في
بدايات عصر النهضة، وحتى قبيل الثورة الصناعية، مرَّ العالم بما عُرف آنذاك بحقبة
الاكتشافات الجغرافية، وهي الحقبة التي وصل فيها الأوروبيون
إلى مناطق جديدة، كانت مجهولة لديهم حتى ذلك الوقت. بدأت الرحـلات الاستكشافية في
أواخر القرن 15 وبداية القرن 16 الميلادي؛ وقد ترافقت تلك
الرحلات مع بدايات تطور الملاحة البحرية وابتكار سفن الكرافيل الشراعية
واستعمال البوصلة والإسطرلاب وخرائط البورتلان. لعل أهمها رحلة "فاسكو
دي كاما" إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح، ورحلة "كرستوفر كولومبوس" إلى
جزر الأنتيل بأمريكا الوسطى، ورحلة "أمريكو فيسبوتشي" إلى
سواحل فنزويلا والبرازيل، ورحلة "ماجلان" إلى الفلبين. وقد أفضت هذه
الرحلات وغيرها إلى اكتشاف العالم الجديد، (الأمريكتين وأستراليا). وكان الهدف
العام منها اكتشاف طرق جديدة للتجارة الدولية، تحت شعار اكتشاف الكرة الأرضية، ونشر
المسيحية وقيم العالم المتحضر للشعوب "البدائية"؛ لكن الهدف الحقيقي
منها هو إقامة المستعمرات، ونقل خطوط التجارة العالمية من البحر الأبيض المتوسط
إلى المحيط الأطلسي، وجلب المواد الخام وخاصة القطن والحرير والتوابل والذهب. وكان وصول التجّار والإرساليات التبشيرية بمثابة
الخطوة الأولى للاستعمار، حيث يتبعه إنشاء شركات، أو الادعاء بفرض الحماية، ثم
يبدأ الاستيلاء على الأراضي الجديدة، واستيطانها وتحويلها إلى مستعمرات زراعية. وقد ترافقت تلك الرحلات مع حملات إبادة جماعية للسكان
الأصليين في المناطق المكتشفة، أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على حضاراتهم، كما
حصل مع الهنود الحمر، وسكان أستراليا، وحضارات الأنكا والمايا والأزتيك.
وقد شهدت أوروبا حينها تحولات اقتصادية عميقة؛ حيث
بدأت بعمليات انتقال تدريجي من الزراعة التقليدية إلى التجارة والخدمات، ثم
إلى التصنيع، كما اختبرت تحولات اجتماعية مهمة أدت إلى تراجع نفوذ الإقطاع،
مع نمو متصاعد للبورجوازية، وتشكُّل الطبقات، ترافقت مع تحولات فكرية على أكثر من
مستوى، أهمها انتشار الحركة الإنسانية والفنون، أما على المستوى السياسي فقد
أخذت أسس الدولة الحديثة بالتشكل. في تلك المرحلة الكولونيالية، تصاعدت الصراعات
بين أهم القوى، حيث خاضت فيما بينها سباقا محموما على استعمار المناطق الجديدة، فتمركزت
المستعمرات البرتغالية في سواحل إفريقيا وآسيا بالإضافة إلى البرازيل، بينما
تمركزت المستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية، في حين اقتسمت انجلترا
وفرنسا النفوذ الاستعماري في أمريكا الشمالية وكندا، وطبعا في إفريقيا.
في هذه القراءة السريعة، سنتناول أهم الرحالة
المستشكقين، والجرائم التي اقترفوها بحق الشعوب. وسنبدأ بِ "كولومبوس"،
المتهم بمقتل ربع مليون إنسان من السكان الأصليين، خلال عامين فقط.
كانت خطة "كولومبوس" تقضي باكتشاف طريق
جديدة للهند لا تمر عبر الرجاء الصالح، لكنه ضل الطريق فوصل بالصدفة إلى جزر
الكاريبي، ولم تطأ قدماه شبراً واحداً من أراض أمريكا، حيث أعماه بريق الذهب ولم
يواصل رحلاته، ليصل إلى المكسيك والولايات المتحدة وكندا. ومع ذلك، الغريب أن اسمه
اقترن باكتشاف أمريكا، بل ويجري هناك تكريم سنوي له في 12 أكتوبر من كل عام، اليوم
الذي صار عطلة رسمية في أكثر من دولة.
اتخذ "كولومبوس" من الدين ذريعة؛ فاعتبر
أن أرواح الهنود الحمر ليست أرواحا إنسانية، بل حيوانية، ولا تستحق نعمة الحياة،
ولا يشملها الخلاص الإلهي. وقد اقترف ورجاله في جزر الكاريبي فظائع همجية قل
نظيرها في التاريخ، منها وتصفية عشرات الآلاف من السكان لمجرد تعرضهم للزكام، أو لأي
مرض بسيط، خشية العدوى. وتقديم أجسام الضحايا طعاماً للكلاب التي استخدموها في حملاتهم.
في جزر بويرتوريكو، وجمهورية الدومينيكان وهايتي، سخَّر السكان الأصليين من قبائل
"الأراواك" و"تاينو" بما لا يطاق، وقام باستعبادهم، واستغلالهم
في الإنتاج الزراعي، وفي التنقيب المضني عن الذهب، وطلب من كل من بلغ ال 14 من
عمره أن يحضر مثقال كشتبان من الذهب، ومن كان يرفض، أو يعجز عن ذلك كان يأمر بقطع رأسه،
أو أذنيه، أو إحدى يديه مع تعليقها من عنقه، وتركه ينزف حتى يموت، وهكذا قتل أكثر
من 20 ألفا في "بورتوريكو" وحدها. وفي عامين قضى 250 ألفاً من السكان
الأصليين في هايتي وجوارها من الجزر، في انتحارات جماعية، حتى أن أمهات قتلن
أطفالهن لتجنبيهم الاضطهاد.
بعد افتضاح سيرته الدموية، أُلغي تكريم
"كولومبوس" في دول أمريكا اللاتينية، بل وصارت تنظَّم مظاهرات شعبية في ذكرى
غزوه البلاد في كل 12 أكتوبر، للتنديد بِه، والمطالبة بمحاكمته كمجرم حرب، وقد حطّمت
الجماهير في السنوات الأخيرة تماثيل كثيرة له، خصوصاً في فنزويلا وبوليفيا
والأرجنتين، وأشهرها كان في كاراكاس.
المستكشف
الثاني هو المغامر الهولندي "جان فان ريبيك"؛ أول أبيض تطأ قدماه أراض
جنوب إفريقيا، ليؤسس من بعدها أسوأ نظام فصل عنصري عرفه التاريخ. كان "ريبيك" يعمل في "شركة الهند الشرقية الهولندية"، وعلى
أثر قضية فساد طالته، رُحِّل إلى هولندا، وفي طريق العودة للوطن، رسا الأسطول
الهولندي عند رأس الرجاء الصالح. وبعد أن قضى "ريبيك" بعض الوقت على
الشاطئ للاستراحة والتموين، أصبح بعدها مقتنعاً بأن هذا البلد يجب ان يكون مستعمرة
هولندية، فأقنع شركته بأفكاره؛ فأقام في "الكيب تاون" وشرع بوضع أفكاره هناك
موضع التنفيذ. وكانت خطته في البداية زراعة بستان خضراوات، وبناء قلعة حماية، وشراء
بعض الأبقار من السكان المحليين. كان وصول "فان ريبيك" إلى "الكاب"
في السابع من نيسان سنة 1652، وهو اليوم الذي ظلَّ السكان البيض - أثناء فترة
الحكم العنصري - يحتفلون به كلحظة تاريخية مؤسِّسة في تاريخ البلد، فيما كان السود
يلعنون هذا اليوم، ويعتبرونه يوم بِدْء استعمارهم وخسارتهم بلادهم وحريتهم لأكثر
من ثلاثة قرون تالية من هذا اليوم. بعد سقوط نظام الفصل العنصري، أبقت
الحكومة على تمثاله للذكرى فقط، لكن الاحتفالات بهذا اليوم ألغيت.
المستكشف الثالث "أمريكو
فيسبوتشي"، البحار الإيطالي المخادع الذي سرق الأضواء من الادميرال الإسباني "الونسو
أوجيدا"، قائد الرحلة الحقيقي. يُنسب إليه اكتشاف أمريكا الجنوبية،
وفي حقيقة الأمر لم يكن اكتشافا، بقدر ما كان غزواً واحتلالا لأراض الغير، حيث كان
يقيم في تلك البلاد وقبل مجيئ "أمريكو" و"كولومبس" بآلاف السنين,
الملايين من الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين، الذين بهذا "الاكتشاف"
طُويت صفحتهم للأبد؛ حيث كانت رحلات هؤلاء "المستكشفين" مقدمة لغزوة
أوروبية همجية ستقتل خلال مرحلة قصيرة ملايين الهنود الحمر، من خلال حملات تطهير
عرقي راح ضحيتها أعدادا لا حصر لها ولا عد؛ فضلا عن جلب ملايين الأفارقة، والتسبب
بمقتل نصفهم في المحيط، واسترقاق من تبق منهم.
في
كتاب التاريخ، صفحات كثيرة مزورة، ومجرمين كثُر تم تكريمهم، واعتبارهم أبطالا
وفاتحين، وهم في حقيقة الأمر مجرد قتلة، مهووسين بالدماء، مدفوعين بالطموح الشخصي
الذي لا يعرف الرحمة. وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لتاريخ العالم الحقيقي،
ومحاكمة هؤلاء "الفاتحين" على جرائمهم ضد الإنسانية، بدلا من التغني
بفتوحاتهم وغزواتهم التي دفع ثمنها الفقراء والناس العاديون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق