غادرنا أريحا بعيد الظهر، صعودا إلى رام الله، في الطريق
السريع، قبل الخان الأحمر بقليل، عرجنا يميناً باتجاه وادي القلط، طريق معبّدة متعرجة
بانحناءات حادة، تطلُّ في كل دقيقة على منظرٍ جديد، تحيط بها التلال من كل
الاتجاهات. شعرنا كما لو أننا دخلنا الوادي المفقود، لا سيارات ولا بشر، لمسافة
تصل نحو عشرة أميال، تزداد وعورة الطريق شيئاً فشيئا، وتزداد معها عزلة المكان،
إلى أن وصلنا مدخل الدير؛ ثلاثة أقواس حجرية باسقة، تقف على رأس منحدر حاد يتعذر
على السيارات نزوله، فإما أن تنزل الوادي لنصف ساعة من المسير، أو تصعد الجبل؛ اخترنا
أن نترجّل صعوداً، وبدأنا المسير في درب ترابي بالكاد يتسع لشخصين، (لا ينصح من
يعاني رهاب المرتفعات سلوكه)، في بعض الانحناءات الخطرة ثُبتت مجموعة من القضبان
الحديدية التي تتصل ببعضها بأحبال لتحمي من السقوط.
من على هذا الدرب الخطر، تسير نحو 500 متر، لتجد نفسك في آخر
الدرب فجأة وقد انتقلتَ إلى عالم آخر، دفعة واحدة من دون إنذار؛ ستطل على منظر من
النوع الذي لا يُنسى، كما لو أنه مفاجأة كانت بانتظارك: إلى الشمال والغرب وتحت
قدميك مباشرة وادي سحيق ينزل إلى الأسفل مئات الأمتار، وصولا إلى ممر ضيق تناثرت
على جنباته بعض الشجيرات والنباتات البرية، وشجرة سنديان عتيقة ضاربة
الجذور، هذا الوادي عندما يمتلئ بمياه الأمطار يصبح
واحدا من أجمل وديان العالم .. في الجهة المقابلة تماما، وفي فضاء مفتوح، ينتصب
جدار صخري مهيب، بارتفاع يزيد عن المائة متر، ويمتد لأميال عديدة، منحته أشعة
الشمس لون النحاس والبرونز، فيما نحتت فيه الرياح عبر آلاف السنين ما لا حصر له من
الكهوف والتجاويف الصخرية .. منظر خلاب، يحبس الأنفاس ..
في هذا الفضاء السابح بين الجبلين، وعلى كتفي الوادي لا تجد إلا
الصمت .. صمتٌ يؤكد على عذرية المكان، وعلى تواصله مع الزمن السحيق .. صمت لا
تخدشه سوى زقزقة عصافير صغيرة بألوان الشفق، وصدى بعيد لنسمة لطيفة تداعب وجوه
التلال .. في هذا السكون الرهيب أفضل ما تفعله هو التأمل .. وأن تغرق بالصمت .. وتستمتع
بالدهشة، أما بقية الكائنات فهي تواصل انتظار الربيع، إلى أن ينبثق الماء من من
بين شقوق الصخر؛ فترِدُ قطعان الغزلان وماعز الجبل وبعض الثديات الأخرى، وأسرابا
من الطيور .. لتروي ظمأها، وتنعم بالهدوء ..
في وسط هذا الجدار الصخري، ينتصب دير "السان جورج"،
كما لو أنه لوحة معلقة على جدار، في منظر بديع فريد، يُطبع في الذاكرة على الفور،
ليبقَ فيها للأبد، أول ما تراه تتساءل بعفوية: كيف بُني هذا الدير ؟! وأي فنان قدّه
من الصخر !؟ وأي جبابرة بنوه في هذا المكان الذي تعزله عن العالم ممرات وعرة لا يسلكها إلا الوحوش
والضواري والطيور الجارحة !؟ من يسكن هذا الدير ؟! وكيف وصلوا هنا أصلاً !؟ كيف يتعايشون مع كل هذا الصمت والسكون ؟! إذا كنا كذلك في وضح
النهار، فكيف يكون المشهد في حلكة الليل ؟ كيف يكون شعورهم، وهم خارج الكوكب كله
؟!! وهل حقا قوة الإيمان أقوى من كل الصعاب ؟!
هذا الانحدار الطبيعي
من الهضاب الباسقة، والجرف الصخري الضخم، الممتد على مسافة ثلاثين ميلا بين أريحا
والقدس، يسمى "وادي القلط"؛ يبدأ من تل السلطان بالقرب من أريحا، وصعودا
إلى "عين الفوار"؛ هذا النبع العجيب، الذي تتدفق منه المياه مرة كل
عشرون دقيقة وتتجمع في بركة، (وحسب الأسطورة المحلية يعيش تحت النبع عفريتان من
الجن منشغلان في معركة أبدية)، ثم تأتي "تلول أبو العلايق"، ليواصل الوادي مسيره، في رحلة مدهشة، تختبر فيها
ثلاثة مناخات مختلفة، وترى خلالها عشرات الكهوف والينابيع والبرك الطبيعية، الصخور
الجذابة والقنوات المائية، وآلاف الزهور الجميلة، مكان مدهش مثير، مثالي لهواة
التصوير، وعشاق المغامرة.
في هذا الوادي الكثير من الكنائس والأديرة، وهي مكونة أساسا من
الكهوف الطبيعية، سكنها الرهبان والنساك للتفرغ للعبادة، أو هرباً من الاضطهاد
الديني، خاصة في فترات الحروب وغزوات الفرس للبلاد، كما توجد آثار تعود للحقبة البيزنطية، وبعض الكهوف التي تحوي
بقايا فسيفساء قديمة، ما يدل على حركة نشطة للحجاج وللرهبان القدامى. وأيضا توجد القناة
الرومانية الأصلية، والتي أمر ببنائها الملك "هيرود" لجلب الماء من عين الفوار
إلى قصره وحديقته الشتوية. معظم هذه الأديرة بنيت ما بين القرنين الأول والخامس للميلاد، أقدمها دير
"السان جورج" أو دير "وادي القلط"، وأيضا "دير القرنطل"
المنحوت في جرف صخري شاهق قبالة تلة السلطان، (أقدم حاضرة إنسانية تعود للألف
السابعة قبل الميلاد)ـ تصله إما بالتلفريك، أو تسلقاً.
باختصار، مكان مثير، جدير
بالاكتشاف، ويستحق عناء الزيارة، هو دليل صارخ على جمال فلسطين. أتمنى لكم رحلة
ممتعة شيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق