دائم الشرود والتجهم، قلقاً على نحو لافت، مع أنه لا يكف عن شتم المحطات الفضائية، إلا أنه يمضي ليله متنقلاً بينها من نشرة إلى أخرى، باحثاً عن أي خبر يخرجه من حالته المضطربة.

من على شرفة منزله، أمضينا الأسابيع الأخيرة نتجاذب أطراف الحديث، كنا نحدق سويةً نحو الجبل المقابل، وفي خيالنا ما وراءه من أحداث وذكريات واحتمالات، قبل أن يبدأ الأستاذ بالكلام بنيرة حزينة:

 -  أصارحكم القول، أني أرتعب كلما رأيت سيافا داعشيا يجر أحدهم من ياقته كما لو أنه سخلة، ويجعله يجثو على ركبيته بلا إرادة، ثم ينحره بدم بارد.. يا إلهي، كلما تخيلت نفسي ذلك الشخص ينتفض بدني..

يغرق الأستاذ بالصمت لبرهة، ونغرق معه جميعا، ثم يواصل حديثه بنبره يملؤها الحنين:

  - أنتم تعلمون، إني عشت حياتي معارضاً، وقد اختبرتُ السجون والمعتقلات، وكنت كل مرة أخرج أكثر صلابة، وطالما تمسكتُ بالحياة، واستمتعتُ فيها حتى في أشد لحظاتها بؤسا ... هذه المرة، أشعر أن قلبي يخذلني، ولأ أظن أن بوسعي الاستمرار.. ".

الورقة الثانية

"ربما تكون هذه أسوأ لحظة تمر بها الضيعة، الجميع مدرك أنها النهاية، مستسلم لها كقدر محتوم .. ضيعتنا باتت بلا حول، وبلا خيارات، حتى رغبة الناس بالهجرة تضاءلت، وقد أيقنوا أنه لا مفر، وكل من لديه مكان شبه آمن، تكدس أقربائه وجيرانه فيه، على أمل أن يمنحهم ذلك بعض الأمان، أو ليكون الموت عليهم أخف وطأة؛ فالموت مع الجماعة رحمة".

لكن ما غيّر الأستاذ، ودفعه نحو الانتحار، ما حدث في ضيعة "مسكنة" القريبة منا، قبل أسبوعين، حين دعت داعش كل مدرسي الضيعة, والضيع المجاورة، وجمعتهم في مسجد الإيمان (الذي حولته إلى مسجد ابن تيمية) وأخبرتهم بأنه يتعين على كل معلم حضور دورة شرعية، إضافة إلى تقديم استتابة، ومبايعة الخليفة البغدادي، وكل من يتخلف عن ذلك سيتم التعامل معه كمرتد. يعني ذبحه بعد استباحة بيته وأمواله.

الورقة الثالثة

"في السنتين الأخيرتين تراخت قبضة النظام، وصار بمقدورنا تنفس بعض الهواء، وظلت ضيعتنا لفترة ليست قصيرة بعيدة عن معارك "النصرة" و"الجيش الحر"، لم نعرف خلالها الرجم وحز الرقاب، ولا البراميل والكيماوي، ولا الطوائف والأحقاد ... لكن هذا الهدوء النسبي سرعان ما انتهى في الشهر الأخير، فجأة انقلبت الدنيا، وتغير كل شيء، وأكثر ما حيرني: أين كانت كل هذه الأحقاد مختبأة؟ من أين أتت كل هذه القسوة؟ وكيف تغير الناس بهذه السرعة؟ هل كانوا طيبين فعلاً؟ أم أني الغبي الوحيد؟".

"الصحراء تزحف على روح الضيعة، تجففها، تحيل خضارها وماءها إلى ملح .. مجرد ملح".

"وجوه غريبة تتكاثر في ضيعتنا، من كل جنس ولون، من شتى البلدان، وبكل اللغات واللهجات.. ما شاء الله، كلهم متحدون وراء هدف واحد، أتوا من أطراف الأرض وأقاصيها لتحقيقه: تعليمنا الأدب، وفرض الحشمة على نسائنا، وتطهير ضيعتنا من الكفرة!".

يواصل صاحبنا حديثه عن الجلسة الأخيرة التي غيرت كل شيء في حياة الأستاذ، ووضعت نهاية لتردده:

 - أبو حجر، ما غيرو، حارس المدرسة، صار أسمه الشيخ أبو القعقاع، ويا ويل اللي بناديه باسمه القديم، سيجلده بلا رحمة.
  - والمفاجأة، أنه أبو حجر، قصدي أبو القعقاع، صار مدير المنطقة التعليمية، ويوم الجمعة وقف قدام الناس، وصار يخطب: نعلن براءتنا من تعليم المناهج الباطلة، والكتب النصيرية، ومن اليوم وطالع ما في نشيد وطني وعَلَم وطابور صباح، وعلاك مصدي .. هدا كله من بقايا العلمانية والكفر .. بس بتصدق، طلع بيزبط خطيب!
  - كتير أشياء تغيرت: مدرسة تشرين، التي درّست فيها عشرين سنة، صار اسمها "مدرسة أبو مصعب الزرقاوي..".
  - كيف بدك إياني، وقف قدام طلابي، واعترف لهم إني كنت كل السنين اللي فاتت كافر ولعين والدين، واليوم الله هداني وصرت مسلم ؟!.
  - طيب شو نعمل ؟ رح يمنعونا نستلم رواتب من الدولة، والحضور إجباري على الأساتذة والطلبة، وما في شي اسمه متقاعدين .. وهدول ما بتفرق معهم، وما عندهم رحمة..

الورقة الرابعة

"أنا سأموت، ولكني لن أنسى، ولا أريدكم أن تنسوا؛ النسيان خيانة، سأختصر عمري كله بهذه الوريقات، سأخط عليها أوجاعي ومخاوفي، وذكرياتي، والتي هي ذكريات الخوف، ربما الخوف وحده الأقدر على أن يكون تاريخا موازيا لتواريخنا المزيفة، الخوف هو ظلنا ونحن نسير في طرقنا الموحشة، التي لا تفضي إلا إلى الخيبات".

"ليس سهلا أن تكتب وصيتك الأخيرة، وصيتك التي لن توصي فيها شيئا، لأنه ما عاد هناك ما يستحق أن يُقال .. سأكتب عن أحلامنا التي ظلت رهن التأجيل، عن آلامنا التي أحسها تتكدس الآن دفعة واحدة، تنتظر أن تغادر مرة أخيرة، وللأبد .. ليس سهلا أبدا أن تكتب بين ألسنة اللهب، وأنت في قاع الجحيم".

"الألم الذي اختبرته في الأسبوع الأخير، لم يختبره أحد من قبل، أشدّ ما يؤلمني نظرات ماجدة، وهي ترمقني بالحب والحنين تارة، وبالوجع والحزن تارة أخرى .. نتبادل حديثا صامتا مفعما بالوجد، وفي داخل كلٍ منا حريقا يكفي غابة .. إذا صمتتْ تقتلني بصمتها، وإذا تحدثت تسري رعشة في جسدي تهزني هزاً .. فنبدأ بالنشيج معا، لم أعد أخجل من دموعي، فربما كانت أصدق اعتذار ..".

الورقة الأخيرة

"منذ أسبوع بدأت أضيف نوعا من السم بجرعات محددة إلى قهوتها الصباحية، مع كل يوم، أرى صحتها تتدهور شيئا فشيئا، وجنتيها تضمران، شعرها يتساقط، تسعل بقوة، تنتابها موجات غثيان وصداع شديدين، تتألم ببطء، ولكن بكبرياء، صامتة تماما، تنظر إلي بحزن، وشرود .. يبدو أنها كانت تعلم ما كنت أفعله، لكنها متواطئة مع مؤامرتي الحقيرة.

اليوم، السادس عشر من أيار، صحونا مبكرين، طلبتُ من ماجدة أن ترتدي فستانها الأبيض الأثير الذي كانت ترتديه كل عيد، استجابت دون تردد، لكنها بدت فيه أنحف قليلا، شربنا قهوتنا الصباحية .. كانت فيروز تغني "ليلية بترجع يا ليل"، في حياتي كلها لم أرَ صباحا يشبه هذا الصباح، قمتُ بسقاية جميع الأصص التي ربيناها معاً، ولم أنسى أن أقطف قصفة ريحان، وأقربها من أنف ماجدة، لتأخذ بدوره نفسا عميقا، شهيا .. كان هذا آخر ما فعلناه سوية.
  قبل الظهر بقليل كانت ماجدة قد أسلمت روحها لبارئها .. حملتها إلى سريرها، غطيتها برفق .. ثم تمددتُ إلى جوارها وشربت قنينة السم الخاصة بي دفعة واحدة، على الأكثر سأحتاج سويعات قليلة، قبل أن أغادركم للمرة الأخيرة.

ستسامحني ماجدة، لأني ضمنت لها نهاية هادئة، بلا دماء، ولا أشلاء، ولأننا سنموت جنبا إلى جنب، بكرامة .. وكعاشقيْن ..".

علي بكار الحلبي
ضيعة جب الحمام – حلب الشهباء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق